«العدالة البطيئة تساوي عدالة معدومة»، فكيف الحال حين لا يكون وجود للعدالة أصلاً. منذ نحو أربع سنوات والعدالة في لبنان مغيّبة بسبب الإضرابات المتعاقبة بين موظفين وقضاة، ومحامين أحياناً، إضافة إلى فترة الإقفال القسري أثناء جائحة كورونا. رغم ذلك، كانت الإضرابات سابقاً تترك كوةً صغيرة في جدارها، بحيث يُستثنى الموقوفون والقضايا ذات صفة العجلة، على عكس إضراب القضاة الأخير المطلق (منذ شهرين تقريباً) الذي لم يستثنِ أياً من القضايا، وحوّل المحاكم أروقة خالية يلفّها الظلام.تعطيل قضايا الموقوفين يرتّب تعسفاً وإحتجازاً للحرية مخالفاً للقوانين يرتب مسؤوليات كبرى على الجسم القضائي لما يحمله من بعد إنساني، كما أن الكثير من القضايا والملفات المجمّدة منذ ما يقارب أربع سنوات تكبّد أصحابها أضراراً فادحة، نتيجة الإضرابات المتلاحقة. فمن يعوّض هؤلاء عن الخسائر اللاحقة بهم، وعن حجز الحرية من دون وجه حق؟ وهل يمكن مداعاة القضاة أو الدولة عن ذلك؟ والأهم كيف يمكن إستعادة الثقة بهذا المرفق، وإقناع المواطن بالإحجام عن تطبيق شريعة الغاب؟
السجون قاب انفجارٍ أو أدنى. موقوفون يتكدّسون داخل أماكن الإحتجاز يوماً بعد يوم، نتيجة تعطيل مرفق العدالة، المعتكف إلّا عن إصدار إشارات ومذكرات توقيف. فالقضاة منذ أكثر من شهرين قرروا «الإنتفاضة من أجل تحصيل حقوقهم» بعدما تآكلت رواتبهم نتيجة الأزمة المالية، فأشهروا سيوفهم تجاه المتقاضين وأعلنوا الإعتكاف الشامل والمطلق. قد يفهم البعض أحقية مطالب القضاة، سيّما لناحية مطالبهم لتحسين الرواتب التي لم تعد تكفي لتلبية الحد الأدنى من تكاليف الإنتقال إلى المحكمة. ولكن ما لا يُفهم كيف يمكن أصلاً إصدار مذكرات توقيف والامتناع عن إصدار قرارات أخرى؟ والسؤال الأهم ألا يُعتبر عدد لا يستهان به من القضاة مسؤولاً عمّا وصلت إليه البلاد حالياً من أزمات نتيجة تراخيهم بالبت في قضايا الفساد؟
مهما يكن، فإنه بإمكان القضاة تسيير الحد الأدنى من مرفق العدالة المتهالك، وهو ما يفعله عدد قليل منهم. فالمظلومية اللاحقة بالموقوفين الذين تجاوزت مدة توقيفهم المهل القانونية لم تعد تحتمل، وهناك موقوفون من دون وجه حق صدرت قرارات بإخلاء سبيلهم قبيل إعلان الإعتكاف، إلا أنه لم يتم التوقيع على إشعارات إخلاء السبيل (وهو إجراء يُتخذ بعد أن يدفع الموقوف الكفالة المحددة)، فبقوا موقوفين ريثما يوقع على إشعار متعلق بقرار متخذ سابقاً!
كما ان اعتكاف قضاة الجزاء حرم كثيرين من حريتهم نتيجة عدم البت في ملفاتهم، بحيث تجاوزت مدة التوقيف مدة محكوميتهم. فمنهم من لم تصدر أحكام بحقهم في مواعيدها نتيجة الإعتكاف، ومنهم من أوقف بجنحة بسيطة، لا تتجاوز مدة توقيفهم خمسة أيام قانوناً وما زالوا حتى اللحظة قيد الاعتقال. علاء، مثلاً، واحد من هؤلاء، أوقف أوائل آب الماضي بجرم تعاطي المخدرات، وكان يفترض أصلاً ألا يتمّ توقيفه عملاً بتعميم سابق صادر عن النائب العام التمييزي، طالما تعهد بخضوعه للعلاج. صحيح أنه غالباً ما لا يعمل بهذا التعميم، إلا أن مدة التوقيف إذا حصلت لا تتجاوز عشرة أيام كحدٍ أقصى، غير أن علاء يقبع في السجن منذ أكثر من شهرين مع كثيرين ممن ينتظرون عودة العدالة من اعتكافها.
من جهة أخرى، ينتظر كثيرون من الموقوفين انعقاد الجلسات للبت في ملفاتهم، والحكم عليهم سيما في القضايا حيث يصعب إستصدار قرارات إخلاء سبيل بحقهم. ونتيجة تعليق الجلسات بسبب الإضراب تتكدس الملفات، ويطول حكماً أمد المحاكمات، وتالياً مدة التوقيف وتختنق السجون بالموقوفين يوماً بعد آخر.
وإلى القضايا الجزائية التي تشمل الموقوفين، هناك مئات الآلاف من الملفات التي ينتظر أصحابها البت فيها لتحصيل حقوقهم، وهي ملفات ذات طابع مدني، وقد باتت بحكم المجمّدة منذ بداية الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد، والإضرابات المتعاقبة، وجائحة الكورونا، وأصبح البت بها مؤجلا إلى أجلٍ غير مسمى، ما يكبد الكثير من المتقاضين خسائر جسيمة، سيّما في ظل التدهور الدراماتيكي لسعر صرف الليرة. حتى أن الكثير من القضايا التي أقيمت قبيل الأزمة ولم يُبَت بها حتى الآن للأسباب المذكورة، باتت تكاليف التقاضي (بدل تبليغات، أتعاب محامين، بدلات نقل...)، تساوي أكثر بكثير من قيمة الحق المطالب به، ما سيعرضها بالتأكيد للإهمال، وتالياً لخسائر كبيرة في الحقوق.
ألا يُعتبر عدد لا يستهان به من القضاة مسؤولاً عمّا وصلت إليه البلاد من أزمات يعانون منها نتيجة تراخيهم بالبت في قضايا الفساد؟


تجدر الإشارة أن الإضراب في مرفق العدالة ليس أمراً جديداً. إذ لجأ إليه المساعدون القضائيون مراراً في السابق، وأحياناً القضاة، كذلك المحامون. ولكن، دائما كان يُستثنى الموقوفون وقضايا العجلة (بإستثناء الإضراب الذي أعلنه نقيب المحامين ملحم خلف والذي أوجب على المحامين تقديم إستدعاء للنقابة من أجل التقاضي). أما إضراب القضاة المستمر منذ نحو شهرين فهو الأقسى كونه يشمل كل الدعاوى، ويأتي بعد سلسلة إضرابات دمّرت الجسم القضائي، وأفقدت الثقة بهذه السلطة، فبات الناس يلجأون إلى إستيفاء حقوقهم بالذات، وتحوّلت المحاكم أروقة مقفرة ومهملة.

هل يمكن مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة؟
لا شكّ في أن مواصلة القضاة إضرابهم سيلحق أضراراً فادحة بالمتقاضين، وهو ما سيعتبر استنكافاً عن إحقاق الحق. وهذا، بحسب البند الأول من المادة 741 أصول محاكمات مدنية، يخوّل أصحاب الحق مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القاضي بعد إنذاره مرتين للقيام بواجبه. إلّا أن هذه الدعوى التي ينبغي أن تقام أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز تبقى بلا جدوى لأكثر من سبب. فمع افتراض أن قضاة هذه الهيئة عدلوا عن اعتكافهم، إلا أنه من غير المنطقي أن يحاسبوا زملاءهم القضاة، سيّما إذا كان أعضاء الهيئة أنفسهم مشاركين في الاعتكاف. كما أن المادة 751 تجيز للقاضي المنسوب إليه سبب الدعوى (الاستنكاف عن إحقاق الحق) التدخل في المحاكمة في أي وقت لإبداء أقواله والمطالبة بالتعويض ضد المدعي عند الإقتضاء، الأمر الذي يدفع المتضررين حكماً إلى العدول عن تلك الفكرة، سيّما أن الكفّة لا تميل لمصلحتهم بسبب غياب مبدأ الشفافية وإستقلالية السلطة القضائية التي تمكن أي متقاض من تحصيل حقه، ولو عبر مخاصمة القضاة أنفسهم، ما يجعل تطبيق هذه المواد في الحالة هذه غير ذي جدوى. وفقاً لكل ما تقدم، لا تنقص لبنان قوانين لحماية حقوق المواطنين، ولكن تنقصه آليات للتطبيق بعيداً عن الحسابات السياسية والطائفية التي تقف حجر عثرة أمام أي خرق نحو دولة العدالة والقانون واحترام حقوق الانسان.