لا بدّ من تحديد الإطار الأخلاقي في التعاطي مع مسألة الحدود البحريّة مع "العدوّ". ففلسطين من نهرها الى بحرها مُحتلّةٌ سليبة ولا حقّ في برّها وبحرها وثرواتها لغُزاةٍ قدِموا واستُقدِموا من أقطار الأرض. وحتّى يأتي ذلك اليوم الذي تعاد فيه الحقوق إلى أهلها، ستكون أيّ "مفاوضات" و"تسويات"، مباشرة أو غير مباشرة، مع العدو بخصوص الحدود البحريّة الجنوبيّة تحصيلاً لجزءٍ من حقٍ، الأولى أن نستفيد منه نحن لا العدو، من دون أن يشكّل هذا اعترافاً بالعدو وبحقّه المزعوم نتيجة تلك المفاوضات أو التسويات. من هذا المنطلق، فإنّ الرفض المبدئي لمفاوضات ترسيم الحدود البحريّة يعني عمليّاً تأجيل التنقيب والإنتاج من المناطق التي ينازعنا عليها العدو حتّى اندحاره عن أرض فلسطين. ولكنّ أي مفاوضات، كيفما زيّناها، تستبطن، مُباشرةً أو مُواربةً، نيّة في التنازلات المتبادلة. كلّ كلام غير ذلك في ميزان القوى الحالي يعيدنا، عمليّاً، إلى المربّع الأوّل أي إلى تأجيل استثمار الثروات حتّى زوال الاحتلال عن الأرض العربيّة كاملة. أمّا مدى وطبيعة التنازلات في أيّ مفاوضات لترسيم الحدود البحريّة مع العدو، فيقرّره وجود إدارة وطنيّة صادقة وقويّة للمفاوضات تبني على نقاط قوّتنا ونقاط ضعف العدو وتسعى لتعظيم المصلحة الوطنيّة.
للخطّ اللبناني ٢٩ تداعيات اقتصاديّة واستراتيجيّة كُبرى على ملفّ الثروات البحريّة اللبنانيّة. فالخطّ، إذا ما ثُبّت من قِبل لبنان، يكبّل يد العدو عن المضيّ قُدُماً في تطوير حقل كريش إذ يصبح شمال كريش متنازعاً عليه مع لبنان على أقلّ تقدير، ما قد يدفع الشركة المُطوّرة للحقل للإحجام عن المضيّ قُدُماً في مسار الإنتاج الذي سيبدأ في منتصف السنة الجارية من الحقل المذكور مع تداعيات ذلك على الأمن الطاقوي للعدوّ. من جهةٍ أخرى، ما حقل كريش إلّا بعض الثروات التي يعيدها الخطّ الجديد إلى لبنان. فأكبر الحقول المحتملة جنوب البلوك الرقم ٩ وأهمّها وأكثرها احتمالاً لاكتشاف الغاز (حقل قانا) يصبح بشكل تام ضمن المنطقة اللبنانيّة الاقتصاديّة الخالصة. هذا يشكّل معطى استراتيجياً جديداً في آليّة تطوير هذا الحقل من الجانب اللبناني، فلا حاجة حينئذٍ إلى أيّ تنسيق من أيّ نوعٍ كان مع العدو لتطوير الحقل وأيّ باب من أبواب التطبيع المتأتّية من ذلك التنسيق. على أنّ الخطّ الجديد وتداعياته ستخلق أيضاً مُعطى جديداً من التحدّيات واحتمالات المواجهة مع العدو الإسرائيلي، وما على لبنان إلّا التجهّز لها ولِكِلَفِها بخاصّة إذا ما قرّر خوض غمار معركة الدفاع عن حقوقه حتّى آخرها، وهذا ،للأسف، ما لم تلح بوادره. ففي معركة الحدود والحقوق هذه، لا شكّ بأنّ الوضع السياسي والاقتصادي الحالي المهشّم والانقسام الوطني غير المسبوق تشكّل أسوأ الظروف لأيّ مفاوضات يمكن أن يقوم بها لبنان مع العدوّ.
المشهد اللبناني الحالك وانشغال معظم اللبنانيين بتأمين قوت عيالهم في غمرة الانهيار يُنذر بتمرير الصفقات. هذا ما شهدنا إرهاصاته عبر التهافت على التنازلات المجّانيّة قُبيل وخلال زيارة آموس هوكشتاين الى لبنان أواخر السنة الفائتة، رغم نصاعة الحقّ اللبناني والعمل المحترف الذي قام به الوفد اللبناني المفاوض لحماية هذا الحقّ. يهدف هذا العدد المرجعي إلى تقديم مادّة متكاملة عن تاريخ ملفّ ترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة، والمعطيات القانونيّة والتقنيّة التي تثبّت الخطّ اللبناني 29 حدوداً لمياهنا الجنوبيّة من بحرنا الإقليمي الى منطقتنا الاقتصاديّة الخالصة. ليس الهدف الرئيسي توجيه الاتّهام في بلدٍ انهار اقتصاده ونهشه الفساد المستشري في إداراته منذ الطائف، ولم يُحاسب مسؤولٌ واحدٌ فيه على ذلك. ما نبتغيه هو عرض الحقائق ودقّ ناقوس الخطر لكي يرفع المواطن صوته من أجل حقّه وحقّ أبنائه وأحفاده بثروات بلده بوجه من شرعوا بالتنازل عن جزء كبير منها.