في واحدة من أبرز المناطق السياحية، وخلف زوارق بحرية تتجول بالسياح، يقع سجن مدينة صور. مبنى قديم، كان يستعمل كإسطبل للخيل قبل أكثر من 300 عام. في وقت يستمتع زوار المدينة على مقربة منه بمياه البحر وأشعة الشمس ويراقبون النوارس البيضاء التي تلامس البحر بحرية، يعاني نزلاء سجن صور من ظروف صعبة خلف القضبان، ولا يرون الشمس إلا قليلًا. بالقرب منه تمثال للسيدة العذراء. من حولها، صيادون لوّحت الشمس بشرتهم، وزوار يلتقطون الصور، ويلعبون مع أطفالهم، ويأكلون السمك. لا يميّز هؤلاء السجن القريب الذي يشكل جزءًا من «البيئة» التي جعلت يومهم «شديد الجمال»، ربما بسبب شكله المعماري المغطى بحجر أصفر قديم كعمارة الفنادق والمطاعم في الميناء من حوله، أو ربما لأن خطة نقله إلى موقع آخر تعثرت قبل وقت بعيد
تظهر من بين قضبان البوابة الرئيسية لافتة بيضاء، مكتوب عليها بأحرف عريضة «سجن صور» الذي افتُتح عام 1992، مع سهم يشير إلى ممر ضيق إلى اليسار. هذا أول ما يلاحظه من يقف أمام مبنى السرايا التي تضم دوائر حكومية ومخفرًا للدرك ومركزاً للأمن العام. على حجارة السجن الصفراء من الخارج، لوحة تشير إلى أن هذا البناء ذا الحجر الرملي شُيد في زمن العثمانيين، تحديدًا سنة 1680 م. ويعتقد بأنه كان اسطبلًا للأحصنة في ذلك الوقت. أما السرايا فبنيت عام 1750 على يد الحاكم عباس محمد الوائلي، ثم اتخذها الفرنسيون مقراً عسكرياً لهم، وتحولت إلى قائمقامية بعد الاستقلال. إلى جانب قِدَمه، وعدم أهليته الهندسية والإدارية والمادية ليكون سجنًا يتمتع بظروف كريمة، يشكّل الموقع الجغرافي للسجن أحد أكبر إشكالياته، لقربه من المرفأ ومن أشهر مطاعم المدينة وفنادقها، ما قد يمنع تحقيق الأغراض التأهيلية المنوطة بعقوبة السجن. فما هي حالة السجن الحالية؟ وكيف يؤثر موقعه الجغرافي عليه؟ ولماذا لم يُنقل خارج هذه النقطة المكتظة؟
بداية، تجدر الإشارة أنه لا يوجد في المرسوم رقم 14310 الصادر سنة 1949 وتعديلاته المتعلقة بتنظيم السجون مادة تتحدث عن المعايير الجغرافية التي يجب أن تراعيها الدولة عند بناء أو تنظيم السجن. وللحقيقة، فإن الربط بين حالة الموقع الجغرافي وتأثيره على السجناء هو محط دراسة.

متر مربع لكل سجين
يتألف السجن من 5 غرف يتوزع عليها السجناء. وهو يحتل الطبقة السفلى من السرايا، فيما خصصت الطبقتان العلويتان من المبنى للدوائر الحكومية ومخفر الدرك. وبحسب ما أشار اليه رئيس السجن، في التقرير الوطني الشامل عن أوضاع السجون في لبنان سنة 2011، فإن التعداد القانوني للسجناء بحسب قدرة الاستيعاب كحد أقصى يبلغ 70 شخصًا، وهو تعداد مختلف عليه رغم أن الأجهزة الأمنية تعتمده. لكن، بحسب توصيات لجنة الصليب الأحمر الدولية التي تقدر المساحة الدنيا التي يجب أن يحصل عليها كل سجين ب 3.4 أمتار مربعة، فإن عدد السجناء في صور يجب أن لا يتخطى الـ 42 سجينًا. وقد ورد في التقرير أن عدد النزلاء سنة 2010 كان 62 شخصًا، كما أن مجموع الأسرّة بلغ 68 . وعلمت «القوس» أن عدد السجناء زاد إلى أكثر من 120 شخصًا حاليًا بعد نقل حوالي 40 سجينًا إليه من سجن النبطية الذي يخضع لأعمال صيانة.
يتألف السجن من 5 غرف يتوزع عليها السجناء. وهو يحتل الطبقة السفلى من السرايا، فيما خصصت الطبقتان العلويتان من المبنى للدوائر الحكومية ومخفر الدرك


يقول محمد المحكوم الذي قضى أربع سنوات في سجن صور: «لم يكن عدد الأسرّة كافيًا. لذا كنا ننتظر تنظيف الأرض مساء حتى ننام عليها، وفي بعض الأحيان نتناوب على أسرّة النزلاء القدامى إذا ما سمحوا بذلك».
تقدر مساحة الزنازين الخمسة بـ 142 مترًا مربعًا، ما يعني أن المساحة التي يتمتع بها كل سجين حاليًا في صور -على أكبر تقدير - هي متر مربع واحد، بغض النظر عن كتلة السجين الجسدية، وهو أمر مخالف لمعايير التعامل مع السجناء التي تنص عليها الأمم المتحدة.

حراسة شديدة
يتميز السجن بنوع من الحراسة الشديدة، فلا ضوء ولا هواء يدخل إلى غرفه. ومع أن السجناء يخرجون إلى التنزه في الباحة يوميًا، إلا أنها بالكاد تتسع لهم بسبب ضيقها. كما أن مراجعي الدوائر الحكومية يمكنهم رؤية السجناء من الطابق العلوي عندما يكون هؤلاء في الباحة. يعلق محمد: «كانت أبواب الباحة تفتح حوالي الساعة 7:30 صباحًا وتبقى حتى الـ 5:00 أو 6:00 بعد الظهر، وكنا نستطيع الخروج في هذه المدة متى ما شئنا ذلك، لكن أشعة الشمس لا تصل جيداً الى الباحة المسقوفة بسواتر حديدية». ولا يضم السجن مكتبة للسجناء أو مساحة يمكنهم أن يمارسوا فيها أي نوع من النشاطات الحرفية. رغم أن البناء رمم أكثر من مرة وأقفل لسنتين بين عامي 2006 و2008 بسبب الصيانة التي شملت الدهان والتبليط وتصليح الأبواب والكهرباء، إلا أن الرطوبة لا تزال تعشعش في جدرانه بسبب قربه من البحر الذي يفصله عنه ممر ضيق.



جدل حول تغيير الموقع
يختلف سكان مدينة صور حول تقييمهم لموقع السجن. نسبة لا بأس بها أكّدت لـ«القوس»، في مقابلات عشوائية، بأنها تفضل تغيير موقعه الحالي لمراعاة مشاعر المساجين ووضعهم في بيئة أقل اكتظاظًا. غير أن آخرين رفضوا هذا الخيار لأنه «إذا نقلوه من هون، اللي عنده ولد محبوس كيف بروح بشوفه؟»، خصوصًا بعد ارتفاع كلفة المواصلات. ومع أن فتح نقاش جدي حول نقل السجن من عدمه لن يحسم باستفتاء شعبي، لكنه يطرح خيارات جديدة قد تساهم في تحسين حالة المساجين النفسية والجسدية، وقد تضخ موارد جديدة إلى أيدي الدولة. فنقل السجن من الناحية الإدارية سيكون صعبًا، لا سيما في ظل التحديات الاقتصادية التي تمر بها المؤسسات الرسمية. لكن في الوقت عينه، يمكن للاستثمار في مبنى كهذا عبر تحويله إلى فندق أو مطعم أو متحف أن يكون بابًا لتشجيع السياحة وتنشيط الدورة الاقتصادية في مدينة تعتمد على السياح، كما أنه سيكون بوابة لرسم خارطة نموذجية تراعي النظم الهندسية للسجون.


توصيات الأمم المتحدة


- ينبغي أن تجري زيارة السجناء في ظروف كريمة تتسم بقدر كاف من الخصوصية لتسمح بحدوث اتصال مفيد وبنَّاء من أجل إعادة تأهيل السجين.
- قد تتسم الزيارات بين السجين وأسرته بتوتر شديد . ويمكن تخفيف التوتر إذا كانت غرف الزيارة مريحة بقدر الإمكان.
- من المهم أن يكون بمقدور السجناء والزائرين أن يلمس أحدهم الآخر وأن يكون في الإمكان ضم الأطفال.


«فرجة» للمارة ولزوار السراي
نصت المواد (68-74) من مرسوم تنظيم السجون على أن تمنح السلطات المختصة تصريحا بالزيارة لمدة 15 دقيقة يوم المقابلة لذوي السجين. غير أن الموقع الجغرافي وحالة سجن صور لا يسمحان بإتمام ذلك بطريقة ملائمة وكريمة. «كنت أشعر بالإحراج عندما يقف أهلي أمام العازل ليطمئنوا علي. المراجعون في الدوائر الحكومية كان بإمكانهم أن يرونا ويسمعونا. حتى المارة الذين يعبرون من أمام السرايا، كانوا قادرين على رؤية أهلي واقفين أمام العازل يحدثونني، وكان ذلك قاسيًا»، يقول محمد. ويضيف: «لا أنسى اليوم الذي لم يسمح لي الحرس فيه بأن أعانق أخي قبل سفره رغم أنني طلبت ذلك أكثر من مرة». ومع أن التوصيات الدولية تشيد بضرورة أن يتمكن السجين من التواصل المباشر مع أهله وملامستهم بغية تحفيزه بشكل إيجابي وفي جو يتسم بالخصوصية، إلا أنه لا يوجد في سجن صور مكان مخصص للزيارات العائلية أو زيارات الوكلاء القانونيين لضيق المساحة، ولا يستطيع السجين أن يلمس ذويه أو يتواصل معهم إلا عبر الهاتف ومن خلف القضبان، فضلاً عن شعور السجين وأهله بالإحراج نتيجة اكتظاظ السرايا والشارع من حولهم برواد المقاهي والفنادق.


تراجع الطبابة ونقص في الأدوية


نصت المادة (52) من المرسوم 14310 حول تنظيم السجون وإنشاء إدارة طبية، أن لكافة السجناء الحق في أن تتم زيارتهم ثلاث مرات على الأقل في الأسبوع من قبل أطباء معينين ووفقا لشروط محددة. وذكر في التقرير الوطني الشامل عن أوضاع السجون في لبنان سنة 2011 أن النزلاء في سجن صور كانوا يحصلون على خدمات طبية جيدة داخل السجن، إذ كان هناك جولات دورية للأطباء عليهم وإن بشكل متقطع، لكنهم كانوا يحصلون على الأدوية اللازمة تحت إشراف رئيس السجن وطبيبه. غير أن الأوضاع تغيرت مع استفحال أزمة الدواء وغلائه. ويقول سجين سابق لـ«القوس» إن الأطباء «توقفوا عن زيارة السجن في الآونة الأخيرة»، واقتصر الأمر على نقل الحالات المرضية إليهم، كما أن بعض الأدوية الأساسية انقطعت من صيدلية السجن، ويتم تعويضها «بالبنادول غالبًا». بالمختصر، «لم نكن نشعر بالثقة تجاه المشرفين على الطبابة في سجن صور».


«عالوعد يا كمون»


يجري تداول إشاعة في مدينة صور عن بناء سرايا حكومية جديدة من المفترض أن تضم سجنًا، وأن العمل فيها متوقف بسبب مشكلة من المقاولين. إلا أن الأمر، بحسب ما علمت «القوس»، غير دقيق. فالسرايا الجديدة ستخصص فقط للمعاملات الرسمية ولن يكون فيها سجن.
النائب حسين جشي قال لـ«القوس» إنه غير مطّلع على تفاصيل هذا الملف، مؤكدًا أن «لا نقاش في سوء الموقع الجغرافي للسجن وحالته». فيما قال رئيس بلدية صور حسن دبوق ان «مجلس الانماء والاعمار يمتلك الخبر اليقين». وصدر في سنة 2016 مرسوم عن مجلس الوزراء يحمل الرقم 4061 قضى بإعطاء مجلس الإنماء والإعمار سلفة من خزينة الدولة تقدر ب 22.5 مليار ل.ل لمدة سنة واحدة بغية إنشاء أربعة سجون نموذجية في لبنان. وكان من المفترض، بحسب أحد المعنيين، إلغاء سجن مدينة صور عند بناء السجن النموذجي في بلدة الكفور إلا أن ذلك لم يحصل «ربما بسبب ضعف التمويل».