سيأتي يوم نكتشف فيه أن بلدنا ظاهرة صوتية! وأن كل ما تعلمناه عن لبنان «واحة الحريّات»، ونردده كالببغاوات، ونزدهي به على العالم، غارقين في فنون الفخر الجاهلي والعنجهية، والتعالي على المحيط… ليس إلا لغواً وكلاماً أجوف وفولكلوراً (بالمعنى السطحي لا الحضاري لكلمة فولكلور). حتى إثبات العكس، الحريّة في لبنان كذبة كبيرة. مثل «راجح» في الأوبريت الرحبانية الشهيرة: «الكذبة اللي صارت زلمة»! لم نعد نتمتّع حتى بـ «حرية نسبية» كما قد يتبادر إلى ذهن التسوويين بيننا. هناك ربّما حريّة اعتباطيّة، خليط من الفوضى، والتسويات، والاحتماء بجماعات النفوذ، أو بالرَبع والعشيرة والجماعة الصغرى، أو خلف حصانة المحاصصات والتوازنات الطائفيّة. أو هناك حرية من مخلفات الماضي السعيد الافتراضي غالباً. لكن الإعلام فقَدَ عزّته من زمان، ولم يبقَ منه إلا المظاهر. وهو عاجز عن الدفاع عن نفسه من خلال مؤسسة نقابية جامعة، مستقلّة، جديرة بهذا الاسم. نحن بلد متحضّر في المظهر. حين أراد الرئيس الراحل رفيق الحريري أن «يعيد بناء» لبنان، ماذا فعل؟ بنى الواجهة فقط، وترك خلفها جحيماً من البؤس والتخلف والأمية والتعصّب والحرمان والديون الفظيعة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحريّة: يعلم الجميع في لبنان، رغم الخطابات الرنانة وفنون التكاذب، أن ما نتمتّع به ليس أكثر من واجهة «ديموقراطيّة».في مملكة الطوائف، لم نعد نتميّز في شيء عن سائر الدول العربية على مستوى الحريّات العامة. لا حرية صحافة في لبنان اليوم، بل فلتات شوط، واستثناءات، واستمرار عنيد للأسطورة القديمة. أما القلّة من الصحافيين التي تصرّ على تطبيق أصول المهنة، وتحكيم ضميرها، وممارسة الدور المنوط بالإعلام في أي نظام ديموقراطي، فعالقة بين فكّي الكمّاشة، بين ترغيب وترهيب. هناك من جهة التدجين والاحتواء والتعبئة الفئوية والعنف السياسي، ومن الأخرى تقنيات شراء الذمم على أنواعه، وبينهما تنهال علينا الرقابة بسوطها الدامي. الرقابة بشتّى تجلياتها، خصوصاً ما يمكن أن نسمّيه «قمع القانون». نعم الرقابة هي القاعدة في جمهوريّتنا التراجيكوميديّة، أما حرية التفكير والتعبير، وحريّة الصحافة، فهما الاستثناء. بل الرقابات: المباشرة وغير المباشرة، الذاتية أو القسريّة. قد لا نبالغ إذا تحدّثنا اليوم عن مصادرة منهجيّة لحق النقد ونشر المسكوت عنه، وفضح الفساد والتسلّط والهدر، ونقل المعلومات التي ترتبط بحقوق الناس وصحّتهم وحياتهم ومصائرهم، تلك المحتجزة بعناية في أدراج السلطة وغرفها المعتمة.
نحن صحافيون بـ «حريّة مشروطة». مثل المحكوم الذي يترك له في بعض الحالات التخفيفية، بعدما أتم جزءاً من محكوميّته وأثبت حسن سلوكه، أن يخرج من السجن خلال النهار بسوار إلكتروني في قدمه، على أن يعود لينام في السجن. نحن نهد المراجل نهاراً، ثم ننام في السجن كل ليلة. لبنان بلد يستطيع فيه العميل أن يقاضي صحافيّاً كشف خياناته الموصوفة، الموثقة، ويربح الدعوى! يكفي أن نرصد أداء مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية الذي حرفه القضاء عن دوره الأوّل (المشكوك بقانونيته أصلاً) ليمارس «صيد الساحرات»، ساعياً إلى تكميم الفضاء الافتراضي، مطارداً المغردين، وما يسمّى بـ«الناشطين»، والشبان المتحمّسين على مواقع التواصل، وصولاً إلى الفنانين والصحافيين. نذكر بمزيج من المرارة والسخرية كيف وجدت زميلتنا جوي سليم نفسها مرّة في «ضيافة» هذا الجهاز، تتلقّى درساً سريالياً في علم اللاهوت!
في لبنان لك الحق في «كشف الفساد» طالما أنّها لعبة كرنفاليّة تسلّي الحشود… لكن إيّاك أن تقترب من منطقة الخطر. إيّاك أن تزعج أباطرة السلطة وحراس النظام. في دولة القانون، حين ينسب أحدنا إلى شخصية معنويّة أو ماديّة اتهامات تطاول سمعتها دونما قرائن وأدلّة، من الطبيعي أن يدفع ثمن خطئه. لكن في لبنان، إذا كشف أحد الصحافيين (إحدى الصحافيات) عن أخطاء كبرى أم ممارسات شائهة وغير قانونيّة ارتكبتها شخصيّة عامة، وكان يمتلك كل الإثباتات والأدلّة اللازمة، فهو يقع أيضاً تحت طائلة القانون (!) بل قل يواجه «الاضطهاد» القانوني لأنّه قام بدوره ومارس مسؤوليّته المهنيّة والأخلاقيّة. التهمة؟ «القدح» (المادة 388 من قانون العقوبات) أو «التحقير» (المادة 383) الموجّهين إلى «موظف ممن يمارسون السلطة العامة»، أو إلى «قاض في منصة القضاء» أو «المحاكم أو الهيئات المنظمة أو الجيش أو الإدارات العامة».
الترجمة الفعليّة للمادتين أنّك لا تستطيع أن تكتب - وإن كانت في حوزتك كل الأدلّة - عن ضابط فاسد أو قاض أطلق سراح تاجر مخدرات، أو عن جهاز أمنيّ ارتكب أخطاء فاضحة في ممارسة عمله. لا يحقّ لك أن تنقل معلومة موثقة عن فضيحة تطاول بشكل عرضي قائداً لمؤسسة أمنية، أو تكشف للرأي العام، وثائق استراتيجيّة تتعلّق بأمنه وسيادته الوطنيّة. ما هي وظيفتك والحالة تلك، وما هو دورك؟ كيف تقوم بمراقبة الحياة العامة ومحاسبة من يتحكّم بحياتك وصحتك ورزقك وثروات بلدك وأمنك ومؤسساتك الوطنيّة؟ ما جدوى كل هذه المواويل الجوفاء المكررة عن «مكافحة الفساد» التي يشنف بها آذاننا أباطرة النظام، البارعون في التنويم المغناطيسي، وسائر فنون الخديعة والتخدير.
أي لبنان هذا الذي تحاكم فيه محكمة عسكريّة صحافياً بسبب تغريدة؟ تغريدة تسخر من جهاز أمني ارتكب هفوة مخجلة جديرة بأفلام إسماعيل ياسين، ومسلسلات غوار الطوشة؟ أي لبنان هذا الذي يلاحق فيه النائب العام العسكري صحافيّاً أمام محكمة المطبوعات، لأنّه قام بعمله في فضح المسكوت عنه مستنداً إلى معطيات واقعيّة ومعلومات مثبتة؟ هذا ولم نصل إلى وصاية السلطة السياسية على بعض القضاء، إذ تجعله وسيلة قمع لمنتقديها ومعارضيها؟ هاتان المادتان النائمتان من قانون العقوبات اللبناني، من يقف وراء إعادة إحيائهما بشكل مقلق، يتهدد ما تبقّى من هامش حريّة في هذا البلد المتصدّع؟ ألم يستغرب أحد هذه القائمة من الصحافيين الذين تعرّضوا، خلال فترة زمنية قصيرة، للتنكيل والهرسلة باسم القانون: آدم شمس الدين، رضوان مرتضى، ميشال قنبور، ميسم رزق… هؤلاء غيض من فيض النظام القمعي الآتي، إذا لم نتعاون جميعاً، في انتظار إعادة النظر في القوانين البالية، على إنقاذ «شرف الجمهورية الضائع».