فيما كان اللبنانيون في كفاح محتدم لانتزاع استقلال بلدهم من الاحتلال الفرنسي أوائل سنة 1943، كان ابن الثانية عشرة يكافح الموج بمجذافيه الخشبيين وقاربه الذي صنعه من ألواح الزينكو ليلحق بوالده في البحر علّه يصبح "ريّساً" هو الآخر. وبعد ما يزيد عن الواحد والتسعين عاماً من التعب والكرم والرياسة، قضى منها نعيم في البحر أكثر منها في البرّ، أبحر الأسبوع الفائت في رحلته الأخيرة، تاركاً وراءه قصصه الشيّقة التي يرويها ابناه خليل وحسن وصديقه الريّس حسن خليفة.الريّس نعيم سبليني مواليد عام 1931، ابن شاطئ خيزران في السكسكية، هو"نعمة الله بن يوسف سبليني" كما تذكره هويتّه البحرية. من "حسكة" متواضعة عانَدَ لصنعها بنفسه، إلى عميد للصيادين وريّس تشهد له البحرية. هو قبطان قارب "زهرة خيزران" الذي أمضى حياته إمّا في أعماق البحر يصطاد الأسماك أو على الشاطئ يقدّمها للزبائن، وكلّ ذلك بيد واحدة بعدما فقد الثانية في عمر المراهقة.

بحّار أباً عن جد
"قبل أن يكون هنالك ميناء أو زوارق لها محرّكات أو سوق للأسماك كان نعيم سبليني من أوائل الصيادين في المنطقة" يقول الريّس حسن خليفة عن صديقه. "كان البحرية يُعدّون على أصابع اليد وكان نعيم القبضاي بينهم. تراه في البحر ضابطاً يضبط إيقاع كلّ من على القارب، وعلى البرّ هو مرجع لأولاد الكار وقائد يرفع مطالبهم".
ولأن البحر إرث نعيم الأغلى فقد أورثه لأولاده، لكثرة ما سرد لهم عن بطولات جده ووالده في البحر. ينقل خليل سبليني اليوم هذه القصص بفخر وهو يترحّم على والده ويشيد بأعداد المحبين الذي أتوا لتعزيته برحيله. "جدّه درويش سبليني كان يصطاد عبر الغطس دون قارب أو دولاب. أما والده يوسف سبليني أي جدّي، فقد أطلق الإنكليز عليه النار، في عشرينيات القرن الماضي، بينما كان يصطاد في "أرض الزيب" وهي مجموعة جزر صغيرة عند نقطة رأس الناقورة". أما عن والده نعيم فيقول خليل: "خبرة والدي في حفظ أحوال البحر ورياحه جعلت المزارعين يوقّتون أمور زراعتهم على توقعات والدي". ويروي حسن، الابن البكر ورفيق صيد والده "كان يأخذني في أكثر الأوقات بعمر السبع سنوات وحيداً إلى عمق البحر لكي يغطس وأنا أطوّل له خرطوم الهواء! كان شجاعاً إلى هذه الدرجة وكبرت على هذه الشجاعة، أن تترك طفلاً صغيراً على قارب في نصف البحر وأنت تغطس إلى عمق عشرات القامات، كان أمراً لا يتجرّأ عليه إلا الريّس نعيم".

وأستاذ للصيادين
يعدّد خليل من جهته أساليب الصيد التي احترفها والده "شبك الغزلان، الصيد على البارودة، وتحويق السردين الذي كان والدي من الأوائل في لبنان فيه والعديد من أساليب الصيد التي ذاع صيته فيها وأكسبته أصدقاء وزملاء وتلامذة صيد". ويضيف: "كان يأتي شبان من طرابلس والأوزاعي ليتعلّموا عند بيّي. وكان ضيوفنا مثلاً أهاليَ يستنجدون بوالدي لإيجاد أولادهم الذين أخذهم التيار البحري أو مثلاً طاقم سفينة مصرية تعطّلت على صخور عدلون وأنقذهم والدي أو فرق الدفاع المدني تكرّم والدي على مساعدتها في عملية إنقاذ".
شهد كل التطوّرات التي لحقت بأوضاع البحّارة إلا الضمان الاجتماعي


ومن مآثر الريس نعيم يحدّثنا حسن عن وقوف والده إلى جانب مطالب البحارة والتحدّث باسمهم مع الجهات المعنية في الدولة قبل أن تتشكّل نقابات وتعاونيات الصيادين، فواكب بناء وتطوير مرفأ الصرفند وتعاونية الصيادين وسوق السمك فيها. حتى إنه وقبل "وجود الدولة في الجنوب" وقف بوجه العدو كما حصل يوم بُعيد اجتياح الـ82، إذ لم يخف من القوة الصهيونية التي منعته من الإبحار "أعلن عن رفضه، فاعتقلوه". يتحدث خليل هو الآخر عن هذه الفترة حينما كان والده يساعد المقاومة في الجنوب "حينما أُغلقت طريق صيدا باتر وحوصر الجنوب كان والدي يطبخ المواد في مطبخ الوالدة واستُخدمت في عدة عمليات ضد العدو الإسرائيلي".
أكثر من سبعين عاماً، لم يترك خلالها نعيم البحر حتى سنوات قليلة مضت، شهد كل تطوّر لحق البحرية إلا الضمان الاجتماعي الذي سعى ويسعى زملاء الصيد للمطالبة بحقهم في الاستفادة من تقديماته. يتفق الأخوان حسن وخليل على قساوة هذه المهنة إلّا أنهما يعترفان بإدمانهما عليها "نحن ستة شباب ورثنا الصيد عن الوالد عن والده عن والده. خاوينا البحر، ولو أن الرزق لم يعد كما في السابق، لن نترك البحر. ستجدنا دائماً في الأفق بعد منتصف الليل ننير قناديل قواربنا سعياً لرزقنا ومتمسكين بإرثنا".