النكبة ليست حدثاً عابراً بالتأكيد، فالمأساة لم تتوقف حتى اليوم، وتشكل إعادة قراءة النكبة ضرورةً لفهم هذا الحدث، الذي أطلق عليه المؤرخ قسطنطين زريق «النكبة»، بينما سمّاه إيلان بابيه «التطهير العرقي». من هذا الحدث، يُعيد الروائي اللبناني إلياس خوري النكبة في كتابه الصادر حديثاً عن «دار الآداب» تحت عنوان «النكبة المستمرة». يطرح الكاتب أسئلة كثيرة تشكل قراءته لما حدث، إذ يتسلل إلى حكايات النكبة وإلى روايات فلسطينية وإسرائيلية لطرح تلك الأسئلة. يبدأ سؤاله الأول من مسألة: «سوء الفهم»، متنبهاً إلى ذلك السؤال الذي طرحه فلاح فلسطيني من قرية سعسع على الجنود الإسرائيليين الذين اقتحموا قريته وقاموا بهدم بيوتها في 14 شباط (فبراير) 1948، فيسأل الفلاح الجندي الإسرائيلي: «ايش هادا؟» وكان الجندي الإسرائيلي يعرف العربية، فأجاب: «هادا ايش» وأطلق النار على الفلاح وقتله. و«ايش» في اللغة العبرية تعني النار، فاعتبر الكاتب أن هناك سؤالاً فلسطينياً تقابله نار إسرائيلية، ويذهب إلى رواية الكاتب الإسرائيلي يزهار الذي صوّر صمت الضحية الفلسطينية المصابة بصدمة الاجتياح للأرض، وهكذا خلقت شخصية الفلسطيني الصامت في الرواية الإسرائيلية.


أما سؤاله الثاني فهو مسألة التأويل، فالحاضر الفلسطيني هو في مواجهة التأويل الإسرائيلي، والقصة الإسرائيلية هي في مواجهة القارئ الفلسطيني. يورد الكاتب أنّ الفلسطيني فقد الأرض والمدن والاسم، فأصبحت استعادة الاسم مسألة رئيسية جداً. ففي قصيدة محمود درويش «عاشق من فلسطين»، سيطلق على المرأة التي هي تجسيد للأرض، اسم فلسطينية مرات عديدة، فصار الاسم مرادفاً للهوية. وفقد الفلسطينيون أيضاً الحكاية أو القدرة على روايتها، كما تورد الرواية الإسرائيلية وكذلك رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس».
يوضح إلياس خوري أكثر في الفصل الثاني حول مسألة البكم فيقول إنّ «بكم الأدب هو جزء من بكم التاريخ»، فيشير إلى أنّ الأدب أيضاً هو ربما حلبة سوء تفاهم، فحضور الفلسطيني كشبح في الأدب الإسرائيلي هو مشكلة هذا الصراع الطويل، مشيراً إلى أنّ الآخر قد غاب عن الأدب الفلسطيني باستثناء بعض النتاجات كرواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» وظهور ريتا في قصائد محمود درويش.
يشير صاحب «أولاد الغيتو» إلى كتاب «مسألة فلسطين» لإدوارد سعيد، حيث يقرأ المفكّر الفلسطيني الراحل النكبة على أنها حدث كوني في إطار الحركة الكولونيالية في القرنين التاسع عشر والعشرين، على عكس قسطنطين زريق الذي قرأها على أنها حدث تاريخيّ أسّس لوعي جديد. فقد وضع سعيد فكرة فلسطين في قلب تاريخ العالم وأعطاها بُعدها الكوني، جاعلاً منها نقطةً مرجعية في مسألتَي العدالة والحرية. بحسب صاحب «الاستشراق»، هناك علاقة بين الخطاب الصهيوني والتاريخ، فالخطاب الصهيوني كان منذ البدء خطاباً كولونيالياً، وهو جزء من مبنى ثقافي وسياسي أفرزته الحركة الكولونيالية وهي مرتبطة بالمشروع الأوروبي وبالولايات المتحدة الأميركية التي ورثت الإمبراطوريات القديمة، ويستند إلى شرعية دينية أسطورية. ويسأل الكاتب السؤال الفلسطيني الذي يحيّره: لماذا لا تزال الأساطير قادرة على حجب حقائق الحاضر؟ برأيه، إنّ تفكيك هذه الأساطير هو مدخل لاستشراف المستقبل. ومن هذه الأساطير: أسطورة التقسيم وأسطورة مسألة اللاجئين كنتيجة للحرب العربية الإسرائيلية، وأسطورة عملية السلام. وفي باب «أين تقع فلسطين»، يبحث إلياس خوري عن مسألة «الفدائي الجديد»، فتحدث عن باسل الأعرج، وكيف رسم ملامح المثقف المشتبك، الذي يذكرنا بقصة «زمن الاشتباك» لغسان كنفاني. فالاشتباك يتم في لحظتين مكتملتين هو الالتحام بالناس ومواجهة العدو.
وضع إدوارد سعيد فكرة فلسطين في قلب تاريخ العالم وأعطاها بُعدها الكوني


وفي باب «من يروي الحكاية»، يتحدث الكاتب عن رؤيته للمشروع الثقافي الإسرائيلي الذي يتلخّص في محو الفوارق بين الجلاد والضحية، ليتحول الجلاد إلى ضحية والضحية إلى الجلاد، فاليسار الصهيوني قد شكل العمود الفقري للأدب الإسرائيلي، وقد حول الضحية الفلسطينية إلى شبح لم يسمح لها بالكلام، فيما برز مشروع الفلسطيني في البقاء على الأرض، ووضع جميع المكونات الثقافية لتظهر في هذا المشروع من أدب وفن وسينما ودراسات ثقافية.
تكمن أهمية إعادة قراءة النكبة وتحليلها أساساً للفلسطيني في معركة الوعي، فإعادة طرحها يشكل جوهر المواجهة مع عدو استطاع أن يروّج لسرديّته عن طريق الأدب، فكما يقول غسان كنفاني، إنّ «الصهيونية الأدبية قد سبقت الصهيونية السياسية». لذلك فإن قراءة الأدب الإسرائيلي كما يفعل إلياس خوري، تشكل عملية تحليل لذهنية الفكر الصهيوني الذي عمل كي يمحو وجود الفلسطيني ويخرس صوته كما صوّر ذلك في الروايات.
يحاول الأدب الفلسطيني الحديث أن يدخل عميقاً في سرّ البوح بالحكاية الفلسطينية من تفاصيل صغيرة مختلفة ومن زوايا أيضاً مغايرة، فهو يريد لتلك الضحية أن تبدأ بكشف جراحها الغائرة منذ النكبة. رواية عدنية شبلي «تفصيل ثانوي» هي مثال على إعادة سرد الحكاية الفلسطينية من وجهة نظر مغايرة، فالجريمة التي حدثت أثناء النكبة في صحراء النقب هي استعارة للجريمة الكبيرة وهي النكبة والمرأة الفلسطينية التي تحاول أن تذهب لتتقصّى ما حدث. هي استعارة للفلسطيني الذي يعيش الحاضر من دون أن يبتعد عن ماضيه، فكأنها هذه هي النكبة المستمرة، لأن المرأة تعيد قراءة ما حدث كأنه استمرار لما تعانيه في الحاضر، فتقوم بتلك الرحلة. الضحية هنا ـــ كما يشير إلياس خوري ـــ تتحدث وتروي لكن ربما قصةً يعتبرها العالم هامشية، لكنّها لبّ وجوهر الإنسانية، فليس هناك من تفاصيل ثانوية في قضية فلسطين. وقد استطاع إلياس خوري أن يضع إصبعاً على جراح غائرة في الكارثة التي سمّيت النكبة.