1. ما لم أَستطع قوله لأحدهم ذاك الصباحأريدُ أن أُمسك بلحظاتِ الضعف
وأُلقي بها في الهواء...
أريدُ أن أكتب ما لم أَستطِع قوله لأحدهم ذاك الصباحِ،
ونحن نتحدثُ عن الجوِّ الرائعِ في مدينةٍ غريبةٍ
بحديقةٍ في منتصف ميدانٍ عامّ.
أريد أن أكتب عن خوفي
أن تهترئ بلادي
مثلما اهترأ آخرُ قميصٍ اشتراه ناظم حكمت من بلاده...

التشكيلي التونسي «أمور 5» ــــ «لسانٌ سليط» (غواش على ورق ــ 2019).


أريدُ أن أكتبَ عن أيلول
وعن خوفي من اللون الأصفر
والنهاراتِ السريعة التي تمرّ علينا
ونحن نستمعُ إلى أغانٍ شعبيةٍ
لشعبٍ آخَرَ
في مدينةٍ غريبة.
■ ■ ■
وُلدتُ أكثر من مرَّةٍ
لكنني في كلِّ مرَّة كنتُ أُولَدُ في أبريل
وُلدتُ بجوار النيل والبوسفور
وقلعة صلاح الدين وبرج جَلَطة
وفي كلِّ مرَّةٍ
كان يهمسُ الربيع في أذني ويقولُ:
يُمكن للزمانِ أن يكونَ هُويَّةً
ويُمكنُ أن تُصاحبَ شجرةً
في مدينةٍ غريبة.

يُمكن أن تُلقي باسمكَ في الهواء
وأنتَ تمشي في الطريق من «أيوب سلطان» حتى «بلاط»
ثم تجلس في «إدرنة قابي»
وتُسندَ ظهركَ إلى سور القسطنطينيةِ القديم
وتسألَ نفسك:
ماذا كنتَ ستفعل لو لم يعبر جيشُ السلطانِ من هذه البوابة؟
■ ■ ■
في «بَلاط»
لا تضيِّع وقتكَ في البحث عن اسمٍ جديد يُمكنكَ أن تُصاحبَ شَغفكَ بالبيوت الخشبية
وأن تفكّرَ في الحكاياتِ
ربما خلف تلك الشبابيك القديمة
كانت تجلسُ امرأةٌ أرمنيةٌ
تشربُ النبيذَ، وتدوِّنُ بشجاعةٍ ليست لك
حياتَها الشخصيةَ داخل الحكاية.

2. في لغةٍ أخرى
يُمكنُ وأنتَ تتعلّم كلماتٍ بسيطة في لغةٍ أخرى
أن تفكِّرَ في هذه الكلمات من جديد:
سريرٌ، حائطٌ، بيتٌ، شارعٌ، حيٌّ، مدينةٌ.
هل تخيلتَ من قبلُ أن تفكِّر في كلمة «مدينة»
وأنتَ تحلق ذقنكَ في صباحٍ ما
بحمّامِ بيتكَ في إسطنبول
وتدندن أغنية عبد الوهاب: «كل البلاد عندي أوطان»؟
■ ■ ■
المدينة: كلمة فضفاضةٌ كأحلام الغزاةِ، ومعقَّدةٌ كالنقوش الحجريَّةِ...
ضواحي المدينةِ، ووَسَطُ المدينة
الشوارع الشهيرة في المدينة، والشوارع الخلفيَّة
الأحياءُ المُحَافِظَةُ في المدينة، والحياةُ الليليَّةُ للمدينةِ
المدينةُ المقاومةُ، شعراءُ المدينةِ،
وأغاني المهاجرين من تلك المدينة إلى هذه المدينة.
■ ■ ■
يمكنكَ أن تكتبَ في دفتر يومياتِكَ قبل أن تنام:
«رأيتُ مسيرةً يمشي فيها الثوار من مدينةٍ إلى مدينة»،
وأن تكتبَ عن المرأةِ التي أحببتَها في مدينةٍ جنوبيةٍ صغيرة
وعن مدينةٍ عملاقةٍ أغرتكَ
ثم ابْتَلَعَتْكَ.

وسيكون بإمكانك بعد أن تتقن لغةً أخرى، في مدينةٍ ما،
أن تقولَ بسرعةٍ سيحسدك الآخرون عليها:
«بهذه البساطة ضيَّعتُ حياتي».

3. لا أبحث عن بلادي
أبحث عن كلماتٍ لم يكتبها الشعراء
بعيداً عن بلادهم...
أبحث عن بلادٍ لا تحاول أن تحذف الربيعَ
من الكتب المدرسية...
أبحث عن أغنية جديدة
لم يقتلعها العساكرُ من حناجر المُغَنِّين...
أبحث عن قصيدة تنصب الفخاخَ للحنين،
حتى إلى أمي
الطائفية الوحيدة التي أحببتُها، وهي تدعو اللهَ لي وللمسلمين فقط...
أبحث عن معنى آخر لِلغتي الأمِّ...
وعن لسانٍ آخر
لا يفكر بلغة، ويتحدث بأخرى...
أبحث عن ذاكرةٍ جديدةٍ
لا تبحث عن بلاد لا تسأل عني.

4. قد أُولَد من جديد
كأنَّ الشرفةَ في السرداب
وكأنَّ الوقتَ سَقَط
كأنَّ نسيمَ البوسفور يُداوي
أهلَ البوسفور فَقَطْ
كأنِّي بِغَيْرِ اللُّغة الأمِّ
أصيرُ يتيمَ المعنى؛
أتحدث عن أشياءَ عامَّة
وأقارنُ شمسَ بلادي بشموس بلادٍ أخرى
وكأنَّ الشمسَ لكلِّ النّاس ليست واحدةً.
■ ■ ■
أحاولُ.. وأحاولُ
أشربُ عشرَ سجائرَ في عشر سجائر
قنينةً... قنينتين
قد أُولَد من جديد هذه المرة
أُولَد بعيداً
عن رأس الحسين المُزيَّف
وشجرة مريم الجرداء…
ابْتَعِدْ عنِّي أيُّها الرمزُ
سوف أُلَطِّخُكَ بدموعي
وأنتَ أيُّها الحنينُ
سوف أَجْرَحُكَ بحكاياتٍ
عن جثثٍ تَجْرِفُهَا الدَّبَابَاتُ مثل القمامة.
■ ■ ■
أيُّها الوطن القذرُ
أَخْرِجْنِي من رأسكِ الصفيح
وأَلْقِ بذكراي في النِّيل
وأنا أَعِدُكَ بأن أنسى طفولتي
وألا أُشَوِّهَ اسمكَ المنحوتَ في ملامحي
عندما أحاولُ، مثلاً،
أن أُقْنِعَ بائع البازار بأنني لستُ سائحاً.

5. هروب
كان يفكِّر مثلك تماماً
ويتحدَّث بالثقة نفسها
وحين ينام
يرى نساءً يتساقطنَ من البنايات مثل الجراد
ورجالاً يلعبون الأوراق على أرواحهم
وأطفالاً لم يسمعوا بالفاجعة بعد
ويواصلون لعبة العريس والعروس

سألتُه:
هل قرأتَ عن الفلكلور من قبل؟
فأشار بإصبعه الوسطى في الهواء، وانصرف عني.
كان يفكّر مثلك تماماً
ويتحدّث بالثقة نفسها
وحين يكتب الشّعر
يرى ظلّه طفلاً في الشوارع التي يحاول نسيانها،
وتطارده كالهُويَّة
يناديه:
«خذني معك
إلى حزيران خذني معك
إذا ذهبتَ إلى الجنوب
أو نضجتَ كثمرة تِينٍ في إحدى هضاب الأناضول
خذني معك
وإن ضيّعتَ أجمل الأيام
في استكشاف رائحة التوابل في البازارات
خذني معك»

كان يفكّر مثلك تماماً، ويتحدّث بالثقة نفسها
حتى رأوه يطعن ظلّه في منتصف الطريق
ويختبئ بإحدى الدبكات في ديار بكر
سألتُه:
هل تحبّ الفلكلور؟
فخلع قميصَه الملطّخ بالدم، ولوّح به في الهواء!

6. لحنٌ جديدٌ للنشيد الأمميّ
إلى سعدي يوسف
يطاردني صوتُهُ وهو يصرخُ:
ماذا أفعل في أرضٍ غير عربية؟
تحت إبطه يدسُّ المعلقاتِ
قبل أن يخرج للتسكُّعِ في أزقَّةِ لندن...
يبحث عن مقاهٍ للثرثرة،
ورفاقٍ لهجاء الصباحاتِ الحامضةِ
والبيرة السوداء في براغ.
لا يحنُّ إلى عمّان
وإنْ ضاقتْ به الدنيا والحزبُ الشيوعي،
وطوابيرُ تجديدِ جوازات السّفر
أمام قنصليات البلاد العربية
في أرضٍ غير عربية.
يجلس سعدي وحيداً
يفكر في لحنٍ جديدٍ للنشيد الأمميّ
ويكتب فوق أوراق الصفصاف قصائد في عراقٍ
لا يحكُمُهُ الأمريكيون.

7. قتلتكَ لغتُكَ الأمُّ
إلى أحمد كايا
ربما لأن شعور الغربة
يشبه شعور الأقليات
تعلَّقتُ بصوتكَ منذ الوهلة الأولى
ومثلُكَ غنَّيتُ لبختيار
دون أن أعرف عنه سوى اسمه الحركي
وأنه من ديار بكر
ومتهمٌ بِعَزْفِ الساز.
■ ■ ■
مَنْ غيركَ سيُعرِّي إسطنبول
ويُغنِّي للنوارس التي تبكي
في مقالب النفاياتِ
من غيرك سيغنِّي للأحياء الخلفية
ومخافر الشرطة الممتلئة
بالغرباء
وأبناء العشوائيات
من سيغني للمدنِ
التي تنهمر عليها القنابلُ كلَّ ليلة
ولا يتوقف عُشَّاقُها عن ممارسة الحب.
■ ■ ■
لم تمت في باريس بنوبة قلبية
قَتَلكَ انتماؤك إلى الجبالِ
التي أردتَ أن تموتَ فيها
ضاق قلبُكَ
حين ضاقت عليك البلادُ
وحاصرتكَ أعينٌ عديمة المروءة
قتلتكَ الوحوش الأَنيقة
حين رموا أغنياتكَ بالشّوك والسكاكين
قتلتكَ لغتُكَ الأمُّ
وكان حتماً أن تموت
بعيداً عن حدود القومية الضيَّقة
لكنَّ صوتكَ يرفرف الآن في كل اتجاه.

8. جَسَارة
صعدَ فوق سطح البناية
وأرادَ أن يُلقي بنفسه هذه المرة
بدلاً من زجاجات البيرة الفارغة
التي يشحذ ثمنها كلَّ ليلة
الجميعُ يلّوح له من الأسفل: لا تفعل
ينظر إليهم بجسارة،
وعيناه تقولانِ:
شفقتكم تكفي بالكاد قطط الشوارع.

9. أموت في القاهرة
من أي مشهدٍ تريدين أن أحكي لكِ يا أمي؟
أنتِ تريدينني أن أحكي بخجل وصراحة سكرانٍ
يعود إلى البيت وقت خروج أبيه إلى صلاة الفجر
أقسم إنني لا أعرف ما يحدث في ميدان التحرير الآن
فلا تقلقي عليَّ يا أمي
لن أكون شهيداً فجأةً على محطةٍ إخباريّة
- الواحدُ لا يموتُ مرتين -
لكنني أموتُ كلَّ يوم في القاهرة.

10. أبي
لماذا أفلتَّ يدي
عندما بلغتَ الأربعين يا أبي
ورحتَ تبحث عن الله
في بلد آخر؟

لماذا تذبحني في منامكَ كلَّ ليلة
ثم تقف كلَّ ليلة أمام الله
بأيادٍ ملطخةٍ
بلون الشعور بالذنب يا أبي؟

(٭) من ديوان بالعنوان نفسه صدر حديثاً عن «دار النهضة العربية» في بيروت.