صحيح أن ملف الاحوال الشخصية شكّل القضية المركزية لناشطي المجتمع المدني منذ عشر سنوات، إلّا أنه لم يحدث أي خرق يذكر. فما وصلنا إليه من بعض التعديلات الخجولة (كرفع سن الحضانة لدى المذهب السني) هو نتيجة الضغط السياسي وليست نتيجة الحاجة والضرورة المجتمعية، الامر نفسه الذي ما زال عصياً على الخرق أمام المحاكم الجعفرية وبعض المحاكم الروحية بتمييز واضح ولامساواة بين أبناء الطائفة الواحدة.ضمن المشهد نفسه والبيئة ذاتها، تحلل زيجات وتُحرم اخرى، تُسهل طلاقات وتُعقد اخرى (بحسب الوضع الاجتماعي أو السياسي لأحد الطرفين أو كلاهما)، من دون أن نتمكّن من الرجوع الى نص جامع أو قضاء واحد حاسم يطبق قواعد العدل والانصاف بين جميع أبناء الرعية.
يعتبر سن الحضانة لدى كافة الطوائف من اكثر القضايا اثارة للجدل. فعلى الرغم من تعديله لدى بعضها، الا ان الامر ما زال صعبا ومعقداً كما هي الحال لدى الطائفة الجعفرية، بسبب تعدد الاجتهادات عند الشيعة وعدم قدرة القاضي الشرعي على الاجتهاد الا اذا كان من الفقهاء المجتهدين، والا فهو ملزم بالرجوع الى الفقهاء الاكثر اجتهاداً.

(هيثم الموسوي)

قضية الحضانة أثير حولها العديد من الاشكالات ونظمت لأجلها عشرات الوقفات الاحتجاجية أمام المحاكم الجعفرية التي نالت حصة الأسد من الاتهامات بانتهاك حقوق المرأة والطفل. ولسنا هنا في معرض نقاش هذه الوقفات وخلفيات بعضها وهل أصابت في خدمة أصحاب القضية أم لم تصب.
هذه الاشكالات تبين ضرورة توحيد الاجتهاد في هذه المسائل الانسانية التي ركز عليها قاضي محكمة صيدا الشرعية السنية الدكتور محمد أبو زيد باعتبارها أموراً قابلة للنقاش وبالامكان توحيدها، كسن الحضانة (للاطلاع على نص لقاء القاضي أبو زيد ....) لتتوافق مع حاجات ومتطلبات المجتمع بما يضمن الحفاظ على القيم والأخلاق. فالقيم والأخلاق هي القاعدة التي ننطلق من خلالها في مقاربة كل موضوع وشرح أي نص وتحليله.
هذا الواقع جعلنا نبحث عن باب يصل بنا الى قانون موحد للاحوال الشخصية لا يلغي الشريعة ولا يهادنها، بل يعمل على خلق وعي مدني ينطلق من مبادئ القيم والأخلاق سواء كنا أصحاب فكر ديني أو علماني.

دمج الديني بالمدني
في لبنان أمثلة عن تمازج النصوص الدينية مع النصوص المدنية من دون أي تعارض، وبقبول تام من المؤسسة الدينية، لأن في الأمر مراعاة لتسهيل شؤون المواطنين، كالميراث مناصفة بين البنت والصبي في الاراضي الأميرية التي تخضع لأحكام القانون المدني وليس للاحكام الشرعية في الارث لدى الطائفة الاسلامية كمثال الاراضي الملك، والطائفة المسيحية تخضع في إرثها للقانون المدني وللمحاكم المدنية.
وبالعودة الى عقود الزواج بالامكان تنظيم عقود زواج مدنية تنتج عنها كافة مفاعيل العقود لجهة الالتزامات المتبادلة بين الفريقين، ويتحمل العطل والضرر الفريق الذي يخلّ بأي بند من بنود الاتفاق. هذه الإتفاقيات تحدد أسس المؤسسة الزوجية كما تنظم آلية حل إشكالياتها فتتضمن بنوداً مضمونها أهم من قوانين مدنية عدة، مع الحفاظ على طابعها الديني في مجتمع كالمجتمع اللبناني كخطوة أولى نحو المدنية الكاملة. وقد تسجل أمام المحاكم الشرعية الجعفرية والسنية عشرات إتفاقيات الزواج التي بدأت تغير مفهوم المجتمع لشكل هذا الزواج وتضع ضوابط جديدة له تواكب تطور المجتمع.

إتفاقية الزواج
عندما يقرر فريقان تأسيس شراكة بينهما يحددان منذ بدء الشراكة مسؤوليات كل شريك في الاعمال وفي الربح والخسارة.
هذا هو المبدأ الذي تنطلق منه عقود الزواج المدنية، فهل بالامكان صياغة إتفاقية زواج مضمونها مدني ولا تخالف النصوص الشرعية؟
تسجل امام المحاكم الشرعية الجعفرية والسنية عشرات الاتفاقيات التي أدرجت بنودها في صلب عقود الزواج وتضمنت بنودا خارجة عما هو مألوف تقليدياً، ولم يعارض قضاة الشرع ما ورد فيها لانها لم تخالف الشرع الذي أعطى المرأة والرجل كامل الحق في صياغة شكل زواجهما بالرضى والقبول والاحترام المتبادل، بالاتفاق على كل تفاصيل حياتهما وعلى شكل الانفصال في حال لم تنجح هذه العلاقة، من دون تغليب طرف على طرف، واضعا المودّة والرحمة قاعدة مركزية لهذا الزواج. ولم نشهد هذه الظاهرة امام المحاكم الروحية التي أدخلت جلسات التأهيل السابقة للزواج الكنسي بشكل إلزامي كالكنيسة المارونية من دون إدراج أي بنود إضافية في عقد الزواج.

على ماذا يمكن أن يتفق الزوجان؟
على سبيل المثال، سنذكر بعض المواضيع الاساسية التي بالامكان الاتفاق عليها في صلب عقد الزواج، والتي تبين مدى وعي طرفي العقد للدخول الى هذه المؤسسة، لأن الازمات الاجتماعية التي نعيشها ليس سببها شكل عقد الزواج ولا القانون الذي يحكمه سواء كان دينيا أم مدنيا، إنما أصل الازمات يكمن في جهل قوانين الاحوال الشخصية وشروط تكوين الاسرة.
قد تبدأ الاتفاقية ببند أول يحدد شكل العلاقة بأنها «تشاركية بين الفريقين في بناء مؤسستهما الزوجية والحفاظ عليها واستمرارها والسعي لتقديم الأفضل لانجاح هذه المؤسسة على كافة الصعد المادية والمعنوية والنفسية والاجتماعية».
كما بإمكان الطرفين أن يتفقا على انجاب الاولاد، وعلى كيفية حضانتهم وإعالتهم، وعلى كل ما يتعلق بتربيتهم، وإمكانية الاتفاق على التشارك في الاحتياجات المالية بحسب دخل كل طرف. ومن أهم البنود التي من الضروري ورودها في اتفاقية الزواج، وهو حق للمرأة كما للرجل، قرار إنهاء هذا العقد وفض الشراكة (العلاقة الزوجية) التي لا يمكن لا شرعا ولا قانونا إجبار أي طرف فيها على البقاء في شراكة تسبب له الخسارة (عاطفية ومعنوية ونفسية ومادية) أو لم يعد يرغب فيها. ومقابل الاتفاق على العصمة عند السنة يمكن تضمين العقد الموقع في المحاكم الجعفرية بنداً يتفق فيه الطرفان على ان تكون الزوجة وكيلة زوجها في تطليق نفسها.
من الممكن تنظيم عقود زواج مدنية تنتج عنها كافة مفاعيل العقود لجهة الالتزامات المتبادلة بين الفريقين


«اتفق الفريقان على أن تكون الزوجة وكيلة عن الزوج في طلاق نفسها، وقد أعطى الزوج زوجته بموجب هذه الاتفاقية توكيلا بطلاق نفسها ساعة تشاء وهذا الحق في صلب عقد الزواج».
هذا مثال عما قد تتضمنه إتفاقيات الزواج، وقياسا عليها تنظم إتفاقيات الطلاق بعيدا عن الكيدية وتسجيل النقاط، واضعين مصلحة الفرد والعائلة نصب أعيننا في كل قرار، لنصل الى مجتمع يجعل من الانسان مهما كان فكره أو إنتماؤه قيمة أساسية للاسباب الموجبة لأي قانون.
من خلال هذه الرؤية التي قدمتها جمعية «ألف باء القانون» في ملف الاحوال الشخصية الذي نشر في ملحق «القوس» على مدى ثلاثة أسابيع، نحاول الوصول الى طرح مشروع قانون موحد للاحوال الشخصية قابل للتحقق في ظل المعوقات العديدة التي تضعها التركيبة الطائفية اللبنانية الفريدة. إضافة الى مشروع النيابة العامة الأسرية، ستنظم الجمعية بالشراكة مع ملحق «القوس» وعدد من الباحثين القانونيين وقضاة شرعيين وروحيين ومذهبيين طاولة نقاش لهذه الأفكار للوصول الى مشروع قانون يكون نتاج أفكار ورؤى لبنانية داخلية تراعي التنوع الطائفي والمذهبي والعلماني المتشكل منه المجتمع اللبناني، وبالامكان وضعه على الطريق الصحيح نحو إقراره في مجلس التشريع كخطوة أولى ومهمة في مسار النضال نحو إلغاء النظام الطائفي.