سمير أمين في الثمانين. لم يتوقّع أي من أفراد عائلة المفكّر الاقتصادي البارز أن يعيش أكثر من أيام بعد مولده، لولا فلاحة بسيطة أنقذته من الموت بعدما فشل الأب والأم الطبيبان في التعامل مع حالته. ولد قبل موعده، هزيلاً مصاباً بالصفراء، ولم يستطع الرضاعة، أو تناول أيّ طعام عن طريق الفم، حتى الماء كان يتقيأه. بقي على قيد الحياة بفضل المحاليل، لم يستطع الأبوان الطبيبان التعامل مع حالته المركبة، بل إن أصدقاء العائلة اقترحوا على الأبوين ترك الصغير يُحتضر ... ولولا أن مارست الأم «كل أنواع الرعاية الطبية ممزوجة بحبّ الأم لما بقيتُ على قيد الحياة». عندما بلغ عامه الأول، كانت الأسرة في إحدى القرى في دلتا مصر عندما صادفت فلاحة سألتها عن حالة الطفل، فشرحت الأم وضع طفلها الصحي بدقة. وهنا، اقترحت الفلاحة أن تدعو الأسرة الصغيرة الى منزلها الفقير لعلاج الصغير. وافقت الأم بحثاً عن وسيلة للشفاء.
جاءت الفلاحة ببعض الأعشاب. وبعد بضعة أيام، شفي الطفل العليل، لكن كي يشفى تماماً، طلب الأطباء ألا يتناول أنواعاً محددة من الطعام حتى سن البلوغ، مثل الحلوى والشوكولاته والقشدة. منذ طفولته، درّب نفسه على ضبط النفس: «كان أصدقاء العائلة يندهشون من إرادتي القوية عندما يلاحظون رفضي تناول أي قطعة حلوة عندما أكون برفقة أطفال آخرين». وهكذا أيضاً صار شيوعياً. في سن السادسة، رأى في بورسعيد طفلاً صغيراً يبحث عن الطعام في القمامة. سأل والدته عن السبب، فكانت إجابتها «لأنّ المجتمع سيّئ يفرض ذلك على الفقراء». وبحماسة طفل أجابها: «سأغيّر هذا المجتمع». ضحكت الأم وقتها... بعد أربعين عاماً، حكى سمير أمين هذه القصة لأحد أصدقائه الذي كان يسأل الأم متى صار سمير شيوعياً، فأجابته: «كما ترى منذ سن السادسة!».
الحادثان كان لهما تأثير كبير في خيارات صاحب «أزمة المجتمع العربي». وهي الخيارات التي يعلنها دوماً: «أنا ماركسي شيوعي أممي»، رغم أن بعض منتقديه يرون أنّه مرّغ الماركسية في الوحل عندما أعلن أنّها تنطلق من ماركس، لكنّها لا تقف عنده. يقول: «طالما أنّ الرأسمالية موجودة، أعتقد أنّ نقد الرأسمالية لا بد من أن يكون موجوداً. وبما أنّ الماركسية هي الوسيلة الفاعلة لنقد الرأسمالية، فلا بد من أن تكون موجودة».
يدين أمين بتكوينه الأساسي لأسرته، ونقاشاته مع جدّه المصري الذي كان مهندساً في سكة الحديد، ولم يصل إلى منصب مرموق بسبب معارضته الحادة للاحتلال الإنكليزي في مصر: «كان يفرض على الإنكليز ألا يتحدثوا معه إلا بالعربية، رغم إجادته الإنكليزية. وكان والدي يكره الملكية ويتمسّك بالقيم العلمانية. وعندما قامت ثورة يوليو وأيدها الشيوعيون المصريون وكان من بينهم والدي، قال له جدّي: «أنتم تسيرون في الطريق الخطأ. هؤلاء العسكر محدودو النظرة، فاشيون مسلمون متعصّبون لا أكثر». ربما لهذا رأى أمين أنّ انقلاب عبد الناصر قطع الطريق على القوى التقدمية «حاملة مشروع المستقبل في البلاد» على حد تعبيره.
في عام 1957 عاد سمير أمين من فرنسا حاملاً دكتوراه في الاقتصاد السياسي من جامعة السوربون، وانخرط في العمل في المؤسسة الاقتصادية «الحكومية التي كانت جزءاً من إدارة عملية التمصير والتأميم الاقتصادي في مصر». ثم غادر مصر عام 1960 إلى باريس بسبب أزمة «الحركة الشيوعية» مع عبد الناصر. بدأت رحلته العالمية من فرنسا إلى مالي ثم السنغال ثم جولاته في أفريقيا والعالم في رحلة فكرية ونضالية غنية بالخبرات. وفي تلك الفترة، كتب «مصر الناصرية» ونشره باسمه الحركي حسن رياض. هنا، رأى أنّ غياب الديموقراطية كان عيباً رئيساً في نظام عبد الناصر : «أمّم السياسة وألغى الأحزاب، ما أوجد فراغاً ملأته جماعات الإسلام السياسي».
الثورات العربية حدث مفصلي أيضاً في تاريخ سمير أمين: «ما جرى في مصر لم يكن متوقعاً. كنت أرصد غلياناً في الشارع توقعت أن يؤدي إلى إصلاحات، لكن الأنظمة لم تلتفت إلى ضرورة الإصلاح، فكانت الثورات». ثورات إذاً رغم أنه كتب بعد أيام مما جرى في مصر أن ما حدث كان «أكبر من انتفاضة وأقل من ثورة». يضحك: «هو مجرد خطوة ثورية، تليها خطوات أخرى. كي نسمي ما جرى ثورة، لا بد من تحقيق ثلاثة أشياء: العدالة الاجتماعية، ولن يحدث ذلك إلا بسياسة اقتصادية مختلفة عما كان سائداً. ثانياً، ديموقراطية حقيقية للمجتمع، وهذه أكثر من مجرد انتخابات بل دمقرطة للعلاقات الاجتماعية في العائلة والعمل. وثالثاً تحقيق استقلالية للوطن في المنظومة العالمية. وللأسف الثورة لم تحقّق أياً من هذه الأهداف حتى الآن. لكنها كأهداف موجودة بقوة في أذهان الشباب». لكنّه يرى أنّ الإنجاز الأكبر الذي تحقق يكمن في أنّ «العمل الجماهيري يمكن أن يعطي نتائج مهمّة طيلة أربعين عاماً من الحكم، فقد الناس الأمل في قدراتهم. وكان الشعار المعلن: مافيش فايدة». التكيف الفردي كان الحل الوحيد، لكنّ «الثورة أثبتت العكس».
صاحب «ثورة مصر» يرى أنّ قوى «الرجعية» تراهن على أن تكون الانتخابات المقبلة في مصر «مقبرة الثورة». وهذا التحالف تقوده قوى الإسلام السياسي ـــــ «الإسلامجية» كما يصفهم ـــــ مع بقايا النظام القديم، لمصلحة أميركا وإسرائيل والسعودية. و«لاستمرار الثورة، يجب تأسيس برلمان مواز للبرلمان المقبل، يضم القوى الوطنية الساعية إلى أن تصبح مصر دولة مدنية، ويمثل قوة ضغط ومحاسبة للبرلمان المنتخب. وهو الأمر الذي يجعل جذوة الثورة مشتعلة دوماً».
هذا عن مصر، لكن ماذا عن الدول العربية الأخرى التي انفجر فيها بركان الثورات؟ يقول: «الغليان موجود في كل الدول العربية»، لكنه يتوقع أن يتخذ الحراك السياسي في المغرب والجزائر أشكالاً أخرى بخلاف مصر وتونس، «لأنّ النظامين أدركا ما لم يدركه نظام الأسد بأن الإصلاح أفضل من المواجهة. قد تحدث بعض الانتفاضات هنا وهناك وستقود إلى الإصلاح. أما في سوريا، فقد خسر النظام شرعيته. لقد واجه الأسد التدهور بمزيد من العنف البوليسي، لكن للأسف، فالمعارضة السورية ليس لديها برنامج. مطلبها الوحيد هو رحيل بشار الأسد، وأي حركة من دون مطالب ستعطي شرعية كبيرة للإخوان المسلمين».
أما الوضع في ليبيا، فأكثر تعقيداً «ليبيا مجرد منطقة جغرافية، تربط المشرق العربي بالمغرب العربي. لذا الإقليمية في ليبيا قوية جداً. والقذافي بهلوان ينتقل من أقصى اليسار إلى اليمين في يوم واحد. ويكفي أن نقرأ «الكتاب الأخضر» لنكتشف الكارثة التي كان يعيشها الليبيّون». يرى أمين أنّ ما حدث في ليبيا يرقى إلى مستوى المؤامرة الغربية، عكس ما جرى في تونس ومصر: «الحركة في ليبيا لم تبدأ بتظاهرات، بل بأسلحة. وفوراً، تدخّل الناتو. وهو الأمر الذي يطرح علامات استفهام». حسب أمين، هناك ثلاث رغبات للاستعمار في ليبيا: «تأمين حصولهم على البترول، ورغبة أميركا في إنشاء قيادة عسكرية أميركية لقارة أفريقيا، كما أنّ فرنسا تسعى إلى الحصول على المياه الجوفية الليبية»، لكنّنا لم نتحدث عن الخليج؟ يجيب: «حدثت ثورة في البحرين وقمعت ولم يتحدث أحد عنها، رغم أن السعودية دعمت بقوة الناتو في ليبيا!».



5 تواريخ

1931
الولادة في القاهرة لأب مصري وأم فرنسية

1951
التحق بالحزب الشيوعي الفرنسي، لكنّه كان مناوئاً للوصاية السوفياتية، ومقرّباً من الحلقات الماوية

1957
حصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة السوربون في باريس

1980
تولى رئاسة «منتدى العالم الثالث» و«المنتدى العالمي للبدائل»

2011
صدر كتابه «ثورة مصر»
عن «دار العين»، القاهرة