-1-
«قبلي لم يكن علم النّفس موجوداً»، يقول نيتشه، مشيراً إلى أنّه هو أوّل مَن أدخل هذا العلم في كتاباته، لكي يُحسِنَ فهمَ الإنسان والثقافة والحياة.
انطلاقاً من نيتشه واستطراداً، نشير إلى أنّ هذا العلم لم يدخل حتى الآن في الدراسات التي كُتِبَت حول الثقافة العربيّة، وحول الدين، بخاصّة. لم تُدْرَسْ، على سبيل المثال، شخصيّة المسلم العربيّ، بوصفه «ظاهرة نفسيّة». لم تُدرَسْ حتى بوصفه «ظاهرة فكريّة» خاصّة. وسوف يكون عملاً جديداً ومُبدِعاً أن يُقْرأ الشّافعيّ، مثلاً، أو ابن حنبل، استناداً إلى فرويد، وأن يُحَلِّل لاكان «الكافر» شخصيّة أبي هُرَيْرة «المُسلِم» الرّاوية المُحَدِّث، أو شخصية الحجّاج، الحاكم الطّاغية، الذي لم يكُنْ يرى أمامه وحوله إلّا الرؤوس التي «أينَعَتْ وحان قطافُها»!
-2-

نعرف جميعاً أنّ معظمَ البحوث والدّراسات في القضايا الدينيّة والسّياسيّة في العالم الإسلاميّ العربيّ، تمَّ ويتمُّ اعتماداً على ما قالَهُ المُؤَرِّخون والرُّواة، والفقهاء والمُشَرِّعون، وليس على ما قالَه الوَحْيُ نفسُه. لهذا لم تَكُنْ، غالباً إلّا تنويعاتٍ تُفَسِّر أكثر ممّا تتساءل، وتآويل تَسْتأنِف أكثر ممّا تستشرف.



اليوم، صار لِزاماً، معرفيّاً وإنسانيّاً، أن يتغيَّر هذا المَسار: أن ينطلقَ الباحثون من طرح الأسئلة على الأصول ذاتها. ولم يَعُد معقولاً أو مقبولاً أن يقدر «الإبراهيميون» اليهود والمسيحيون، أن يقولوا جذريّاً ما يشاؤون في كتبهم المقدَّسة، التّوراة والأناجيل، قبولاً أو رفضاً، إقراراً أو إنكاراً، ويرفض الأخُ الإبراهيميّ الثالث، وأعني المسلم، أيَّ تساؤلٍ جذريّ حول كتابه المقدَّس ــ فيما يعترف ويؤمن بأنبياء التّوراة، وبالمسيح/ بوصفهم جميعاً أنبياءه هو، وفقاً للوَحْي:
«لا نفرِّقُ بين أحدٍ من رُسلِهِ» (البقرة، 285).
خصوصاً أنَّ نبيَّه «خاتمُ الأنبياء»، وأنّ «وَحْيَه» هو «خاتمةُ» النّبُوّات.
وتلك هي مسؤوليّةٌ ضخمة لا يحقُّ للمسلمين ــ خواتم «الوحدانيّة» ــ أن يتَهَرَّبوا منها.
-3-

ربّما، بسببٍ من هذا، وهو الأرجح، وأعني غياب التَّساؤلات، لا نرى للمؤسَّسة الإسلاميّة العربيّة، أيَّ حضورٍ خلّاقٍ مضيء، على جميع الصُّعُد، وفي مختلف المجالات، سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً. ولا نرى لها أيّ علاقة خلّاقة مع الماضي الذي تزهو به وتستند إليه. فهذه المؤسَّسة تكرّر غالباً ما قاله السَّلَفُ، على نَحوٍ بائس، ومضحِكٍ. وهي، في الواقع ليست إلّا حجاباً. هكذا يُشَوَّهُ حضورُ النّصّ المُقَدَّس: يبدو هنا، «سنّيّاً»، ويبدو هناك «شيعيّاً». ويبدو هنالك «استشراقاً» أو «استغراباً»! وتبعاً لهذا كلّه يبدو كأنّه «نصُّ فئةٍ»، وليس «نصّ أمّة»، وأنّ المسلمين «فِرقٌ» و«مِللٌ» و«نِحَلٌ» و«تبعيّات» من كلّ نوع. ونرى كأنّهم يعيشون ويفكّرون في «عالَم آخرَ»، داخل آلةٍ «جهنَّميّة» تملكهم وتقودهم أنّى شاءت، وكيفما شاءت.
-4-

ينبغي، إذاً، من أجل بناء ثقافةٍ جديدة، وإنسان جديد، أن يسأل المسلِمُ العربيّ نفسَه أسئلةً لم تُطرَح من قبلُ يستضيء بأجوبتها وإن كانت تُخطئ هنا وتتعثّر هناك. ينبغي أن يفكِّر ويسأل نفسه:
ما معنى أن تكون النّبوّة الإسلاميّة آخِرَ النّبُوّات؟
ما معنى أن يكون النّبيُّ الإسلاميّ خاتَمَ الأنبياء؟
ما معنى أن يكون أنبياء التّوراة أنبياء للمسلمين أيضاً؟
ما معنى القول: «الإسلام يَجبُّ ما قبله»؟
لماذا تفرَّد الإسلام في وصفه اللهَ الذي يدعو للإيمان به، بأنّه ليس فقط إلهَ المسلمين، وإنّما هو كذلك إلهُ أو «ربُّ العالمين»؟
-5-

تلاؤماً مع هذا كلّه، كيف يمكن أن يكون المسلم العربيّ «تابِعاً» لمن يسمّيهم «كفّاراً»؟ ولمن يصفه بأنّه، دينيّاً، أقلَّ منه كمالاً وإنسانيّة، وأكثر بعداً عن الله؟ خصوصاً أنّه يعيش الآن في «غزّة» تجربة فاصلة وحاسمة، في حياته وفي دينه، وفي ثقافته.
ذلك أنّ فيها حروباً كثيرة متداخلة: إسلاميّة ــ إسلامية، عربيّة - عربية، توراتية ــ قرآنية، غربية ــ شرقية، غربيّة ــ غربية، وشرقيّة ــ شرقيّة. حساءٌ «حضاريّ» في قَصْعَة الكون. والخطر الفاجع هنا أن المسلمين العرب يعيشون آفةً يتناسونها:
لا يرون حاضرهم في أيّ صِيَغ خلّاقة، وإنّما يرونه في مرآة ماضٍ انتهى روحيّاً وثقافيّاً، ولكنّه لا يزال ركاماً من الورق ومن «العنعنات» السّرديّة، شبه الخرافيّة، يسدُّ عليهم جميع الآفاق المعرفية، بخاصّةٍ العلمية. وعجزاً عن القيام بأيّ حركةٍ تغيِّر وتجدِّد، يطمئنّون إلى رؤية هذا الحاضر في مرآة الآخر الكافر ــ الذي يتقن فنون استخدامهم واستعبادهم واستلحاقهم.
يعطيهم «سيادةً» ليست إلّا شكلاً من أشكال التّبَعيّة، ويوفِّر لهم «حضوراً» ليس إلّا شكلاً من أشكال الغياب.

* باريس، 3 نيسان (أبريل) 2024