خلال 10 سنوات تعرضت لشتى أنواع التعذيب في لبنان، البلد الذي استقبلها لتبدأ حياة جديدة كمدبرة منزل بتشجيع مسبق من صديقاتها. «أقنعوني بعدم الالتحاق بالجامعة، ففي لبنان الحياة أجمل، وفي مصاري كتير» تقول مارتا. لا جامعة في لبنان للإثيوبية إذاً، بل عمل. عمل بلا أي ضمانات أو حقوق. تتذكر: عشرة أشهر من التعذيب في البداية، كانت كفيلة بدفعها الى الهرب واتخاذ قرار بتأسيس حياة جديدة. تنقلت من عمل إلى آخر قبل أن تعمل في محل لبيع الأحذية. هناك تعرّفت إلى سليمان وتزوجته.
«ما ضل لبنانيّات؟ تجوّز من طينتك»، تقول مارتا مقتبسة من كلام والدَي سليمان وأقربائه الذين عارضوا هذا الزواج، وكذلك فعل أهل مارتا في بداية الأمر، متخوّفين من فارق العمر الكبير بينها وبين زوجها، ومِن غربتها. دفعت ثمن قرارها... «فأنا اليوم أدخل الى بلدي بفيزا»، تقول مارتا، إذ اضطرت الى التخلي عن جنسيتها الأثيوبية مقابل الحصول على اللبنانية، كما يقتضي القانون الإثيوبي. «حياتي صارت كلها هون»، تقول.
حياة طبيعية. هذا كل ما تريده. صالون تصفيف الشعر الصغير الذي استأجره لها سليمان في منطقة الدورة لم يعد كافياً وحده لإعالة العائلة بعدما خسر الزوج عمله بسبب مرضه. «افتتحت مطعماً مترين بمتر بالقرب من الصالون لتقديم الطعام الأثيوبي». البصل، والكثير منه، حفنة من البهارات على أنواعها، وباقي المكونات، لتحضير طبق طعام أثيوبي على وقع الموسيقى الأثيوبية في منزلها، قبل أن تحضرها الى مطعم بالكاد يتّسع لعدد من الطاولات والكراسي. لم تستمر الحال. ضاقت عين الجيران.

لم يسمع ولداها
اللبنانيان سوى صدى صوت واحد: أمّك سيرلنكية!
تذمروا من رائحة البصل، وبذرائع أخرى لا تقل تفاهة، للتضييق على مصدر رزق مارتا وعائلتها الصغيرة. لكنها لم تستسلم. افتتحت مطعماً جديداً، اختارته قريباً من القديم «كي لا تخسر زبائنها». تحضّر طبخاتها بالابتسامات، وترحب بزبائنها على اختلاف جنسياتهم. بضعة أمتار تفصلها عن صالون الشعر الجديد. تجزم أنّها لم تكن لتملك شيئاً لولا إصرارها... «بالقوّة وافق الزلمة يأجّرني المحلات»، وسبب تردّده كان «كلام الجيران الذين يعتبرون أن الأثيوبية بتجيب المشاكل عالحيّ». تحدّت الجميع لأجل زوجها وولدَيها. وبدلاً من «المشاكل» أحضرت الى المنطقة غنى التقاليد والعادات الأثيوبية.
يوماً بعد يوم كانت حالة يارا ويونان النفسية تزداد سوءاً بسبب تعرّضهما للسخرية من قبل أصدقاء المدرسة. مارتا حاولت أن تؤمّن لولدَيها سقفاً معقولاً من الرفاهية لتعوّض عن انشغالها في العمل: وظّفت مدبرة منزل لتعتني بهم، ومعلمة دروس خصوصية تتابع دروسهما، وفي عطلة نهاية الأسبوع تحضر يارا صفّ الرياضة البدنية، بينما يتدرّب يونان على كرة السلة. في النهاية لم يسمع الولدان سوى صدى صوت واحد: «أمّك سيرلنكية». ترفع مارتا عنها انحناءة الظهر وتنطق بنبرة حادة «بقول لأولادي لو انا سيريلنكية، لو هندية، متلي متلن». لم تأت المواجهات جميعها بنتيجة، فالولدان فضّلا العيش مع جدّتهما وخالتهما في أثيوبيا، متيقّنين من أن البلد الذي يحتضنهما في الصيف لن يبخل عليهما يوماً بشيء سوى عاطفة أمّ ضحّت ورضيَت أن تعيش بعيداً عنهما وعن زوجها. سليمان يعيش هناك مع ولديه ويقضي الوقت معهما، ترك لبنان وترك كل شيء لأجلهما. مارتا تشتاق إلى يارا ويونان. تشتاق إلى اثيوبيا.




المستودع التجاري

ثوانٍ خمس لاجتياز الممرّ، كفيلة بنقلك الى «مستودع مارتا التجاري». غرفة متوسطة الاتساع تعجّ بحقائب سفر جاهزة للشحن، تعهّدت أمام من يقصدها من أبناء الجالية الأثيوبية وبناتها في لبنان أن تشحنها الى ذويهم في أثيوبيا بربح بسيط، ويعاونها في ذلك يونس، شقيقها الذي جاء الى لبنان في البدء ليعمل في شركة لشحن البضائع. الى جانب الحقائب، صناديق ألبسة تبضّعتها من تركيا، جاهزة أيضاً لرحلة بيع وشراء في أثيوبيا.