انتهاكات «إسرائيل» للحقوق الأساسية للأسرى الفلسطينيين، بما في ذلك التعذيب والقمع والاعتداء وتقليص حصص الغذاء، لطالما كانت تحت الأضواء. وتضاف إليها جريمة الإهمال الطبي الممنهج لنحو 600 مريض فلسطيني في سجون الاحتلال وحرمانهم من العلاج الطبي المناسب، ومن بين هؤلاء ٢٠٠ على الأقل يعانون من أمراض مزمنة و٢٣ مصابون بالسرطان وأورام خبيثة.المماطلة في تقديم العلاج والإهمال الطبيّ المتعمّد والمعاملة اللا إنسانية تعدّ كلها انتهاكاً جسيماً للمواثيق الدولية وحقوق الإنسان. ولا تقتصر انعكاساتها السلبية على من يقبعون داخل السجون فقط، بل تطال الأسرى المحررين الذين سقط كثير منهم شهداء بعد تحررهم (73 أسيراً محرراً قضوا منذ عام 1967) بسبب الإهمال الطبي والتعذيب اللذين تعرضوا لهما أثناء الاعتقال. وقد ارتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة، الأسبوع الماضي، إلى 231 باستشهاد الأسير موسى أبو محاميد بسبب الإهمال الطبي. فيما يحتضر الأسير المريض بالسرطان ناصر أبو حميد الذي ترفض سلطات الاحتلال الإفراج عنه.

علاج «بضرّ ما بينفع»
«السجون الإسرائيلية تحوّلت مستشفيات كبيرة تضم مئات المرضى من دون علاج أو أدنى مقومات حياة»، هكذا يصف الأسير المحرر مالك القاضي الواقع الصحي للأسرى في سجون الاحتلال. ويضيف: «الأسير، منذ البداية، معرض للقتل بسبب الضرب المبرح والتعذيب أثناء التحقيق. أما داخل السجون فكل الظروف مهيأة لقتله بشكل كامل أو الإجهاز على أعضائه الداخلية من خلال الرطوبة التي تنخر عظام الأسرى أو أجهزة التشويش المركّبة في كل غرفة مع ما تبثه من إشعاعات خطيرة أو وحدات القمع». ومع تدهور صحة الأسير، فإن أقصى ما يمكن أن يتلقاه من علاج هو فحص دم عادي CBC، يجريه أحد الجنود السجانين. وبغضّ النظر عن خطورة حاله الصحية، يتم نقله إلى المرحلة الثانية من عملية التصفية الطبية داخل السجن. ويوضح القاضي أن هذه المرحلة «ترتكز على مد الأسير بأنواع من الأدوية المجهولة المصدر والفائدة والضرر، إما عن طريق الوخز بالإبر أو الحبوب لفترات طويلة. وأمام عملية العلاج العشوائية، هذه لا يملك الأسير خيار العلاج من عدمه».

كفن متحرك
تُستكمل فصول المعاناة، خلال عملية نقل الأسير من السجن إلى المستشفى عبر «البوسطة» التي تحولت إلى وسيلة انتقام، يستغلها الاحتلال للتمادي في إجرامه واعتدائه الوحشي على الأسرى المرضى والجرحى، لا سيما عبر قوات القمع الاجرامية «نحشون». يصف الأسير المحرر عملية النقل هذه بـ«الكفن المتحرك»، حيث «يكون الأسير مقيّد اليدين والقدمين، جالساً على حديد شديد البرودة لمسافات طويلة». ويتعمد الاحتلال تنفيذ عملية النقل يوم الخميس، فيكون الأسير مضطراً لأن يقبع في «المعبار» ايام الخميس والجمعة والسبت، يتعرض خلالها للضرب المبرح من عناصر وحدة «نحشون».
وتشكل هذه «المماطلة» خلال عملية نقل الاسير وإطالة مدة انتظاره في «المعبار» (أقسام مؤقتة خُصصت لاحتجاز الأسرى لفترة معينة قبل نقلهم إلى المحاكم أو الى سجن آخر أو إلى المستشفى) خطراً على حياة الأسرى، كما جرى مع الشهيد سامي العمور الذي قضى اثناء نقله إلى المستشفى بعدما أصيب بوعكة صحية، وتم احتجازه في معبار بئر السبع - «إيشل» لـ14 ساعة متواصلة، ما أدى إلى استشهاده قبل وصوله إلى المستشفى.

(أ ف ب)


«مسلخ الرملة»
حتى حزيران 2022، بلغ عدد الأسرى المحتجزين داخل «عيادة سجن الرملة» 18 وفق هيئة شؤون الأسرى والمحررين. ويقبع في «عيادة سجن الرملة» بين 14 و16 أسيراً بشكل دائم، يعانون من ظروف صحية ومعيشية قاسية، بينهم مصابون بجروح نارية، وآخرون يعانون من أمراض مزمنة وأورام خبيثة واعاقات جسدية.
يتألف هذا السجن المحاط بسور عالٍ من أربع غرف تضم أسرّة حديدية أو اسمنتية. ويقيم مع الأسرى المرضى بشكل دائم أسير أو اثنان لمساعدة الأسرى المرضى على الحركة وتقديم العلاج الأولي والإسعافات الأولية. وتفتقر «العيادة» إلى الكادر الطبي وأطباء متخصصين. وفي كثير من الأحيان يُنقل الأسرى المرضى، بعد مماطلة طويلة، الى مستشفيات مدنية لإجراء الفحوصات أو للمعاينة.
يفتقر «مسلخ الرملة»، كما يطلق عليه الأسرى، إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية. فالسجن قديم وغير مهيأ لاستقبال الأسرى المقعدين من حيث مكان الفورة (ساحة السجن) والحمامات، كما لا يوجد مطبخ لطهي الطعام داخل الغرف. وهو يفتقر إلى المعدات والأجهزة الحديثة، فأجهزة الغسيل الكلوي قديمة جداً، وتقتصر المعدّات على الشاش والمعقمات، أما الدواء فواحد: مسكّنات لكل الأمراض حتى السرطان. ومن بين الأسرى الذين احتجزوا فيه لسنوات واستشهدوا، بسام السايح، سامي أبو دياك، كمال أبو وعر، وغيرهم ممن عانوا من السرطان لسنوات، لذا يعدّ سجن الرملة بالنسبة لكثير من الأسرى المحطة الأخيرة قبل الاستشهاد.
أساليب العلاج وسوء الظروف الصحية وطبيعة المبنى والتجهيزات، كلها توظف لكسر الأسير معنوياً ونفسياً


يشير الأسير المحرر مالك القاضي الذي خاض إضراباً عن الطعام استمر 74 يوماً عام 2016 رفضاً لاعتقاله الإداري، ونقل في اليوم الـ54 إلى عيادة سجن الرملة، إلى أن هذا السجن هو بمثابة «المستشفى المركزي» لكل سجون الاحتلال نظراً لانخفاض كلفته. ويلفت إلى أنه مع غياب المساءلة والرقابة، يجد الاحتلال في القتل العمد عبر الإهمال الطبي طريقة أسهل للتخلص من الفلسطينيين. ويستطرد: «الجميع هناك سجانون من عتاة المستوطنين، فالكادر الطبي وأساليب العلاج وطريقة التعامل وسوء الظروف الصحية وطبيعة المبنى والتجهيزات، كل هذه الأدوات توظف لكسر الأسير معنوياً ونفسياً».

الأسيرات والحوامل ليسوا استثناء
لا يراعي الاحتلال خصوصية الأسيرات المرضى والجرحى والحوامل، فتطالهن أيضاً سياسة الإهمال الطبي الممنهج، وتعتبر الأسيرة إسراء جعابيص انعكاساً واضحاً لهذه الانتهاكات. فالأسيرة المعتقلة في العام 2015 أصيبت عند اعتقالها بحروق من الدرجة الثالثة في نصف انحاء جسدها، وفقدت نتيجة هذه الإصابة 8 من أصابع يديها، ورغم ذلك لا يُقدّم لها سوى المسكنات، وتمتنع إدارة السجن عن توفير الرعاية الصحية المناسبة لحالة الاسيرة، ذلك بالإضافة الى حرمانها من عمليات جراحية لإعادة فصل الأطراف الملتصقة ببعضها البعض، ومعالجة ما تبقى من أصابع اليدين، الأمر الذي يفاقم حالتها الصحية. كما رفضت مصلحة السجون "الإسرائيلية" في السابع من حزيران من العام الجاري، تمويل عملية الأنف لإسراء بحجة أن "العملية تجميلية وغير ضرورية لصحتها".
وتعتبر الأسيرة سعدية فرج الله (68 عاماً)، شاهدة اخرى على سياسة الإعدام والقتل الطبي، فرغم ما ظهر على فرج الله من تدهور صحي بالإضافة إلى المشاكل الصحية التي كانت تعاني منها سابقاً، فقد نقلت لعيادة السجن ثم لأحد مشافي الاحتلال، وأعيدت بعد حوالي الأربع ساعات إلى القسم حيث أكدت إدارة السجن أن جميع نتائج الفحوصات التي أجريت لها كانت سليمة، ولم يجدوا أي «شيء مخيف»، نافين حصول اية جلطة دماغية وبالتالي لم تتلقّ أي علاج، لتستشهد على إثرها بعد عدة أيام في الثاني من تموز من العام الجاري.

مع غياب المساءلة والرقابة يجد الاحتلال ان القتل العمد عبر الإهمال الطبي طريقة أسهل لقتل الفلسطينيين


 كما تشمل سياسة الإهمال الطبي المتعمد الأسيرات الحوامل اللواتي يعانين سوء التغذية والرعاية الصحية، ويشملهنّ التعذيب الوحشي وأبرز مثال على ذلك الأسيرات زكية شموط، فاطمة الزق والأسيرة منال غانم التي فقدت إحدى جنينيها إثر التعذيب. فغرف اعتقال الأسيرات تفتقر إلى الحد الأدنى من البيئة الصحية، فلا نور شمس ولا تهوئة ولا تغذية مناسبة، ولا عناية طبية للوالدة أو الجنين. ولا تتحسن هذه الظروف مع اقتراب موعد المخاض، فالأسيرة تترك في آلام المخاص لساعات قبل أن تنقل للمستشفى مكبلة الأيدي والأرجل وتبقى كذلك حتى لحظة الولادة. ولا تنتهي هذه الظروف بانتهاء عملية الولادة، بل تمتد إلى ما بعد ذلك، حيث يعاد تقييدها بالسلاسل لتنقل وطفلها إلى سجنها.



«المعبار»
عند نقل الأسرى من السجون والمعتقلات إلى قسم «المعبار» في الرملة، يحتجزون هناك لساعات طويلة داخل أقفاص ضيقة المساحة، قذرة، مكتظة، باردة جداً في فصل الشتاء وحارة في الصيف. لا يتسع قسم المعبار سوى لثمانية أشخاص، لكن إدارة المعتقل تتعمد زجّ أكثر من 20 أسيراً في تلك المساحة المحدودة، من دون مراعاة للأسرى المرضى وكبار السن، ما يُجبر الأسرى على «المناوبة» بالوقوف والجلوس وفقاً للمساحة المتوفرة.


« نحشون»


تعتبر وحدة «نحشون» من أعنف الوحدات العسكرية «الإسرائيلية» وأكبرها، إذ تضم عسكريين ذوي أجسام قوية وخبرات وكفاءات عالية جداً، سبق لهم أن خدموا في وحدات حربية مختلفة في جيش الاحتلال «الإسرائيلي»، ويمتلك أعضاؤها مهارات قتالية تقنية من بينها استخدام الأسلحة والمعدات المختلفة، إلى جانب القدرات القتالية البدنية اللازمة للمواجهة والاصطدام المباشر وقمع الأسرى، وسبق لهذه الوحدة أن تسببت في مقتل عدة أسرى، ومنهم الأسيران رائد الجعبري ومحمد الأشقر.

انتهاك «جينيف الرابعة»
يمعن الاحتلال في انتهاك حقوق الأسرى المكفولة بموجب الاتفاقيات والمواثيق الدولية في ما يتعلق بحق المعتقلين بتلقي العلاج اللازم والرعاية الطبية، حيث كفلت اتفاقية جنيف الرابعة في المواد (76) و(85) و(91) و(92) حق الأسرى بتلقي الرعاية الطبية الدورية، وتقديم العلاج اللازم لهم من الأمراض التي يعانون منها، وتنص على وجوب توفير عيادات صحية وأطباء متخصصين لمعاينة الأسرى.