قبل ثلاث سنوات، سطع نجم فريق «درب عكار». كان للحرائق التي اندلعت على امتداد البلاد الدور الأبرز في تحوّل الفريق إلى عنصرٍ أساسي في أي خطةٍ توضع لمكافحة الحرائق. لكن، قبل أن تتحول «وظيفة» الفريق نحو الإطفاء، كان هاجسه الأساسيّ التعريف بعكّار، المنطقة الشمالية النائية التي تضمّ أجمل الغابات وأكبر المساحات الحرجية في لبنان، فنشأت على إثر ذلك في عام 2011 مجموعة تضمّ عدداً من أبناء المنطقة كان حلمهم إنعاش منطقتهم والتعريف بها بعدما اختزلت إعلامياً بكونها إحدى أفقر المناطق في لبنان.هكذا، بدأ فريق «درب عكار» بسلسلة من الأنشطة البيئية للمشي في أحراج المنطقة وطرقاتها الجبلية والتعرف الى طبيعتها. وضم الفريق، يومها، شباباً من مختلف الاختصاصات، من مرشدين سياحيين وخبراء وباحثين وطلاب جامعيين استحدثوا بداية «دروب المشي» في جبال عكار. ومع الوقت، تشكلت أكبر شبكة لدروب المشي في لبنان (أكثر من 350 كيلومتراً) ضمن المنطقة التي صارت مقصداً ومتنفساً لكلّ من ينشد «تغيير الجو» والمشي وممارسة رياضات الهواء الطلق من دون أن يكلفه ذلك أعباء السفر إلى تركيا أو أوروبا.

2020: من المشي إلى إطفاء الحرائق
في عام 2020، اندلع حريق ضخم أتى على قرى جرد القيطع في عكار. منذ تلك اللحظة، أصبحت أولوية مجموعة «درب عكار» التي تضم 10 متطوّعين ابتكار كلّ السبل الممكنة لإخماد الحريق في بدايته عبر الرصد المبكر والتدخل السريع والمباشر للحدّ من الخسائر في مساحات الغابات. عمل الفريق على إعداد خطة يتكامل فيها دوره مع البلديات والدفاع المدني والجيش في مكافحة الحرائق والرصد والإنذار المبكر وإعداد خطة تعافٍ لما بعد الحريق.
مرّ عام 2020 بأقل الخسائر، حتى حلّ صيف 2021 الذي كان كارثياً على عكار. ففي شهر آب، اندلعت حرائق غير مشهودة في لبنان استمرت ثلاثة أيام قضت على أكثر من 18 كيلومتراً مربعاً من غابات الصنوبر والأشجار المعمّرة في المنطقة. يومها، تمدّد الحريق من القطلبة في القبيات باتجاه عندقت، وفتك بوادي عودين ثم أكروم ووصل إلى جرود الهرمل. وتكرّر المشهد أيضاً في وادي جهنم أحد أجمل الأودية في لبنان. كانت قوة النيران أكبر من كلّ الاستعدادات أو القدرة على التنبؤ بسلوك الحريق، ووصلت ألسنة اللهب إلى ارتفاع 300 متر في الهواء، بحيث «لم نكن قادرين على استيعاب المشهد أو التعامل معه»، يقول المهندس خالد طالب، أحد أفراد الفريق.
في قلب ذلك المشهد كله «شهدنا على أجمل لحظات النخوة لدى الناس في الدفاع عن الأحراج، رأينا نوعاً من الشجاعة الذي يشبه الجنون في الوقوف على حافة الموت. كان البعض يرمي نفسه باللحم الحي، حازماً قميصاً قطنياً على وجهه ويكافح النار بغصن شجرة، حتى إن مدّ خرطوم المياه الذي يتطلّب لتشغيله عادة 10 دقائق استغرق دقيقتين في ضيعة أكروم».
رغم قساوة ما حصل، لم يستسلم الفريق، وقد جهّز نفسه من خلال التبرّعات الفردية بآليتين صغيرتين، عبارة عن شاحنة بيك آب مزودة بخزان سعته 1000 ليتر وتحوي المعدات اللازمة للتعامل مع الحريق بسرعة. حملت الآليتان اسم «لزّاب» و«شوح» نسبة إلى أهم الأشجار المعمّرة في أعالي جبال عكار. أما ميزة هاتين الآليتين فهي «القدرة على السير في الطرقات الوعرة للوصول إلى عمق الحريق، ففي حين يصل كميون الدفاع المدني إلى 200 متر في حرائق الغابات، كانت آلياتنا تدخل إلى عمق 1200 متر». عدا عن ذلك «وفي الوقت الذي تتراوح فيه تكلفة استيراد كميون الإطفاء بين 200.000 و300.000 دولار، كلفنا تجهيز آليتين من الصفر نحو 45 ألف دولار فقط، فضلاً عن كونهما أكثر فعالية جغرافياً، ما يسهل التعامل مع أصعب التضاريس الجغرافية والتي يتعذّر الوصول إليها إلا بآليات صغيرة رباعية الدفع».
إلى ذلك، ابتكر الفريق آلة «المالوشة». ولهذه الأخيرة قصة، «فقد أرسل لنا وزير البيئة ناصر ياسين صورة عن آلية تستعمل في أوروبا لمكافحة أرضية للحريق من دون استخدام المياه وسألنا عن رأينا. وبالفعل هي من المعدات الممتازة ولكنها مكلفة، إذ يبلغ سعرها 350 دولاراً»، يقول طالب. عندها، خطر ببال الشباب أن يصنعوا واحدة منها «وبالفعل طوّرنا ما هو أهم منها، فالأجنبية تقوم بثلاث مهمات، نحن جعلناها تستوعب 5 مهمات في قطعة واحدة: مشط، شفرة، معول، فأس، مجرفة، وبزنة 3 كيلوغرامات فقط وقد استخدمناها في أحد الحرائق ونجحنا»، يكمل طالب.
طوّر الفريق وحدة مخصصة للحرائق عبارة عن صندوق يضمّ مضخات وخراطيم ومعدات يمكن تركيبها على أي آلية


أهمية التصنيع، وفق طالب، تنطلق من عدة اعتبارات، ففضلاً عن تخفيف التبعية للدول التي تنتج معدات مكافحة الحرائق «نصنّع ما يلائم الحاجات المحلية بكلفة قليلة مقارنة مع كلفة الاستيراد ولا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية».
أما آخر إبداعات الفريق فهو مشروع تجهيز آي آلية لتصبح جاهزة لمواجهة حرائق الغابات خلال 5 دقائق، فقد عمل على تطوير وحدات متنقلة مخصصة لحرائق الغابات skid unit، عبارة عن صندوق متكامل يضمّ مضخات وخراطيم ومعدات متكاملة يمكن تركيبها على أي آلية بكلفة تتراوح بين 8000 و12000 دولار بحسب الطلب ونوعية المواد المستخدمة من دون الحاجة إلى تجهيز آلية من الصفر.
نجم عن كل هذه الجهود تراجع في الخسائر، ففي حين «خسرنا 1900 هكتار من الغابات السنة الماضية، خسارتنا هذه السنة كانت 30 هكتاراً فقط إلى الآن، مع أن مستويات الخطر في أشدّها».

قطع الأشجار صحي… بشروط
تزداد في الآونة الأخيرة حوادث قطع الأشجار، حيث باتت تلك الظاهرة نافرة مع توجّه الناس إلى الحطب كبديل من المازوت في التدفئة. وإذ يتفهم طالب الوضع الاقتصادي الصعب للناس و«نحن منهم» للقيام بهذا الأمر، إلا أنه «لا يجب أن يكون ذلك على حساب الغابات»، لافتاً إلى أن القطع بالمطلق ليس سلبياً «شرط مراعاة التنوع البيئي الموجود وحرمة الأشجار المعمّرة».
من هنا، يشير طالب إلى أن قطع الشجر ليس أمراً محرّماً، فعلمياً «الغابات بحاجة إلى إدارة الكتلتين الحيوية والنباتية، فالتفريد والتشحيل وحتى أحياناً القطع مفيد لصحة الغابات ويساعد على نموّها بسرعة وبشكل صحي أكثر ويعطي فرصة للنباتات التي تحب الشمس أن لا تموت في الظل». ولذلك، بدلاً من منع القطع تماماً، وهو ما قد يتسبّب باندلاع الحرائق وانتشارها بسبب تكون كتلة نباتية ضخمة، «يجب التوجه إلى إدارة الغابات وذلك بتقسيمها إلى مناطق، كل منطقة تكون لها إدارة خاصة تأخذ بالحسبان ما فيها من نباتات، وبعد ذلك نسمح بالتقطيع أو التشحيل ضمن ضوابط ورقابة صارمة، مع ضرورة إزالة مخلّفات القطع والتشحيل كي لا تتسبّب بالحرائق».