ترجمة: أحمد يمانيشهد شهر كانون الثاني (يناير) الماضي رحيل ثلاثة من كبار كتّاب اللغة الإسبانية، اثنان منهم حاصلان على «جائزة ثيربانتس» أرفع جائزة في آداب اللغة الإسبانية وبمثابة «نوبل الآداب» الإسبانية، وهما الشاعر والكاتب المكسيكي خوسيه إيميليو باتشيكو، والشاعر الأرجنتيني خوان خيلمان. أما الثالث، فهو الشاعر الإسباني فيليكس جراندي الحاصل على «الجائزة الوطنية للشعر في إسبانيا». هنا قصيدة لكل واحد منهم:

الدفاع عن المجهولية
(رسالة إلى جورج ب. مور لرفضي إجراء حوار معه)
عزيزي جورج، لا أعرف لماذا نكتب
وأحياناً أتساءل لماذا ننشر بعد ذلك ما كتبناه

أي إننا نلقي بزجاجة في البحر المكتظ والمليء بقمامة
وبزجاجات داخلها رسائل
لن نعرف أبداً
لمن وإلى أين سوف يلقي بها المد والجزر
الأغلب
أنها ستستسلم للعاصفة وللهاوية
في رمل الأعماق الذي هو الموت
ورغم ذلك
فإن تكشيرة الغريق الساخرة هذه
ليست بلا جدوى
لأنه ذات يوم أحد
تتصل بي أنت من إيست بارك في كولورادو
تقول لي إنك قرأت ما في الزجاجة
(عبر البحور: لغتينا)
وتود أن تجري حواراً معي
كيف أشرح لك أنني أبداً لم أمنح أية حوارات
وأن طموحي أن أكون مقروءاً وليس «مشهوراً»
وأن النص هو ما يهم وليس مؤلّفه
وأنني لا أؤمن بالسيرك الأدبي
ثم تصلني برقية هائلة
(كم يكون قد كلفك إرسالها، صديقي العزيز)
لا يمكنني أن أرد عليها ولا أن أبقى صامتاً
وقد خطرت ببالي هذه الأبيات. ليست قصيدة
ولا تطمح إلى امتياز الشعر (فهي ليست قصدية)
وسوف أستخدم الشعر، كما كان يفعل القدماء، كأداة لكل ذلك
(قصة، رسالة، مقالة، دراما، حكاية، دليل زراعي)
كما نفعل نحن اليوم في النثر
كي أبدأ في عدم ردي عليك سأقول:
ليس لدي ما أضيفه أكثر مما هو موجود في قصائدي
ولا يهمني تفسيرها ولا يشغلني مكاني
(إذا كان لي مكان) في «التاريخ»
(فالحطام ينتظرنا جميعا عاجلاً أم آجلاً)
أكتب وهذا كل ما في الأمر. أكتب: أضع نصف القصيدة
الشعر ليس علامات سوداء في صفحة بيضاء
أسمّي شعراً مكان الالتقاء ذلك مع الخبرة البعيدة
القارئ والقارئة سيضعان أو لا القصيدة
التي بالكاد خططتها
لا نقرأ الآخرين: نقرأ أنفسنا فيهم
يبدو لي إعجازاً
أن واحداً لا أعرفه يمكنه أن يرى نفسه في مرآتي
إذا كان ثمة فضل في هذا – قال بيسوا -
فإنما يعود إلى الأبيات لا إلى كاتبها
ولو أنه بالمصادفة كان شاعراً كبيراً
فسوف يترك ثلاث أو أربع قصائد مقبولة
محاطة بالفشل والمسودات
آراؤه الشخصية في الحقيقة قليلة الأهمية
عجيبٌ أمر عالمنا: فكل يوم يهمُّه الشعراء أكثر
وتهمُّه القصائد أقل
لم يعدْ الشاعر صوت القبيلة
ذلك الذي كان يتكلم نيابة عمن لا يتكلمون
لقد أصبح مسلياً آخر لا غير
سُكْرُه وزِناه وتاريخه المَرَضِي
تحالفاته ونزاعاته مع مهرجي السيرك الآخرين
أو مع لاعب العقلة أو مروّض الفيلة
كل هذا يُؤمِّن الجمهور الواسع
والذي لم يعد بحاجة إلى قراءة القصائد
لا أزال أفكر أن الشعر شيء آخر:
شكلٌ من أشكال الحب لا يوجد إلا في الصمت
في اتفاق سري بين شخصين
تقريباً بين مجهولَيْن دائماً
لعلك قرأتَ أن خوان رامون خيمينث
فكّر منذ نصف قرن في إصدار مجلة أدبية
كان سيدعوها مجهولية المؤلف.
كانت مجهولية المؤلف ستنشر قصائد وليس أسماء؛
كانت ستتكون من نصوص وليس من مؤلفين
وأنا كالمعلم الإسباني
أود أن يكون الشعر مجهول المؤلف فهو جماعي
(إلى هذا تميل أشعاري وترجماتي)
ربما سترى أنني على حق
أنت الذي قرأني دون أن يعرفني
لن نرى بعضنا أبداً ولكننا أصدقاء
إذا كانت أشعاري قد أعجبتك
فما أهمية أن تكون لي أو لغيري أو للا أحد؟
في الواقع القصائد التي قرأتَها هي قصائدُك
أنت مؤلفها الذي يبدعُها حين يقرأها

خوسيه إيميليو باتشيكو
(المكسيك 1939ــ 2014)


هي الحقيقة1
كل يوم
أقترب أكثر فأكثر من هيكلي العظمي
ها هو يبرز ولديه الحق
لقد زججتُ به في السراء والضراء
دون أن أسأله شيئاً
وهو دائماً يسألني دون أن يرى
كيف كان النعيم والشقاء،
دون شكوى ودون مسافات زائلة بعيداً مني
الآن وهو تقريباً يتفحص
الهواء المحيط
بماذا ستفكر الترقوة المكسورة
الجوهرة الرائعة، والركبتان
اللتان زحفتُ بهما فوق الحجارة
بين اعتذارات زائفة، إلخ ...
أيها الهيكل العظمي المنهوب
لن تعرقل نظرتُك أية نزوة
سوف تحتمل أنت الكون العاري

خوان خيلمان
(بوينس آيريس 1930ــ مكسيكو 2014)


قصيدة الساعات الأولى من الصباح
عندما تتذكرين جسدي
ولا يمكنك النوم
وأنت تقومين نصف عارية
وتمضين عبر غرفك متلمسة الجدران
ثملة من الذهول والغضب
في موضع ما من الأرض
سأمضي أنا مسهداً عبر أحد الممرات
مفتقراً إليك طوال الليل
أسمعك تعوين بعيدة جداً
وأكتب هذه الأبيات المنحطّة.

فيليكس جراندي
(إسبانيا 1937ـــ 2014)