يوحي التوضيح الذي أصدره رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري في 29 حزيران 2018، أنه يأتي في إطار حرصه على ضرورة التقيد بالتعميم الذي أصدره في السابع من حزيران بشأن التقيد بأحكام المادة 64 من الدستور التي تنص على أن «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال».لا خلاف على تفسير «المعنى الضيق». مع استقالة كل حكومة يتكرر التعميم نفسه: «... ما يدخل في نطاق تصريف الاعمال هي تلك القرارات التي من شأن عدم اتخاذها أن ينتج عنه فراغ كامل أو تعطيل لكل أعمال السلطة التنفيذية ووقف لإدارة مصالح الدولة العامة، وكذلك يدخل في نطاق تصريف الاعمال التصرفية التي تجد مبرراتها في حالة الضرورة والظروف الاستثنائية وتأمين الامن والنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي، وتلك التي يحتمل سقوطها إن لم تتخذ في مهلة محددة بالقوانين».
النص نفسه يتكرر منذ أصبح اتفاق الطائف دستوراً. لكن هل التعميم الصادر عن الحريري يأتي في الإطار نفسه، أي التشديد على ضرورة التقيد بالحدود الدنيا لتصريف الأعمال؟
نص التعميم الحريري غير مألوف. وبدلاً من التأكيد على ضرورة التقيد بموجبات تصريف الأعمال، فهو يعطي الوزراء الحق في الاستنساب والتوسع في صلاحياتهم. أكثر من ذلك، هنالك فقرة مفخخة تنص على الآتي: «إن الملفات والمعاملات التي يرى فيها الوزراء المختصون انطباقها على مبدأ تصريف الأعمال وأن من شأن توقيفها عرقلة تأمين استمرارية المرفق العام، يُمكن للإدارات المعنية استمرار إنجازها واستكمالها وفقاً للأصول المرعية الإجراء ودون الحاجة للاستحصال على الموافقة الاستثنائية بشأنها».
هذه فقرة تخالف التعميم الأول بدلاً من تأكيده (التقيد بالحدود الدنيا لتصريف الأعمال)، لا سيما لناحية إشارته إلى أنه «في حال اعتبار أن ثمة قراراً إدارياً يدخل في نطاق الأعمال التصرفية التي تقتضي الضرورة اتخاذه في خلال فترة تصريف الأعمال إيداع مشروع القرار رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال بشأنه على الموافقة الاستثنائية لفخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء».
قرر الحريري منفرداً التخلي عن صلاحياته وصلاحيات رئيس الجمهورية أيضاً، وحرّر الوزراء، بالتالي، من الحاجة إلى الحصول على الموافقة الاستثنائية، وترك لهم حق تقدير الأعمال التي تدخل في نطاق تصريف الأعمال!
لكن لماذا قرّر الحريري «وهب» هذا الحق المخالف للقانون إلى الوزراء؟
تشير المعلومات إلى أن الهدف المباشر لهذا «الوهب» هو تنفيذ المرسوم المشبوه والمهرّب الرقم 3260، الذي يسمح لشركات خاصة بوضع يدها مجاناً على قطاع الاتصالات، وخاصة على مشروع الألياف الضوئية، الذي وظفت فيه الدولة أموالاً طائلة، وتقدر قيمته حالياً بنحو 10 مليارات دوﻻر.
فقد تردد أن وزارة اﻻتصاﻻت حاولت شفهياً، وبشكل استباقي، التماس موقف مجلس شورى الدولة بشأن ما إذا كان تطبيق المرسوم يدخل في نطاق تصريف الأعمال أو ﻻ، فكانت الإجابة سلبية. وهو الرأي نفسه الذي سمعته مصادر سياسية أيضاً. كذلك خرجت أصوات من بعض القضاة والسياسيين تؤكد أنه بالرغم من نشر المرسوم المشبوه في الجريدة الرسمية، فإن وزير الاتصالات ﻻ يستطيع تطبيقه في ظل حكومة تصريف اﻷعمال، إذ إن القرارات التطبيقية للمرسوم، والتي تصدر باارتكاز عليه، تقع حكماً خارج النطاق الضيق لتصريف الأعمال، لأنها سوف تنتج آثاراً مباشرة وجذرية على الواقع اﻻستثماري والمالي لقطاع اﻻتصاﻻت، كما ستؤدي إلى تغيير في الواردات المالية لوزارة الاتصالات ونطاق مسؤولياتها عن إدارة واستثمار وصيانة الشبكة الهاتفية الثابتة والأكلاف المالية المرتبطة بها. كذلك ستؤثر على الواقع المالي والاستثماري للوزارة ومدى احترام قانون الموازنة العائد لها ومدى اتساع رقعة مسؤولياتها، وهذه كلها تطرح إشكالية رقابية مع السلطة التشريعية بعد اكتمال المجلس بانتخاب لجانه.
وعليه، فإن وزير الاتصالات كان محكوماً بترك تطبيق المرسوم إلى الحكومة المقبلة التي سوف يقع على عاتقها مسؤولية تأمين الواردات الضرورية لتغذية المالية العامة والخزينة ضمن قانون الموازنة، بما في ذلك واردات وزارة الاتصاﻻت.
وبالتالي، فإن أي خطوة باتجاه تطبيق المرسوم كانت ستتناقض حكماً مع مضمون التعميم الأول للحريري (… الأعمال التي ترمي إلى إحداث أعباء جديدة أو التصرف باعتمادات هامة أو ادخال تعديل جوهري على سير المصالح العامة وفي أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية لا تدخل ضمن نطاق تصريف الأعمال. ولا يجوز لحكومة مستقلية، من حيث المبدأ، أن تقوم بها باستثناء ما تعلق منها بتدابير الضرورة التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وامن الدولة الداخلي والخارجي وكذلك الاعمال الادارية الي يجب اجراؤها في مهل محددة بالقوانين تحت طائلة السقوط والابطال).
هل سبق لرئيس الجمهورية، المؤتمن على الدستور، أن اطّلع على تعميم الحريري قبل إصداره؟


أكثر من ذلك، لمجلس شورى الدولة آراء استشارية عديدة في مجال تحديد تصريف الأعمال، لا سيما منها الاستشارة الرقم 265/2005 والاستشارة الرقم 212/2005 والاستشارة الرقم 24/2003، التي تؤكد على القرار الصادر عن المجلس في قراره الرقم 614 الصادر في 27/12/1969، والذي يشير فيه إلى أن تصريف الأعمال يجب أن ينحصر في الأعمال اليومية التي يعود للهيئات الإدارية إتمامها ويتعلق إجراؤها في الغالب على موافقة هذه الهيئات، كتعيين أو نقل الموظفين وتصريف الأعمال الفردية التي لا يمارس عليها الوزراء سوى إشراف محدود.
ما سبق يؤكد أن أي قرار يصدر عن وزير الإتصالات جمال الجراح سيكون عرضة للطعن فيه أمام مجلس شورى الدولة وإبطاله بسرعة فائقة وسهولة كبيرة. انطلاقاً من هذه النتيجة المرتقبة، ومن أجل الالتفاف على المسار القانوني الذي يفترض أن يسلكه المرسوم (تأجيله أو تعريضه للطعن)، هبَّ الحريري لنجدة وزيره، فأصدر توضيحاً لتعميمه الرقم 21/2018، هدفه توفير الغطاء للجراح في سعيه إلى مخالفة القانون وتحويل مرسوم وهب شبكة الفايبر أوبتيك لشركات خاصة نافذة إلى أمر واقع.
من دفع باتجاه هذا الخيار الحريري يدرك أن عدم التطبيق حالياً، يعني بمنطق الشركات ومن وراءها عدم ضمان تنفيذه لاحقاً، خاصة أن جهات سياسية عديدة تعتبر أن المرسوم هُرّبَ، ولا يتلاءم مع نظرتها إلى مستقبل القطاع، لا سيما في الشق المتعلق بإنشاء شركة اتصالات لبنان (ليبان تلكوم) التي ينص عليها قانون الاتصالات، وتنتظر تشكيل الحكومة المقبلة لطلب استرداد المرسوم قبل تنفيذه وإعادة النظر فيه تمهيداً لإلغائه. وعليه، فإن التطبيق الفوري يفرض أمراً واقعاً جديداً يعقّد الأمر، ويعطي للشركات حقوقاً مكتسبة.
ليس التوضيح غب الطلب الذي أصدره الحريري ترخيصاً للوزير لمخالفة القانون فحسب، بل يحرره من ضرورة الحصول على الموافقة الاستثنائية لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء (التعميم السابق الرقم 21/2018 تاريخ 7/6/2018)، فهل سبق لرئيس الجمهورية، المؤتمن على الدستور، أن اطّلع على تعميم الحريري قبل إصداره؟ وهل يدرك المسار الذي يسلكه من يريدون وضع اليد على بئر نفط الاتصالات وتضييع حقوق الدولة اللبنانية؟