ما سبب عرض كتابين عن المادة ذاتها؟ رغبتي تأكيد صحة هذه النظرة مستخدماً مثال بلدين صناعيين متقدمين مختلفي النظام السياسي شكلاً ومضموناً، وإن إلى حد ما. المثالان أوردهما كاتبان لا يعرف أحدهما الآخر، وصدرا في الوقت نفسه في قارتين متباعدتين وبلغتين مختلفتين.
مايك لوفغرِن، كاتب هذا المؤلف المهم، يقول: "عندما أصدرت هيئة إدارة البيت الأبيض أمراً للمؤسسات بتغيير اسم وجبة البطاطا المقلية من (French Fries) إلى (Freedom Fries)، بسبب موقف الحكومة الفرنسية آنذاك من خطط واشنطن للعدوان على العراق، أدركت أن فطنة أعضاء مجلسي الشيوخ النواب وحكمتهم قد وصلت إلى قاع القاع".
هذا الحكم على السلطة التشريعية في الولايات المتحدة الأميركية مهم لفكرة هذا المؤلف، ومثيله في الصفحة السابقة، وهي أن الخلل في بنية السلطة في الدول الرأسمالية لا بد من أن يقود إلى قيام شكل من أشكال الحكومة الخفية.
الكاتب يؤكد أن وصول حِكمة السلطات التشريعية في البلاد إلى الحضيض جعله يصل إلى نتيجة أن اقتصاد البلاد استحال إلى كازينو قمار ذي عجلة خربة، وصار ينظر إلى سياسييها على أنهم مجموعة من صبية المأمورية في خدمة شركات عيّنهم حيتان وول ستريت بهدف وضع يدهم على ثروات البشر بأي وسيلة كانت.
الاقتصاد الأميركي، بحسب الكاتب، شكل الانهيار، والسياسة الخارجية القائمة على التوافق بين الحزبين صارت أمراً من الماضي.
من ناحية أخرى، تظهر مؤشرات التطور الاجتماعي في الولايات المتحدة مثل توقعات العمر ووفيات حديثي الولادة، أنّ البلاد تنحدر مقارنة ببقية الدول الصناعية المتطورة. هذا ما جعله يؤكد أن ظهور حزب «تي» (TEA)، المعروف بتوجهاته المتطرفة في مجالات الحياة الروحية والمادية كافة، ما هو إلا أحد مظاهر الاختلال الوظيفي في أعلى الهرم السياسي الأميركي. فأي مراقب لنقاشات السياسيين في مجلس الشيوخ في «كابيتول هِيل»، يتضح له، دوماً بحسب الكاتب، أنه يتفرج على ما يشبه مسرح الدمى، حيث يقرأ المتحدثون من أوراق أعدت بعناية عن مواضيع مختلقة.
انحدار البلاد مقارنة بالدول الصناعية المتطورة

هذا ما دفع الكاتب للاستنتاج بأن الولايات المتحدة الأميركية مرت في العقود الأخيرة بعملية وصفها أرسطو للمرة الأولى وتلقفها مكيافيللي لاحقاً، ووصفها الصحافي الأميركي إدوار غارِت في ثلاثينيات القرن الماضي بأنها «ثورة في الشكل» حيث بقيت ظاهرياً، لكنها أضحت مع مرور الوقت عصية على رغبة الناخبين بسبب استحالتها جزءاً من شبكة دورة مغلقة للشركات والأشخاص الذين يملكون، جميعاً، كميات لا محدودة من الأموال تمنحهم المقدرة على فرض إراداتهم. فقط مجموعة قليلة من السياسيين، ومنهم السيدة إليزابيث ورن، النائب عن ولاية ماساتشوستس، بدأوا يقرون بأنّ هناك خللاً كبيراً في الاقتصاد الأميركي.
الكاتب يستعين بكتابات الروائي البوليسي/ التجسسي الإنكليزي جون لا كاريه الذي وصف الدولة الخفية في روايته (A Delicate Truth) بأنها حلقة دائمة الاتساع من أشخاص ليسوا من أعضاء الحكومة، لكنهم من المطلعين على معلومات وخفايا الدولة من عوالم المصارف والصناعة والتجارة مخصصة لعدد محدود للغاية من إدارة الدولة. أما تعريف الكاتب للدولة الخفية فيعني به: مزاملة هجينة بين أدوات مفتاحية في الحكومة والطوابق العليا في مجالات الموارد المالية والصناعية، القادرة على حكم الولايات المتحدة الأميركية على نحو فعال، هي في الأساس مقصورة على المنتخبين.
الآن وقد أوردنا التطابق الكبير بين التعريفين، نذكر أن الكاتب يورد أمثلة لا حصر لها على ممارسة الحكومة الخفية الحكم، وتفاصيل أي منها أكبر من أن يتسع لها هذا العرض المختصر.
في مناسبة الحديث عن الحكومة الخفية، فمن المهم التذكير بأن أول من طرح اسم هذا التشكل الحكومي الموازي، هو الرئيس التركي السيد رجب طيب أردوغان (درين دولت) عندما تحدث عن مؤامرة لمنظمة اسمها (إرغنخان/ ergenekon) هدفها السيطرة على البلاد، علماً بأنّ الاسم مأخوذ من أساطير عن ولادة الأمة التركية والمغولية التي وردت للمرة الأولى في مؤلف رشيد الدين الهمذاني المسمى «جامع التواريخ».
سيظهر بالطبع بعض المفلسين فكرياً الذين سيحاولون نفي وجود تنظيمات كهذه في «العالم الحر» وأن الكفرة تعود إلى عالم نظرية المؤامرة. مشكلتهم هنا أنّ صاحب هذا المؤلف عمل نحو ثلاثين عاماً في الكونغرس الأميركي ولحساب الحزب الجمهوري، محللاً للشؤون الدفاعية في لجنة الكونغرس الخاصة بالميزانية. وعلى هذا، فإنه أكثر من مؤهل للكتابة في المادة، بعيداً عن أي إثارة.