يصعب على قارئ الترجمة العربية لرواية «مدينة الملائكة» أو «معطف الدكتور فرويد» للألمانية كريستا فولف (صدرت أخيراً عن «دار الجمل») تجاهل ما تثيره من تساؤلات حول فكرة التحول السياسي والأثمان التي تقتضيها عمليات التغيير.الرواية التي صدرت عام 2010، أقرب إلى شهادة مطولة قدمتها الروائية قبل وفاتها عام ٢٠١١. هي مونولوج رهيف تقارب فيه بين الخاص والعام في عملية مدهشة من «الترصيع السردي». جمعت بين يومياتها في لوس أنجليس أو «مدينة الملائكة» خلال تسعة أشهر بين 1992 و1993، وبين أسباب وجودها في بلاد العم سام حيث حصلت على منحة لتحقيق وتوثيق أوراق مناضلة اشتراكية في ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين. في هذه المدينة بالتحديد، تظن صاحبة الأوراق أنه يتم تجريدها من جلدها ومعرفة ما تحته «لأنها قادمة من بلد شيوعي».

انطلاقاً من هذا الوعي بتعرية الذات، تقوم الساردة بما تسميه «تحسس الماضي ببطء في الظلام». أما الكاتبة، فتحبك النص وتدمجه مع أصوات أخرى لكتّاب ألمان كانوا موجودين في المدينة نفسها في أزمان أخرى أبرزهم توماس مان، وبرتولد بريخت.
إنّه عمل على الأرشيف بطريقة تقارب ما أشار إليه جاك دريدا في كتابه عن «الأرشيف الفرويدي»، فالأرشفة هنا تنتج الحدث بقدر ما تسجّله. تنزع عنه كونه مجرد تجميع إلى ما هو أكثر: إنه وسيلة للمواجهة والتذكر أو بمعنى آخر إحدى مرايا الذات بمعزل عن هيمنة السلطة والنظام الاجتماعي.

يخوض النص في طبقات التاريخ الألماني الحديث والمعاصر

بفضل هذا الدمج، يخوض النص الذي ترجمته بحيوية لافتة نيفين فائق في طبقات التاريخ الألماني الحديث والمعاصر، طارحاً العديد من الأسئلة بشأن لحظات التحول المفصلي في ذلك التاريخ والأثمان المدفوعة لمراجعته. تبدو «الذاكرة» إحدى أكثر الكلمات تكراراً في النص، إذ تتجاوز الكاتبة مفهوم الأنا الذي يركز على الماضي والحاضر فقط، إلى الذات التي تكون هي الكل والمركز لكنها خلافاً لـ «أنا» تعتني كذلك بما يطرحه المستقبل من تحديات.
تبلور الراوية مفهوماً واضحاً لعلاقة الكتابة بالذات. الكتابة بمثابة «اشتغال على الذات عند ذلك الشريط الحدودي الذي يلفّ به سرك المكنون نفسه، ويمكن أن يعني جرح الذات أو تدميرها، لكنها أيضاً محاولة لاحترام ذلك الشريط الحدودي، والقيام رويداً رويداً بتحرير المحظورات التي كان يصعب الاعتراف بها وكانت ضمن المسكوت عنه، وبالتالي فهي ليست تدميراً للذات وإنما تحرير لها بعدم الرهبة من الألم المحتّم أو خطوة للتغلب عليه».
تبدأ الراوية في النص بالعودة إلى خطابات «ل» التي كان وجودها المبرر لحصولها على المنحة بأمل كتابة سيرتها الذاتية. خلال وجودها في المركز البحثي الى جوار العديد من الباحثين الذين جاؤوا من بلدانهم إلى الولايات المتحدة لمهام بحثية مختلفة، تمارس مع الآخرين لعبة الحكي، ليس بغرض تقديم نفسها فحسب، بل أيضاً بهدف تحدده بدقة: «جزء من متعة الحكي هو بالأساس متعة الهدم التي تذكر بمتعة الهدم في الفيزياء وبمراقبة البشر بدقة ونقل كل ما يدور بينهم من دون مراعاة للعواطف على الورق. لكن متعة الهدم تلك تتوازن من خلال متعة الخلق بجعل الأشخاص الجدد والعلاقات الجديدة تُخلق من لا شيء. وكل ما كان قبل ذلك يتعيّن عليه أن ينمحي».
الى جوار هذا المعنى، ترى الراوية أنّ استعادة التفاصيل هي عودة لـ «بقعة عمياء» تقبع على الأرجح في بؤرة وعينا. لذا، فإننا لا نلحظها باجتثاثها من الأطراف حتى يتسنى لنا كسب بعض مساحة تمكننا من الرؤية.
إنّها اللعبة التي يمارسها الباحثون خلال طقس تناول الشاي في مقاربة واضحة لجلسات العلاج النفسي، حيث تبرق ذكرى الألم كومضات حارقة في الذاكرة ويتم تدريجاً الاعتياد على المكان ليكتسب الالفة التي لا تنزع عنه الغرابة لكنها لا تجعله موحشاً أيضاً. الوحشة الحقيقية هي نقض عهد الالتزام، ليس الالتزام بالمعنى السياسي الضيق بقدر ما هو الالتزام بالقيم الإنسانية العليا. في أول اختبار واجهته الراوية خلال تجنيدها لصالح أحد الأحزاب اليسارية، تجد نفسها إزاء عهد الالتزام الانساني الذي تصر على التمسك به رغم سقوط الشيوعية ذاتها في مشهد عاشته الكاتبة وهي بصدد مواجهة «بقعتها العمياء»، كاشفة العديد من التفاصيل، لتطرح السؤال حول معنى الثورة ومهامها في ظل تمكن الخوف من الناس وما كانت تمارسه أجهزة الاستخبارات في الجزء الشرقي (شتازي). في لعبة السرد، تزخر الرواية بأسماء ورموز الثقافية وثيقة الصلة بالذاكرة الالمانية. ابتكرت الراوية ـــ وهي تراوح بين فكرتين ليستا على نقيض هما التخلي/ المقاومة ــ حكاية غربية نقلت إليها من خلال أحد أبطال النص. تتعلق الحكاية بمعطف سيغموند فرويد الذي تسميه «المسحور»، فـ «المعطف الذي يدفئك، لكن أيضاً يخفيك، هو الذي يجب أن يُقلب باطنه الى الخارج، لكي يصير باطناً مرئياً»، متسائلة: «ما الذي يمكن لهذا المعطف أن يبقيه مخبأ داخل بطانته ثم يظل يفصح عنه شيئاً فشيئاً؟» إنّها مفارقة التذكر والنسيان التي يعمقها النص، فالمعطف وسيلة دفاعية وأداة للكشف ومواجهة «ارث الاستبداد».