حقل كريش

يقع حقل كريش بشطريه الرئيسي والشمالي حوالى 75 كم شمال غرب مدينة حيفا الفلسطينية وحوالى 70 كم غرب بلدة الناقورة اللبنانية. وهو الحقل الوحيد الذي شهِد ويشهَدُ أنشطةَ تنقيب وتطوير مُعلنةٍ شمال وجنوب الخطّ الّلبناني 29. في الوقت الذي كان فيه لبنان غارِقاً في موجاتٍ من المناكفات السياسيّة الداخليّة، وانغمست فيه المنطقة العربيّة بحربٍ غير مسبوقة، كان العدو يمضي بخطواتٍ مُتسارعةٍ للتنقيبِ وتطوير حقول الغاز في المياه العميقة وشديدة العمق. حُفر بئر الاستكشاف الأوّل KM-01 في حقل كريش الرئيسي في آذار 2013 واكتُشفت حينذاك كمّيات تجاريّة كبيرة من الغاز والنفط السائل الخفيف (condensate).

تِبعاً لنتائج بئر الاستكشاف هذا، وبئر الاستكشاف الناجح في حقل تنين، بدأت شركة إينيرجيان بوضع خطط تطوير حقل كريش الرئيسي عبر سفينة إنتاج وتخزينٍ وتفريغٍ (FPSO) بطاقةِ معالجةٍ كبيرةٍ تسمحُ بالإنتاج من الحقلين، على أن يبدأ الإنتاج من حقل كريش أوّلاً يتبعه بعد فترة طويلة نسبيّاً، الإنتاج من حقل تنين. بتاريخ 11 كانون الثاني 2017 أعلنت الشركة عن جهوزيّة خطّة التطوير التي نُشِرت بتفاصيلها مع استثناءات قليلة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بتاريخ 20 حزيران من السنة ذاتها أعلنت الشركة عن عرض خُطّة التطوير للموافقة من قِبل "مفوّض البترول الإسرائيلي" (Israeli Petroleum Commissioner). وفي 30 آب 2017، حصلت إينيرجيان على موافقة حكومة العدو على خطّة الإنتاج وباشرت بالبدء بتنفيذ الخُطّة المذكورة. أعلنت الشركة في 29 كانون الثاني 2018 عن تعاقُدِها مع شركة Stena Drilling المتخصّصة بالحفر في المياه العميقة وشديدة العمق لحفر وتجهيز آبار الإنتاج في حقل كريش. نتيجة لذلك أصبح عدد آبار الإنتاج في حقل كريش الرئيسي ثلاثة آبار. توقّعت الدراسات منذ اكتشاف حقل كريش الرئيسي وجود الغاز بكمّيات تجاريّة شمال حقل كريش الواقع بالكامل شمال الخطّ الّلبناني 29. في 25 حزيران 2018 أعلنت شركة إينيرجيان عن موافقة مجلس إدارتها على حفر بئر استكشاف شمال كريش.

صورة لسفينة الإنتاج التي يجري بناؤها في سنغافورة والتي من المفنرض أن تُبحر قريباً للمياه الفلسطينيّة ليجري عبرها الإنتاج من حقل كريش بشطريه

حُفِر بئر الاستكشافKN-01 في آذار/نيسان 2019 وقُيّم في تشرين الأوّل من السنة ذاتها، وأُثبتت التوقّعات وجود احتياطات كبيرة من الغاز شمال كريش. بناءً على نتائج بئر الاستكشافKN-01 ، عدّلت إينيرجيان خطّة الإنتاج لتُضيف شمال كريش إلى الخُطّة وانتهت من الخّطة الجديدة في 7 نيسان 2020، وعرضتها للموافقة التي حصلت عليها من وزارة الطاقة "الإسرائيليّة" في شهر آب 2020 وأُعلِن المضيّ قُدُماً بخطًة التنفيذ في 14 كانون الثاني 2021.
حُفر بئر الاستكشاف KN-01 في آذار/نيسان 2019، وأثبتت التوقعات وجود احتياطات كبيرة من الغاز


يبعد بئر KN-01 قرابة 3 كم شمال الخطّ الّلبناني 29، وقرابة 8 كم جنوب الخطّ 23. وكما تبيّن الرسوم التوضيحيّة، فإنّ شمال كريش يقع بأكمله شمال الخطّ الّلبناني 29 ويبتعد حوالى 5 كم عن طرف حقل الغاز اللبناني المُحتمل العابر للخطوط الواقع جنوب غرب البلوك رقم 9. أيّ اكتشافات جديدة في المنطقة القريبة من حقل كريش بشطريه يمكن تطويرها وإنتاجها بسرعة عبر سفينة الإنتاج (FPSO) القادمة، إذ إنّ قدرة الإنتاج والتخزين والتفريغ لهذه السفينة تتعدّى الكمّيات اليوميّة المنوي إنتاجها من حقليّ كريش وتنين.
تقدّر الكِلَف الرأسماليّة لتطوير حقل كريش الرئيسي بـ 1،7 مليار دولار ويُتوقّع بِدء الانتاج منه في منتصف 2022، حال وصول FPSO التي يجري بناؤها في سنغافورة. أمّا الإنتاج من شمال كريش فمُتوقّع في النصف الثاني من 2023.
كلّ المذكور أعلاه من نشاطات التنقيب والتطوير من جانب العدو في شطريّ كريش الرئيسي والشمالي منذ 2013 ولغاية 2019، ونتائج دراسة المركز الهيدروغرافي البريطاني (UKHO) والتي صاحبها وتبِعها دراسة العقيد الركن مازن بصبوص بين يديّ صنّاع القرار في لبنان.



أهمية حقليْ كريش
بحسب تقييم شركة DeGolyer and MacNaughton تبلغ احتياطات (2P) حقل كريش الرئيسي 1,41 مليار قدم مكعبٍ من الغاز و61 مليون برميل من النفط السائل (condensate) بينما تبلغ احتياطات شمال كريش 1,14 مليار قدم مكعبٍ من الغاز و34 مليون برميل من النفط السائل. هناك ميزةٌ تقنيّةٌ لغاز كريش غير موجودة في حقول الغاز الأخرى المكتشفة في المياه الفلسطينيّة المحتلّة (تامار وليفياثان) ولِتلك الميزة تبِعاتها الاقتصاديّة الإيجابيّة لما للنفط السائل الخفيف من تفوّق في القيمة التجاريّة على الغاز. تتمظهر هذه الميزة أكثر كلّما اتّجهنا شمالاً. إنّها كمّيات النفط السائل المُذاب في الغاز. فمقابل كلّ مليون قدم مكعب من الغاز ينتجه حقل تمار أو ليفياثان مثلاً، يُصاحب تلك الكمّية أقلّ من خمسة براميل من النفط السائل. هذا العدد يبلغ أكثر من 20 برميل في كريش الرئيسي ويصل الى 35 برميلاً لكلّ مليون قدم مكعب في شمال كريش. ومن المحتمل أن يتكرّر نفس سيناريو كمّيات النفط السائل المُذاب العالية في الغاز عندما نتّجه شمالاً وصولاً الى الحقل الّلبناني العابر للخطوط.

هدر وتأخير من الجانب اللبناني
في 28 آذار 2013، أعلن وزير الطاقة والمياه، آنذاك، جبران باسيل، أسماء 52 شركة مؤهّلة من ضمن الشركات التي تقدّمت للتأهّل للمشاركة في دورة التنقيب الأولى في المياه الاقليميّة اللبنانيّة. كان عدداً كبيراً بكلّ المقاييس وخاصّةً إذا قيس بعدد الشركات المهتمّة بالتنقيب في المياه الإقليميّة لفلسطين المحتلّة. وقتذاك، باهى الوزير، عن حقّ، بهذا الإنجاز بخاصةٍ في حمأة المنافسة مع العدو في هذا المجال الاستراتيجي.
تأخر التقدّم لدورة التراخيص الأولى، الذي كان من المفترض أن يبدأ ويُستكمل في العام 2013، لأسباب عديدةٍ يحقّ للبنانيين واللبنانيات أن يعرفوها ولم يعرفوها. كانت كلفة التأخير باهظةً على لبنان. كان سعر النفط في ذروته في العام 2013 (بحدود 100 دولار للبرميل) وكذا كانت شهيّة الشركات النفطيّة للمخاطرة في مشاريع الاستكشاف تِبعاً لارتفاع ميزانيّات التنقيب في هذه الشركات بسبب الفوائض المالية المُتأتّية من ارتفاع اسعار النفط. كان التأخير هدراً للمقدّرات الوطنية بطريقةٍ غير مباشرةٍ، هدراً لا يُحاسِب عليه القانون ولا الشعب في بلدٍ لا يُحاسَبُ فيه على الفساد والهدر المباشر أساساً فكيف بالتقصير.


لسببٍ أو لآخر، استفاق المسؤولون مجدداً بعد ما يُقارب 4 سنوات من الرُقاد وطُرحت دورةُ التراخيص الأولى من جديد. هذه المرّة، ولأسبابٍ موضوعيّةٍ تتعلّقُ بأسعار النفط المتدنّية لفترةٍ طويلةٍ، تدنّى مستوى الاهتمام بالتنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية اللبنانية. في نهاية المطاف، تقدّم تكتّل شركات (كونسورتيوم): توتال، ايني ونوفاتيك بعرضين عن الرقعتين 4 و9. ولم يُقدّم أيُّ عرضٍ عن الرُقع الثلاث الأُخرى: 1 (المحاذية للمياه الإقليمية السورية)، 8 و10 (المحاذيتين للمياه الإقليمية لفلسطين المحتلّة). في 14 كانون الثاني 2018 أعلن وزير الطاقة والمياه، آنذاك، سيزار أبي خليل، فوز الكونسورتيوم "بالمزايدة" وتمّ تلزيم الرقعتين للتكتّل المذكور بالشروط التجارية غير القابلة للتفاوض بطبيعة شروط المزايدة. انعدمت المنافسة، ما أثر بشكلٍ كبير على إمكانية مردودٍ اقتصاديٍّ أعلى للبنان من الرقع 4 و9. ومهما تعدّدت التفسيرات، يبقى التفسيرُ الجيوسياسي وراء تدنّي الحصّة اللبنانية من البلوك (الرقعة) رقم 9 مقارنةً بالبلوك رقم 4 التفسير المنطقيُّ بغياب أيّ تفسيرٍ وازنٍ آخر. يعني ذلك استغلال تكتّل الشركات للوضع الحدودي للرقعة وغياب المنافسة لتبخيس القيمة. وهذا بدوره منطقيٌّ بحسب قوانين المخاطرة من جهةٍ، وقوانين العرض والطلب أساساً. أضف الى ذلك، تعهّدت توتال بالابتعاد 25 كم شمالاً من خطِّ الحدود المُدّعى من قبل العدو، وقبول لبنان الضمني بهذا التعهّد مع ما يستتبع ذلك من تفويتِ فرصةِ التنقيب في حقولٍ مُفترضةٍ واعدةٍ لأسبابٍ، مرةً أُخرى، غيرِ مفهومةٍ. كانت حُجّة توتال في ذاك الوقت عدم وجود حقولٍ مفترضةٍ واعدةٍ في المنطقة المُبتعد عنها. وفي ذلك جدلٌ كبيرٌ. تكون توتال بذلك كالمنشار، استحوذت على التنقيب والتطوير في البلوك رقم 9 بسعرٍ بَخس وبقيت بعيدة من الحدود ومن أيّ ازعاج للعدو الإسرائيلي في هذا المجال.
تنص اتّفاقيّة التنقيب والإنتاج التي عقدها لبنان مع الكونسورتيوم توتال-إيني-نوفاتيك في 29 كانون الثاني 2018 على وجوب حفر بئرين على الأقلّ خلال 3 سنوات من تاريخ التوقيع: واحد في البلوك رقم 4 وآخر في البلوك رقم 9. عمليّات الحفر لبئر التنقيب الأوّل في البلوك رقم 4 تمّت في 26 نيسان 2020 ولم تسفر عن العثور على الغاز في الطبقة الجيولوجيّة المستهدفة ما عدا ما أسمته توتال "آثاراً للغاز تؤكّد وجود نظام هيدروكربوني".
بناءً على اتّفاقيّة التنقيب والإنتاج، كان من المُفترض انتهاء الحفر في البئر الأوّل في البلوك رقم 9 قبل أواخر 2020. على أنّ جائحة كورونا معطوفة على انفجار المرفأ أعطيا توتال هامشاً إضافياً للتأخير، فانتقل الموعد الرسمي لأيلول 2022.عقب زيارته الى فرنسا الشهر الفائت، أعلن وزير الطاقة والمياه الدكتور وليد فيّاض عزوف توتال عن الحفر في البلوك رقم 9 حتّى تسوية مسألة الحدود مع العدوّ. الدولة اللبنانية لزّمت البلوك ٩ لتوتال بشروط بخسة بحجّة وضعه الجيوسياسي، الوضع الذي لم يتغيّر منذ التلزيم ولغاية الآن. فإذا انتظرت توتال حتّى الترسيم تكون قد حصلت على الجائزة، البلوك ٩ وما يختزنه من ثروات، من دون مخاطرة. لوكنّا محظوظين بدولة قويّة تدافع عن مصالحنا، لكان عليها مواجهة ابتزاز توتال بتوجيه إنذار لتوتال وشركائها إما الحفر وإمّا إلغاء العقد. والخوف كلّ الخوف من أن يُستعمل ابتزاز توتال عبر تنصّلها من الحفر في البلوك رقم ٩ لحين ترسيم الحدود البحرية إلى سبب إضافي للتنازلات في ملفّ الترسيم. إلغاء العقد مع توتال، أو على الأقلّ التلويح بإلغائه، قد يكون مصلحة وطنيّة في ظلّ هذا التلكؤ فالتنصّل.
إلغاء العقد مع توتال، أو على الأقل التلويح بإلغائه، قد يكون مصلحة وطنية


بتاريخ 19 نيسان 2019 وافق مجلس الوزراء على إطلاق دورة التراخيص الثانية في المياه البحرية اللبنانية وحدّد ٣١ كانون الثاني ٢٠٢٠ موعداً نهائياً لتقديم طلبات الاشتراك فيها. ولكن، بناءً على طلب شركات النفط والغاز العالمية، ثمّ نظراً لتداعيات انتشار فيروس كورونا على الصعيد العالمي، أُجّل الموعد مرّتين. بتاريخ 23 تشرين ثاني 2021 وقع وزير الطاقة والمياه قراراً يقضي باستكمال دورة التراخيص الثانية في المياه البحرية اللبنانية، وقد حدّد القرار ١٥ حزيران ٢٠٢٢ موعداً نهائياً لتقديم طلبات الاشتراك في الدورة من قبل شركات النفط والغاز. شمل القرار الرقع الثماني غير المُلزّمة من أصل الرُقع العشر، مع العلم أن الرقعتين ٤ و٩ قد تم لُزّمتا بفعل دورة التراخيص الأولى للكونسورتيوم توتال-إيني-نوفاتيك. وشملت دورة التراخيص الثانية الرقعتين الجنوبيّتين 8 و10 ضمن سلّة الرقع المعروضة للتلزيم، مع العلم أنّ الرقعتين يحدّهما الخطّ 23 جنوباً. السبب في الاستعجال بعرض هاتين الرقعتين "مُبهم" فلا مصلحة في ذلك. إذ قد سبق لآموس هوكشتاين القول بصراحة إن الشركات الأجنبيّة لن تُقدم على التنقيب في الرقع الحدوديّة قبل الاتّفاق مع العدوّ. وسبق لتوتال تنصّلها من الحفر في البلوك رقم 9 بحجج مخاطر الحفر في البلوك.



ثروات نفطيّة ضخمة
قد يكون حقل كريش جزءاً صغيراً من الثروات المحتملة. تشير التقديرات مثلاً إلى احتمال قوي لوجود حقل غاز ضخم بكلّ المقاييس مع مخزونات محتملة تزيد بعدّة أضعاف عن تلك التي يحويها كريش بشطريه، يمتدّ عبر الجزء الجنوبي للبلوك رقم 9 بمحاذاة البلوك رقم 8 جنوباً مجتازاً الخطّ 23 بمسافة تزيد عن 5 كم إلى مشارف شمال كريش. إنّه الحقل العابر للخطوط الذي أطلق عليه الوفد اللبناني المفاوض اسم «حقل قانا». لا يجب أن تحجبنا الثروات المتوقعة في حقل الغاز المحتمل والعابر للخطوط جنوب البلوك رقم ٩ عن إمكانية وجود مكامن أخرى عبر طبقات جيولوجيّة مختلفة في مساحة ١٤٣٠ كم٢ بين الخطّين ٢٣ و٢٩. من جهة أخرى، لا تقتصر الثروات في هذه المنطقة على النفطيّة والغازيّة منها فحسب، بل تتعدّاها الى الثروة السمكيّة ناهيك عن الأهمّية الاستراتيجيّة لتلك المساحة الواقعة في المياه الإقليميّة الّلبنانيّة قُبالة شواطئ فلسطين المحتلّة. بالتالي يجب عدم حصر أي تقدير للأمور من قِبل صّناع القرار في أيّ مفاوضات بحقل الغاز المُحتمل والعابر للخطوط جنوب البلوك رقم ٩.