منذ سنوات تضجّ وسائل الإعلام بتصريحات مسؤولين ينادون باستصدار قوانين ومراسيم لمكافحة الفساد، حتى يكاد لبنان يصاب بـ«تخمة» تشريعية بعد استصدار العديد من القوانين، بما يؤكد أن هذه لم تصدر لمكافحة الفساد، وإنما تلبية لمزاعم نشدان الإصلاح المزعوم. صُوّرت المشكلة في نقص القوانين، في حين أنها تكمن في جشع المسؤولين ورغبتهم في تكديس مزيد من الأموال. اليوم، نعيش أجواء الذكرى السنوية الثالثة لصدور قانون مكافحة الفساد في القطاع العام (أيار 2020)، وفي المناسبة نتذكر محاسن «أموات قوانيننا». إذ لا يحتاج تنفيذ هذه القوانين إلى قرار من أحد، بل هي واجبة التنفيذ. ولا يمكن التذرّع بشغور منصب رئيس الجمهورية ولا بحكومة مكتملة الأوصاف، بل بالقضاء الذي يضم بين جنباته الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، علماً أن كليهما مستقلان قانوناً عن السلطتَيْن التنفيذية والتشريعية

(أنجيل بوليغان)


كانت الحجة الأولى لعدم مكافحة الفساد غياب التعريفات والمصطلحات الواضحة في القوانين السابقة حول التصريح عن الثروة، لا سيّما قانون «الإثراء غير المشروع» الرقم 154/1999. فصدر قانون «التصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع» الرقم 189 تاريخ: 16/10/2020، وتضمّن شرحاً تفصيلياً لكل ما يحتاجه القضاة والمحامون والباحثون القانونيون حول تعريف الموظف العمومي والموظف العمومي الخاضع للتصريح (المادة الأولى، فقرة 1 و2). وفصّل آلية تقديم التصريح ومضمونه ومواعيد تقديمه دورياً (المادة 4 و6)، كما وضع عقوبة صريحة في حال عدم تقديم التصاريح إذ يُعدّ «تقديم التصاريح المنصوص عليها في هذا القانون شرطاً من شروط تولّي الوظيفة العمومية والاستمرار فيها واستحقاق وقبض الرواتب والتعويضات وسائر الحقوق المالية لجميع الفئات المعددة في تعريف الموظف العمومي الخاضع للتصريح»، ويُعدّ «مستقيلاً حكماً كل من لا يُقدّم التصريح..» (المادة 7، فقرة أ وب). كذلك أفرد مادة لعقوبة التصريح الكاذب (المادة 9)، وأورد فصلين حول عناصر جرم الإثراء غير المشروع وأصول الملاحقة الجزائية والمداعاة المدنية (الباب الثالث).
(راجع «القوس»، 17 أيلول 2022، سين جيم: «الإثراء غير المشروع»)

مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية
صدر قانون «مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» في أيار 2020، بموجب القانون الرقم 175/2020 تاريخ: 8 أيار 2020. مرت ثلاث سنوات، ولا شيء يذكّر اللبنانيين بصدور هذا القانون أو يشعرهم بوجوده سوى بعض المحاضرات القانونية والتعيينات التي أمّنت توازناً بين المسلمين والمسيحيين.
لا يمكن للمصارف أن تتذرع بالسرّية المصرفية المنصوص عليها في القانون القديم وعليها أن تقدّم كل المعلومات المطلوبة فور تلقيها طلباً من القضاء المختص

في بداية العام 2022، تم إرساء هذا التوازن الطائفي عبر تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بموجب المرسوم الرقم 8742 تاريخ: 28/01/2022، لا سيّما المادتَين الخامسة والسادسة من القانون أعلاه. لكن ما يقرأه اللبنانيون ينحصر بمراسيم وقرارات، أوّلها: قرار وزير المالية في حزيران من العام 2022 بإدراج فصل في الموازنة العامة في باب الهيئات الوطنية المستقلة تحت تسمية الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بموجب قراره 437/1. وثانيها: مراسيم لفتح اعتمادات آخرها بقيمة ستة مليارات لمصلحة الهيئة لسداد الرواتب وبعض النفقات الجارية عبر نقل اعتماد من احتياطي الموازنة العامة إلى موازنة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بموجب المرسوم الرقم 9929 تاريخ: 26/08/2022.



حماية كاشفي الفساد على الورق
قبل خمس سنوات، في العام 2018 صدر قانون «حماية كاشفي الفساد» الرقم 83 تاريخ: 10/10/2018، وقد عُدّل هذا القانون في العام 2020 وأجاز للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، عفواً أو بناءً على طلب كل ذي مصلحة، أن تطلب من النيابة العامة المختصة أو القوى الأمنية المختصة اتخاذ الإجراءات الأمنية المناسبة لحماية كاشف الفساد أو أحد أفراد عائلته والعاملين لديه، أو الخبراء والشهود، إذا تبيّن لها أنهم بحاجة إلى حماية شخصية من ضغوط أو أعمال ثأرية حصلت أو يخشى حصولها. ويتوجب حينئذ على النيابة العامة والقوى الأمنية الاستجابة للطلب فور استلامه بالوسائل المتاحة، كما يستفيد كاشفو الفساد من كل أحكام هذا القانون إذا تقدموا بكشفهم إلى النيابة العامة المختصة إضافة إلى الهيئة، كما يستفيد كاشفو الفساد والشهود الخبراء والضحايا من الحمايات التي نصّت عليها أحكام جميع فقرات الفصل السابع - مكرر (المواد 370 - 2 إلى 370 - 6) من قانون أصول المحاكمات الجزائية المضافة بموجب قانون «معاقبة جريمة الاتجار بالأشخاص» الرقم 164/2011. ورغم ذلك، لا يؤمن اللبنانيون بهذه الحماية ولا يذكرون أن سطراً من هذا القانون قد استُند إليه في أي دعوى من أي نوع كانت لحماية كاشفي الفساد، أو أن المحاسبة قد بدأت فعلاً. العبرة إذاً، في النيّة والرغبة الصادقة (المفقودة) لمكافحة الفساد، وعلى اللبنانيين البحث لإيجاد من يرغب فيها بصدق.

إلغاء السرّية المصرفية لموظفي القطاع العام
بات للقضاء المختص، بموجب القانون الرقم 306/2022، الحق بطلب معلومات من المصارف عن أيّ من المعرّضين سياسياً، ولم يعد الموظف العمومي يتمتع بالسرّية المصرفية رغم أن القانون يحيل الأمر، في حال التقاعد أو ترك المنصب، إلى القانون الرقم 175، أي قانون «مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد».

وأصبحت أحكام السرّية المصرفية لا تُطبّق بالنسبة إلى:
1- الموظف العمومي: وهو أي شخص ملزم بتقديم تصريح الذمة المالية المنصوص عليها في القانون رقم 189/2020 ويؤدي وظيفة عامة أو خدمة عامة، سواء أكان معيّناً أم منتخباً، دائماً أم مؤقتاً، مدفوع الأجر أم غير مدفوع الأجر، لدى أي شخص من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص، على المستويَيْن المركزي واللا مركزي، وبشكل عام أي شخص يؤدي عملاً لصالح ملك عام أو منشأة عامة أو مرفق عام أو مؤسسة عامة أو مصلحة عامة أو مال عام، سواء كان مملوكاً، كلياً أو جزئياً، من أحد أشخاص القانون العام، وسواء تولاها بصورة قانونية أم واقعية، بما في ذلك أي منصب من مناصب السلطات الدستورية أو أي منصب تشريعي أو قضائي أو تنفيذي أو إداري أو عسكري أو مالي أو أمني أو استشاري، والأزواج والأولاد القاصرون، والأشخاص المستعارون، و/أو المؤتمنون و/أو الأوصياء، و/أو صاحب الحق الاقتصادي.
2- رؤساء الجمعيات والهيئات الإدارية التي تتعاطى نشاطاً سياسياً، وهيئات المجتمع المدني، كما وأزواجهم وأولادهم القاصرون، والأشخاص المستعارون، و/أو المؤتمنون و/أو الأوصياء و/أو صاحب الحق الاقتصادي، والمرشحون للانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية كافة، من خلال تملكات متسلسلة أو وسائل سيطرة غير مباشرة متسلسلة أخرى أو خارجها، عملاً بالقوانين المرعية.
3- رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومدراؤها التنفيذيون ومدققو الحسابات الحاليون والسابقون، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية.
علماً أن مفاعيل رفع السرّية تبقى سارية على المذكورين فيها حتى بعد تاريخ استقالتهم أو إنهاء خدماتهم أو إحالتهم على التقاعد، وذلك عن طيلة الفترة التي كانوا يتولّون فيها مهامهم أعلاه ولمدة خمس سنوات إضافية بعدها. (المادة 2، الجديدة).
من جهة ثانية فإن المادة (7) الجديدة من القانون المتعلق بسرّية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956، والمعدلة بالمادة الأولى من القانون الرقم 306/2022، تنصّ على أنه لا يمكن للمصارف المشار إليها في المادة الأولى أن تتذرع بسر المهنة أو بسرّية المصارف المنصوص عليها في هذا القانون، وعليها أن تقدّم جميع المعلومات المطلوبة فور تلقيها طلباً من:
أ‌- القضاء المختص في الدعاوى المتعلقة بجرائم الفساد وجرائم تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ودعاوى الإثراء غير المشروع المقامة استناداً إلى قانون «التصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع».
ب‌- هيئة التحقيق الخاصة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
ت‌- الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
د‌- الإدارة الضريبية بهدف مكافحة التهرّب الضريبي.
هـ‌- مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع.

التدقيق الجنائي: رفع السرّية الممتد
بعد أن عُلّق العمل بأحكام قانون سرّية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956 لمدة سنة واحدة، بداية بموجب القانون الرقم 200 تاريخ: 29/12/2020، عُلّقت السرية المصرفية إلى أجل غير مسمى، وذلك لحين انتهاء أعمال التدقيق الجنائي. إذ مُدد العمل بالقانون الرقم 200/2020 المنشور في العدد 51 من الجريدة الرسمية تاريخ: 31/12/2020، إلى حين انتهاء أعمال التدقيق الجنائي المشار إليه في القانون المذكور، وذلك بموجب القانون الرقم 279 تاريخ: 07/03/2022.
--
3 أسئلة

إسكندر نجّار: رفض تسليم سلامة يجرّد المذكرة من فعاليتها

1. هل صدرت مذكرة توقيف دوليّة بحق رياض سلامة؟
أود التشديد بدايةً على أنني لا أسمح لنفسي بالتطرق إلى أساس النزاع لأن القضية لا تزال قيد النظر أمام القضاء، إلا أنني سأقدّم بعض الإيضاحات التقنيّة حول الإجراءات القضائية الراهنة.
أصدرت قاضية التحقيق في باريس أود بوريسي (Aude Buresi)، مذكرة توقيف دوليّة بحق الحاكم كونه تغيّب عن جلسة التحقيق في 16 أيار 2023. إلا أن وكيل الحاكم تحفّظ لجهة عدم تقيّد القضاء الفرنسي، بحسب قوله، بالمهل المفروضة لإبلاغ المشتبه فيه المتواجد في الخارج.



2. ‎ ما هي تبعات هذا القرار على أي متّهم في دعاوى مشابهة وهل للقضاء اللبناني دور في هذا الملف أم أنه ينحصر بالقاضي الواضع يده على الملف؟
ترفض بعض البلدان تسليم مواطنيها المشتبه فيهم والملاحقين دولياً، ومنها لبنان، ممّا يجرّد مذكرة التوقيف الدوليّة من فعاليتها. فالقانون اللبناني لا يجيز تسليم مواطن لبناني إلى بلد آخر. وعندما ترد مذكرة توقيف دوليّة عبر النشرة الحمراء لمنظمة الإنتربول، يطلب القضاء اللبناني إلى الجانب الأجنبي أن يرسل إليه ملف القضية كاملاً، فإذا ارتأى أن الجرائم المنسوبة إلى المواطن اللبناني ثابتة ويُعاقب عليها القانون اللبناني، فيمكن محاكمته على أساسها أمام المحاكم اللبنانية.
القضية اليوم بعهدة القضاء الفرنسي الذي يمكنه مراسلة السلطات القضائية اللبنانية للطلب إليها التعاون معه، ضمن إطار قواعد المساعدة القضائية الدولية، كما حصل عندما سهّل القضاء اللبناني استجواب عدة شهود في لبنان من قِبل قضاة أجانب.
في مطلق الأحوال، إن مذكرة التوقيف هذه ستعرقل حتماً تحركات المشتبه فيه، إذ يمكن أن يُصار إلى توقيفه في أيّ مطار في حال تعميم المذكرة، لا سيّما في أوروبا.

3. هل القرار قابل للطعن؟ وهل الطعن يوقف تنفيذه أم هو واجب التنفيذ قبل بتّ الجهة المطعون أمامها به؟
يمكن للقاضي استرداد مذكرة التوقيف في أيّ وقت. كما يمكنه إصدار قراره الظنّي وإحالة المشتبه فيه أمام المحكمة المختصّة. وإن صدور هذا القرار يرفع يد قاضي التحقيق عن الدعوى العامة. من جهته، يستطيع المشتبه فيه الطعن بالقرار الذي طاله في حال عدم مراعاة هذا القرار للأصول القانونية، لا سيّما الشكليّة، أو عدم وجود مبرر له، وقد أعلن الوكيل الفرنسي للحاكم عن نيّته اللجوء إلى مثل هذا الطعن.


«الفساد يتسبّب بالفقر وينتهك حقوق الإنسان ويقوّض الديموقراطية ويشكل عائقاً أمام النمو الاقتصادي ويتسبّب بالضرر البيئي وبالصحة العامة، كما أنه إحدى أدوات الجريمة المنظمة» (من الأسباب الموجبة لاقتراح قانون حماية كاشفي الفساد الرقم 83/2018).


«تنظر كل دولة طرف في أن تُدخل في صلب نظامها القانوني الداخلي تدابير مناسبة لتوفير الحماية من أي معاملة لا مسوّغ لها لأي شخص يقوم، بحسن نيّة ولأسباب وجيهة، بإبلاغ السلطات المختصة بأي وقائع تتعلق بأفعال مُجرّمة وفقاً لهذه الاتفاقية». (المادة 33 «حماية المبلّغين» من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد المصادق عليها بموجب القانون الرقم 33 تاريخ: 16/10/2008).