في 20 دقيقة، يلخّص فيلم «بريطانيا في فلسطين 1917 – 1948» قصة ثلاثين عاماً من الاحتلال، ويكشف كيف تدفق رأس المال اليهودي الذي حشده الصهاينة لتمكين مشاريعهم الاستعمارية، بدءاً من وعد بلفور عام 1917، ولماذا وكيف تولى البريطانيون الانتداب على فلسطين، وتخلّي بريطانيا عن محاولاتها لفرض تسوية في فلسطين، ولماذا أخلت البلاد عام 1948.بين عامي 1900 و1934، كان يعقوب بن دوڤ المصوّر الوحيد في فلسطين الذي وثّق الأحداث التاريخية. اليهودي الاوكراني ومؤسس السينما الصهيونية صوّر دخول الجنرال إدموند ألنبي إلى القدس عام 1917. وفي فيلمه «أرض إسرائيل المحررة» (1919) وثّق صور مؤسس الفيلق اليهودي في فلسطين زئيف جابوتنسكي بالزي العسكري. أنتج فيلم «حياة اليهود على أرض فلسطين» (1913) الذي يتحدث عن الصلة المزعومة لليهود بأرض فلسطين وعن التجمع اليهودي في أرض الميعاد. وفي 1923، أنتج أول فيلم صُوّر حصرياً للصندوق القومي اليهودي، وأول فيلم عبري يستخدم ممثلين ويتضمّن حواراً، هو «صحوة فلسطين» (Palestine Awakening). كما صوّر احتفالات هانوكا في القدس وحرفيين في ورش عمل في فيلم بعنوان «مرآة العودة إلى صهيون».

leila in haifa


Tomorrow’s a Wonderful Day

آنذاك، داخل فلسطين وخارجها، كانت الأموال اليهودية تموّل كثيراً من شركات الإنتاج الأميركية والأوروبية لانتاج أفلام تخدم الافكار والتوجهات الصهيونية، وكانت جميعها تقريباً مستوحاة من التوراة. الأفلام الأولى كانت، بشكل أساسي، وثائقيات وتقارير إخبارية عن اليهود في أوروبا... حتى عام 1933، عندما حُوّل كتاب الأطفال «أوديد المتجوّل» (Oded The Wanderer) للكاتب زڤي ليبرمان (كتبه كانت نقطة الانطلاق في تاريخ السينما الإسرائيلية) إلى فيلم صامت، وهو أول فيلم روائي طويل للأطفال في فلسطين خلال الانتداب البريطاني. عام 1938، حُوّل كتاب آخر لليبرمان بعنوان «فوق الأنقاض» (Over The Ruins) من إخراج ناثان أكسلود وألفرد وولف (أكسلرود هو رائد السينما الإسرائيلية، صور بين 1927 و1958 حوالي 450 فيلماً أخبارياً، وأنشأ وطور الفيلم اليهودي خلال الانتداب البريطاني، كما أسس القاعدة الثقافية والفنية للدولة قبل قيامها). الفيلم مدته 70 دقيقة مع موسيقى وحوار، ويروي قصة أطفال في قرية يهودية في الهيكل الثاني في الجليل حيث قتل الرومان جميع البالغين وأعاد الأطفال بناء القرية. في هذه المرحلة كانت الأفلام تعبّر بوضوح عن محاولات لغزو الفكر العالمي وصبغ الفكر الصهيوني في العالم بدلالات دينية وتاريخية تربط اليهود بأرض فلسطين. كل هذه الأفلام كانت تثبت «حق» اليهود في فلسطين واضطهادهم في أوروبا وتهدف إلى إقناع يهود العالم بالهجرة إلى فلسطين.
اشترى الراقص والمخرج الروسي اليهودي باروتش أغداتي، أحد رواد السينما في «إسرائيل»، أرشيف يعقوب بن دوڤ، وأسس مع شقيقه شركة انتاج يهودية، وأخرج فيلم «هذه هي الأرض» عام 1935. بروباغندا سينمائية تُظهر تطوّر المجتمع اليهودي قبل قيام الدولة، ويصور خمسين عاماً من الاستيطان اليهودي في فلسطين بداية مع «بلويم» (أول مجموعة من المهاجرين اليهود المتحدرين من روسيا). الفيلم كان جزءاً من حملة لتشجيع الاستيطان والاستثمار في فلسطين ولترويج رسالة أن فلسطين هي أرض الفرص ومكان تحقيق الحلم القديم.

ما بعد النكبة
لا ينبغي النظر إلى الأفلام الإسرائيلية الأولى قبل قيام الكيان على أنها شكل فني مستقل، وإنما أداة دعائية للترويج للصهيونية. فيما غالبية الأفلام التي انتجت بعد النكبة كانت على غرار الأفلام الواقعية الاشتراكية وأفلام الاتحاد السوڤياتي، وتعكس التبعية الثابتة المتمثلة بالأيديولوجيا في إسرائيل الصهيونية. أفلام فيها خطابات عن الهوية الوطنية وذكرى المحرقة والتحديات العرقية والثقافية.
حرب 1948 أدّت إلى ظهور سينما «بطولية قومية» استمرت إلى ما بعد عام 1967، ركزت على أبطال اسطوريين أوروبيين إسرائيليين، ومحو أي وجود فلسطيني على الأرض، كما سعت إلى إبطال هوية الشتات اليهودي ودعوة اليهود للاندماج في الروح الصهيونية والتخلص من هويتهم السابقة، وإلى تحويل المفهوم من «اليهودي» إلى «الهوية الإسرائيلية». من الأمثلة على ذلك، فيلم «غداً يوم رائع» (Tomorrow’s a Wonderful Day) عام 1947 الذي يروي قصة صبي يهودي نجا من المحرقة وحاول إعادة تأهيل نفسه من الصدمات التي عانى منها ونسيان الماضي وإقامة علاقات اجتماعية اثناء إقامته في قرية بن شيمن. فيما يروي فيلم نوري حبيب «بدون منزل» (Without Home) قصة مجموعة من اليهود الذين سافروا سيراً على الاقدام إلى إسرائيل قادمين من اليمن بعدما بدأ العرب في قتل الأطفال اليهود هناك.

oded the wanderer


Beaufort

في مرحلة أخرى بدأت السينما الإسرائيلية تظهر اليهود العرب ولكن بشكل كوميدي، وتركّز على أن فلسطين مساحة فارغة غير حضارية جاءت الصهيونية لتطويرها. بعدها بدأت السينما الإسرائيلية الاعتراف بالوجود الفلسطيني، لكن من المنظار الاسرائيلي، وتعمل ضمن الإطار العام والافتراضات الصهيونية وتعكس الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين والصراعات الشخصية مثل فيلم «مشى في الحقول» He Walked Through the Fields) (1967)) الذي يصوّر الاحتكاك المتزايد بين المجموعات المختلفة في «الكيبوتس» (مستوطنات زراعية وعسكرية تعد من أهم المؤسسات التي استندت عليها الحركة الصهيونية في فلسطين) وقيم الجيش وتحديات الفرد وسط عدم الاستقرار السياسي والأمني وعدم اليقين في الشرق الأوسط.
كان المستنقع العسكري في لبنان وما تلاه من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 خلفية مثالية لمخرجي الأفلام الإسرائيليين لنقل أفكارهم الاجتماعية والسياسية، لا سيما انعكاس الوزن الثقيل للانتفاضة على النسيج الاجتماعي والسياسي. فسعى عدد من المخرجين إلى نزع اسطورة الجيش الإسرائيلي ودمج العلاقات اليهودية - العربية والتوترات القطاعية وعدم قدرة إسرائيل على تسوية تناقضاتها. أفلام مثل «خلف القضبان» (Behind Bars) ليوري برباش و"Avanti Popolo" لرافي بوكاي كانت مباشرة في انتقادها للوضع السياسي في الثمانينيات، وكشف أخطاء إسرائيل بنفس التباهي الذي تباهت به عندما اخترعت نفسها لأول مرة، وكان أحد اهم المخرجين في ذلك الوقت عاصي ديان. بقي النقد حتى التسعينيات، وبدأ يطال «جيش الدفاع الإسرائيلي» كما في فيلم حاييم بوزاغلو «فصل الفراولة» The Strawberry Season) (1991)).
الأفلام الأولى كانت تعرض اضطهاد اليهود في أوروبا و«حقهم» في فلسطين وإقناعهم بالهجرة إليها


أدى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1995 وانتصار بنيامين نتنياهو في الانتخابات إلى ركود السينما النقدية وتحولها إلى قصص شخصية داخلية. ظل الركود حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وبدأ المخرجون اليساريون مثل عاموس غيتاي توجيه نقد واضح ومباشر وصريح لبلاد أرض الميعاد والدعوة للسلام ونبذ العنف. وقد طبعت شخصية إسحاق رابين وحياة المواطن الإسرائيلي في فلسطين حياة السينمائي في أفلام مثل «فلنعط للسلام حظه» (Give Peace a Chance) و«بيت» (Home) وغيرهما.
في السنوات الأخيرة الماضية تحولت السينما الإسرائيلية من «السياسي» إلى «الشخصي»، وجمعت أبعاداً مختلفة من الذاكرة الوطنية مع الحساسيات الفردية حول حروب إسرائيل في المنطقة وعلاقتها بالفلسطينيين. أفلام مثل «الشقيف» (Beaufort) و«زيارة الفرقة الموسيقية» (The Band’s Visit) و«فالس مع بشير» (Waltz With Bashir) و«ليلى في حيفا» (Leila in Haifa) و«مرادفات» (Synonyms)، قدّمت سينما إسرائيلية معاصرة، وصورة قاتمة للتاريخ والحاضر والسياسة والصراعات. الاتجاه السينمائي السائد اليوم هو سينما تستكشف جوانب متعددة من حساسيات المخرج نفسه ورؤيته للصراع القائم، ووسيلة اعتراف بما يسمى «متلازمة الذنب الصهيوني»، من خلال التركيز على التحولات التاريخية لإسرائيل، وضرورة الحاجة إلى إعادة ترتيب أولويات قضايا مثل الامن القومي والرفاهية وسط عدم الاستقرار وعدم اليقين.



إعرف عدوّك؟
الأفلام الإسرائيلية في كل مكان، ويمكن مشاهدتها بسهولة في البيت بوجود منصات التدفق الرقمي مثل «نتفليكس» وغيرها. لكن، هل تعتبر مشاهدة الأفلام الإسرائيلية تطبيعاً؟ من المؤكد وجوب عدم عرض أفلام عربية في إسرائيل وعدم إشراك أفلام ذات تمويل إسرائيلي في مهرجانات عربية أو دفع المال لمشاهدة هذه الأفلام. قوانين التطبيع فيها تفاصيل تحتاج إلى معايير تحدّدها الدولة، لأننا هنا نتكلم في المقام الأول عن عدو. لكن هذه الأفلام الإسرائيلية وغيرها يمكن مشاهدتها، بعيداً عن قيمتها الفنية والسينمائية، للتعرف إلى الخطاب الإسرائيلي الذي يقدم من خلال هذه الأفلام، لأن السينما تنقل الواقع وهي مرآة لما يحدث في المجتمع وانعكاس للتاريخ. وبما اننا في لبنان جزء لا يتجزأ من الصراع العربي - الإسرائيلي، ولأن تاريخ العدو جزء من تاريخنا أيضاً، لا بد من التعرف إلى نظرتهم إلى هذا التاريخ والواقع. في البلدان العربية أكثرية الأفلام تشاهد عبر المنصات التي تقرصن الأفلام او يتم تحميلها من خلال مواقع «التورينت».