لا أحد في لبنان يعرف اليوم ماذا حلّ بالجامعات التي خَالَفتْ وزوَّرتْ، أو ما هي الإجراءات التي اتُخذت بحقّها، أو ماذا حَلَّ بالذين أَفسدوا وارتكبوا في عَيْنِ الشمس، وهل ثمَّةَ محاولات لإجراء تسويات على طريقة «عفا الله عمّا مضى» وكأَنَّ شيئاً لَمْ يَكن؟ هذه أسئلةٌ تَضُجُ بها الصروح الاكاديمية العريقة، التي تطلق مخاوف وترسم سيناريوهات للتصدي لأي نوعٍ من التسويات خارج الاصول القانونية والادارية والأكاديمية، الى حد إعادة فتح كل الملفات ومتابعتها في إطار التفتيش الإداري والملاحقات القضائية، وإعادة تظهير هذه الفضيحة المتشعبة وإيجاد حلولٍ قانونية لها.في زمنِ الغَفلة والإنشغال بالوضع المالي والصحي والاقتصادي، من واجب كل مهتمٍ بالتعليم العالي ان يرفع الصوت ويحَذِّرَ و يَتَّهِم، وصولاً الى تغريم المخالفين وتحذير المواطنين من المؤسسات المخالفة.
الكلام التقويمي والتحذيري حول مأزق التعليم العالي، من تزوير للشهادات وإعطاء رُخَصٍ والموافقة على إعتماد وزيادة إختصاصات جديدة، قبل إعطاء أُذونات مباشرة وإستكمال متطلّبات الحصول على التراخيص ومتابعة التدريس وفق القوانين والأنظمة، إضافةً الى التَسَرُّعِ بإعطاء تراخيصَ جديدة لاختصاصاتٍ وفروعٍ هندسية، ليسَ مسؤولية وزارة التربية والتعليم العالي وحدها، رُغْم كلّ ما يقع على الوزارة واللجان الأكاديمية والتنظيمية المشرفة على التعليم العالي بكلّ مفاصله، من المديرية العامة، التي لا تزال من دون هيكلية إدارية، الى مجلس التعليم العالي، واللجنة الفنّية، ولجنة الإعتراف والمعادلات، ولجنة الكولوكيوم ، بل إن المسؤولية هنا مسؤولية تراكمية، ويتحمّلها بالمباشر كُلّ مَنْ تهاونَ واستفادَ وتغاضى وإستغَلّ التزوير وحالات التسيُّب وإستثمرها لمصلحته الفردية، أو أساء استخدام غياب القوانين والأنظمة من ناحية اخرى، ما جعل العمل في المديرية يجري وفق مبدأ «التكليف» والاستعانة بمعلّمين من ملاكات الوزارة، ما ساهم في حالة اللّإستقرار والتفرٌد في إدارة هذا المرفق العلمي، بعيداً عن الشفافية والرقابة.
فحالةُ الفراغ التي تعيشها المديرية العامة، تنعكس على ظروف عمل الادارة ومصالح الجامعات والطلاب واصحاب العلاقة بشكل مباشر، بحيث ان التأخّر في ملء الفراغ عن طريق التعيين بالاصالة او بالوكالة، ستكون له تداعيات اكيدة على دور المديرية وإنتاجيتها. هذا ما يستوجب الإسراع بردم الهوّة الإداريّة وتحقيق نقلة نوعية عن طريق تسمية شخصية ذات رصيد أكاديمي لتولّي مهام المديرية، بعدما فرضت ظروف معيّنة حالة الفراغ فيها، وذلك حرصاً على إستمراريّة عمل المرفق العام والحؤول دون توقف الخدمات التي يوفرّها.
والمسؤولية الوطنية التي تُلقى على وزارة التربية في هذه المرحلة الإستثنائية، هي التركيز على وجوب الإمساك بمفاصل الوزارة والسعي لإعادة هيكلة اللجان المركزيّة، من مجلس التعليم العالي، الى اللجنة الفنيّة، ولجنة الاعتراف والمعادلات، بهدف إعادة بناء أسسٍ صلبة تمكّن من مواكبة التحديثات الاكاديمية والتنظيمية التي ترتقي بالتعليم العالي.
والسؤال المحوري الذي يرتسم اليوم في ظلّ هذا المأزق، هو: «كيف نعيد بناء الثقة بالتعليم العالي؟ وأين هي مسؤولية النقابات القانونية، مثل نقابة الأطباء واطباء الاسنان والصيدلة والهندسة، في رقابتها الرعائيّة للتعليم العالي، من تراخيص وفروع واختصاصات واعتمادات اكاديمية، فضلاً عن دورها في إمتحانات «الكولوميوم» و«أذونات ممارسة المهنة»؟ ونحنُ نراقبُ بعَجَبٍ وإستغرابٍ، مواقفَ «اللَّاموْقف» للنقابات التي تتعامل مع تحديات التعليم العالي وما يشوب هذا القطاع، في بعضِ جوانبه، بتساهلٍ ولامبالاة، وكأنّ وظيفة النقابة تحوّلتْ الى قبول طلبات الخريجين الجدد وجباية رسوم الانتساب منهم، من دون قيامها بأيّ عمل رقابي وتحصيني لحماية المهنة والمنتسبين إليها؟!
ولنا أن نسأل بإهتمامٍ: أيُّ دورٍ للمرجعيات والقيادات السياسية في تحصين التعليم العالي ومنع إنهياره أوْ النَيْلِ من قُدراتهِ والحفاظِ على هَيْبتِهِ ودوره الحضاري والعلمي؟ فهل أمسى هذا القطاع، من الكماليات على جدول إهتمام المسؤولين؟!.
وتبرزُ المشكلةُ الأكبر من خلال غياب «المثقف اللبناني» عن اتخاذ المواقف الرافضة لزعزعة الكيان الأكاديمي اللبناني. فمنذ تصاعد الكلام حول أزمة التعليم العالي وما تكشَّفَت عنه التحقيقات من تجاوزات كادت أن تطال مفاعيلها بعض المؤسسات والإدارات، لم نقرأ أي موقفٍ؛ غير مقالات يسيرة، وكأنَ المثقفين استسلموا أو استقالوا من دورهم، أو أن بعضهم دخل بازار التعليم العالي، مشاركاً أو مستفيداً. ثمّ من الواجب ان نطرح: أيّ دورٍ للجامعات والمعاهد العليا في التصدي لما حصل؟
إن مسؤولية الجامعات العريقة تكمن في عدم رفعها الصوت وإطلاق إنذارات التحذير من مخاطر وتهديدات ما يحدث، وكأن هذه الجامعات استكانت أو يئسَتْ من الوضع ومن المتحكمين به، ففضلوا الإكتفاء بإدارة مؤسساتهم ولم يِعيروا أزمة التعليم العالي الإهتمام الواجب.
و حتى الأحزاب والقوى المجتمعية، سجّلتْ غياباً ملحوظاً وتباعداً يحملُ تساؤلاتٍ حادة عن الإنتصار لكرامة التعليم العالي وما يتهدده من اخطار. وكان لافتاً خلو البيانات السياسية ومداخلات النواب في جلسات المناقشة من أيّ موقف حول أزمة التعليم العالي...
كذلك الحكومات ببياناتها الوزارية ومقررات جلساتها المتعاقبة، لم تأتِ على أي ذكرٍ للمشكلة لا من قريب ولا من أقرب...
و حتى وسائل الإعلام، إلَّا قليلُها الرصين، غابتْ تماما عن طرح القضيّة ومتابعتها بمسؤولية تتوافق مع الدور النقدي البنّاء للاعلام، من حيث انه نيابة عامة إعلامية.
ألا يستحق التعليم العالي إعلان حالة طوارئ أكاديمية لمواكبة هذه القضيّة على خطورتها؟! ثم، أليسَ من الضروري إنشاء خلية أزمة على الأقل لبحث سبُل الحد من انهيارات الثقة بالقطاع، والنهوض به من جديد، ونَحْنُ على ابواب سنةٍ جامعيةٍ جديدةٍ، تحملُ الكثيرَ من التحدياتِ حول ما ينتظرُ الجامعات والطلاب في ظِلِّ مواسم «كورونا» والأَحوَالِ الإجتماعية غيرِ المُستَقِرَّة والتي ستتركُ ندوبها وآثارها على المجتمع الأكاديمي.

*رئيس لجنة الإعتراف والمعادلات بالإنابة في المديرية العامة للتعليم العالي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا