انهار الاتحاد السوفياتي فتحرَّك التاريخ من جديد. أُغْرِقَتْ روسيا في أزمة عنيفة، فخلقت فراغاً عالمياً ملأته أميركا، على الرغم من أنها كانت نفسها في أزمة منذ عام 1980. ثم انطلقت حركة متناقضة أساسُها مفارقة صارخة: توسّع غربي عبر الغزو النيوكولونيالي رغم أنَّه غارق في أزمة بنيويَّة تأكل قلبه.في هذا السياق المتأزم، وتحديداً بين عامَي 2016 و2022، اندمجت العدمية الغربية مع العدمية في أوكرانيا، لِينقاد حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا معاً إلى تحرُّش عسكري بروسيا مستقرّة، أصبحت مرة أخرى قوة عظمى، مُطَمْئِنَة بقية العالم الذي لا يريد أن يتبع الغرب في مغامراته. قرر القادة الروس الدخول في معركة على حافَّة الهاوية: تحدَّوْا حلف شمال الأطلسي وغزوا أوكرانيا.
عبر استثمار معطيات الاقتصاد النقدي وعلم الاجتماع الديني وما يسمِّيه «أنثروبولوجيا الأعماق»، يقدم لنا المؤرّخ والباحث الفرنسي إيمانويل تود (1951) في إصداره الأحدثLa défaite de l›Occident (هزيمة الغرب ــــ دار غاليمار/ باريس)، جولةً في العالم الحالي، من روسيا حتَّى أوكرانيا، ومن الديموقراطيات الشعبية السابقة إلى ألمانيا، ومن بريطانيا العظمى إلى الدول الاسكندنافية والولايات المتحدة، من دون أن ننسى بقية العالم الذي قرر اختيارَه نتيجةَ الحرب، بالانحياز إلى روسيا عقلانيَّة ضد أميركا صارت عنيفة بشكل غرائزي.
ينطلق تود في بداية كتابه من معطيات وبديهيات كانت مغيَّبَة عنوةً عن عقل مراكز القرار الغربي: في أذهان الروس، كما في أذهان الغربيين الأكثر اطلاعاً، كانت أوكرانيا ما يسمّى من الناحية السياسيَّة دولةً فاشلة. منذ «استقلالها» عام 1991، شهدت نزيفاً ديموغرافياً مهولاً. إذ فقدت 11 مليون نسمة بسبب الهجرة وانخفاض الخصوبة. كانت تهيمن عليها أقلية أوليغارشيّة، وصل فيها الفساد إلى مستويات جنونية، وبدا الوطنُ وشَعبُه كأثاث للبيع. من المؤكد أنّ أوكرانيا كانت مجهَّزة بصواريخ «جافلن» المضادة للدبابات من قِبَل حلف شمال الأطلسي، وكانت تمتلك منذ بداية الحرب أنظمة مراقبة وتوجيه أميركية. لكنّ المقاومة الشرسة التي تبديها دولة في حالة تحلُّل، تشكِّل معضلة تاريخية. ما لم يتوقعه أحد أنّ أوكرانيا ستجد في الحرب سبباً للبقاء على خريطة الوجود ككيان سياسي، ستجد في الحرب مبرراً لوجودها بعدما كانت في طور الانقراض.
أما أهم المفاجآت، فكانت مرونة روسيا الاقتصادية ومناورتها في الصمود. ظُنَّ أنّ العقوبات، وخصوصاً استبعاد المصارف الروسية من نظام التداول العالمي بين المصارف (سويفت)، من شأنها أن تجعل البلاد تركع على ركبتيها. لكنّ الغرب تناسى أنّ الروس قد تكيّفوا مع عقوبات عام 2014 واستعدوا للاستقلال في مجال تكنولوجيا المعلومات والمعاملات المصرفية. باختصار، روسيا خصم كان يجب أن يؤخَذ على محمل الجد.

ستكون الهزيمة الآن هي إلغاء دَوْلَرَة الاقتصاد العالمي

أما المفاجأة الهيكليَّة في منظومة الغرب ـــ وفقاً لتود ــــ فكانت انهيار الإرادة الأوروبية برمتها. كانت أوروبا في مستهل الأمر عبارةً عن زوجين فرنسي-ألماني، اتخذا منذ أزمة 2007-2008 مظهر الزواج الأبوي. باعتبارها الزوج المهيمِن، لم تعد ألمانيا تستمع إلى ما تقوله لها شريكتها. لكن حتى في ظل الهيمنة الألمانية، احتفظت أوروبا، بقدر معين من الحكم الذاتي. مع ذلك، على الرغم من بعض التردد في البداية، عبر نهر الراين، بما في ذلك تردّد المستشار شولتز، تخلى الاتحاد الأوروبي بسرعة كبيرة عن أي رغبة في الدفاع عن مصالحه الخاصة. لقد قطعت أوروبا الغربية نفسَها عن الطاقة الروسية وعن شريكها التجاري (بشكل عام)، وفرضت عقوبات على نفسها بشكل متزايد. قبلت ألمانيا من دون تردد عملية تخريب خطوط أنابيب الغاز «نورد ستريم»، التي ضمنت جزئياً إمدادات الطاقة، وهو عمل إرهابي موجه ضدها بقدر ما كان موجهاً ضد روسيا، ارتكبه «حاميها» الأميركي. حتى إنّ ألمانيا تجاهلت التحقيق الممتاز الذي أجراه سيمور هيرش في صدد هذا الحدث، ما أثار تساؤلات حول الدولة التي تقدم نفسها على أنّها الضامن الذي لا غنى عنه للنظام الدولي. لكننا شهدنا أيضاً تبخّر فرنسا بقيادة ماكرون على الساحة الدولية، في حين أصبحت بولندا الوكيل الرئيس لواشنطن في الاتحاد الأوروبي. وقد خَلَفَتْ في هذا الدور المملكة المتحدة، التي أصبحت خارج الاتحاد بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي القارة بشكل عام، استُبدل محور باريس- برلين، بمحور لندن- وارسو- كييف الذي يُدار من واشنطن. إن تلاشي أوروبا كلاعب جيوسياسي مستقل أمر محيّر إذا تذكرنا أنه قبل عشرين عاماً فقط، أدّت المعارضة المشتركة من جانب ألمانيا وفرنسا للحرب في العراق، إلى عقد مؤتمرات صحافية مشتركة بين المستشار شرودر، والرئيس شيراك، والرئيس بوتين.
استتبعَ هذا الاختلالَ في السياسة الدوليَّةِ، ظهور المملكة المتحدة كرأس حربة مضادٍّ لروسيا ضمنَ الناتو. وعلى نحو نقلته الصحافة الغربية، ظهرت وزارة الدفاع البريطانيَّة على الفور باعتبارها واحدةً من أكثر المعلّقين بحماسة على الصراع الروسي «الأوكراني»، إلى الحد الذي جعل المحافظين الجدد الأميركيين يبدون عسكريين فاتِريِ الهِمَّة. أرادت المملكة المتحدة أن تكون أوّل من يرسل صواريخ بعيدة المدى ودبابات ثقيلة إلى أوكرانيا. أثرت هذه الدعوة إلى الحرب ـــ بطريقة غريبة بنفس القدر ــــ على الدول الاسكندنافية، التي كانت لمدة طويلة ذات مزاج سلمي وأكثر ميلاً إلى الحياد من الاحتراب. لذلك، نتجت عن هذه الحماوة البريطانية مفاجأة أخرى: رغم أنَّ النرويج والدنمارك من المحطات العسكرية الكافية للولايات المتحدة، هرولت فنلندا والسويد إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، معبِّرة عن اهتمام جديد بالحروب، وهو ما كان موجوداً، من دونَ الإعلانِ عنه، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا.
لكن المفاجأة الأكثر إثارة لدهشة تود جاءت من الولايات المتحدة، القوة العسكرية المهيمِنة. بعد طفرةٍ بطيئة، عبَّرت الصناعة العسكرية الأميركية عن قلق رسمي في حزيران (يونيو) 2023 في العديد من التقارير والمقالات التي كان البنتاغون مصدرها الأصلي: الترسانة الأميركية ناقصة؛ فالقوة العظمى العالمية غير قادرة على ضمان توريد القذائف، أو أي شيء من هذا القبيل، إلى تلميذتها الأوكرانية. هذه ظاهرة غير عادية بالنسبة إلى تود. وهو هنا يعزّزها بتحليل اقتصادي وفقاً لأرقام دقيقة: عندما نعلم أنّه عشية الحرب، كان الناتج المحلي الإجمالي لروسيا وبيلاروسيا يمثل 3.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الغربي (الولايات المتحدة وكندا وأوروبا واليابان وكوريا)، فإنّ هذه النسبة قادرة على إنتاج أسلحة أكثر من العالم الغربي، واستطاعت وضعَه أمام مشكلة مزدوجة: أولاً بالنسبة إلى الجيش الأوكراني الذي يخسر الحرب، بسبب نقص الموارد المادية؛ ثم ثانياً بالنسبة إلى جوهرة المعرفة العلمية في الغرب الليبرالي، أي الاقتصاد السياسي، الذي يجرؤ تود على القول بأنَّ طابعه الزائف انكشفَ للعالم: «إن مفهوم الناتج المحلي الإجمالي قد عفا عليه الزمن، ويجب علينا الآن أن نفكر في علاقة الاقتصاد السياسي النيوليبرالي بالواقع».
بناءً على هذه المفاجآت والبداهات التي تمَّ التَّعامي عنها، اكتشفَ الغربُ عزلته الأيديولوجية وحتَّى جهلَه بعزلته. بعدما اعتاد الغربيون على تحديد القيم التي يتعيّن على العالم الالتزام بها، توقّعوا بصدق وبغباء أن الكوكب بأكمله سيشاركهم سخطهم على روسيا. لقد أصيبوا بخيبة أمل. وبعد مرور الصدمة الأولى للحرب، شهدنا ظهور دعم أقل تحفظاً لروسيا في كل مكان تقريباً.
وبما أنَّ المنطلقات الخاطئة تؤدي إلى تفسيرات خاطئة وفقاً لتدرُّج تحاليل تود، فإن التفسير الوحيد الذي أخذه الغرب في الاعتبار هو أنّ «الرفاق الديكتاتوريين» في موسكو وطهران وبيونغ يانغ وباقي حلفاء روسيا، كانت لديهم تطلعات مشتركة بشكل واضح. لكن منذ إعادة انتخاب إردوغان ديموقراطياً في أيار (مايو) 2023، أصبح من الصعب التمسك بهذا الخط. في الحقيقة، بعد عام ونصف العام من الحرب، يبدو أنّ العالم الإسلامي بأكمله ينظر إلى روسيا باعتبارها شريكاً لا خصماً. ومن الواضح بشكل متزايد أن المملكة العربية السعودية وروسيا تنظران إلى بعضهما كشريكين اقتصاديين لا كخصمين أيديولوجيين في إدارة إنتاج النفط وأسعاره. وبشكل أكثر عمومية، يوماً بعد يوم، زادت الديناميكيات الاقتصادية للحرب من العداء تجاه الغرب في العالم النامي، لأنه يعاني من العقوبات.
المفاجأة الأخيرة، والأكثر دراماتيكيَّة بالنسبة إلى تود، هي أنَّ هزيمة الغرب على وشك أن تتحقق. هزيمة مؤكدة لأنّ «الغرب يدمر نفسه بدلاً من أن يتعرض لهجوم من روسيا».

الطريق نحو تعافي الشرق
يرى إيمانويل تود أنّ أساس التحول في الجيواستراتيجيَّة الرَّاهنة ليس نابعاً من الصين، وإنَّما من روسيا، التي دفعت الغرب نحو الانهيار الشامل، باقتصادِها المتعافي تجارياً ومصرفياً، وضبطها لأمن كامل ترابها الوطني، ما سمح لها بتخطي العقوبات الغربية بشكل سلس. يخلص تود إلى تفنيد الطروحات الدعائيَّة الغربية القائمة على أسطوانة مكرورة مفادها أنَّ بوتين نسخة من ستالين. يقدِّم لنا قراءة أنثروبولوجية جديدة لتاريخ روسيا الحديث: لم تولد الشيوعية من عقل لينين الخصب، قبل أن تفرضها أقلية فاعلة. لقد نتجت من تفكك الأسرة الزراعية التقليدية، ما أدَّى إلى إلغاء العبودية في عام 1861، و«التحضر» ومحو الأمية وتحرير الفرد من العائلة البطريركية الخانقة. لكن الفرد المتحرر وجد نفسه مشوَّشاً تماماً: لقد بحث عن بدائل للسلطة الأبوية في الحزب، وفي الاقتصاد المركزي، وفي الـKGB (يشير تود هنا بشكل غير مباشر إلى بوتين باعتباره آخر رئيس لهذا الجهاز قبل تفكك الاتحاد السوفياتي). ووفقاً لتود، يمكننا القول إنّ هذا الجهاز كان، إلى حد ما، أقرب مؤسسة إلى الأسرة التقليدية لأنّه تعامل مع الناس بشكل شخصي، وبتفاصيل كبيرة. ونظراً إلى هذه الطبيعة الاجتماعية للشيوعية في التاريخ الروسي، فلم يكن من المرجح بعد انهيارها أن تنشأ ديموقراطية ليبرالية تناوبية من النوع الغربي بين موسكو وفلاديفوستوك. إن قيم السلطة والمساواة، التي لوحظت في الأسرة ثم في الحياة الاجتماعية بأكملها في الحقبة السوفياتية، لم يكن ممكناً أن تنطفئ في غضون سنوات قليلة. وبالتالي، فبوتين ـــ حسب تود ـــ استمرار للحقبة السوفياتية بشكل من الأشكال، عبر خليط من الديموقراطية الليبرالية والاستبداد الشرقي والدَّولة التَّدخُّليَّة في الاقتصاد.
هذا التاريخ العريق، والمشترَك نسبياً مع كييف، هو ما تناسته الطغمة الحاكمة الأوكرانية عبرَ نفثِها سموم الروسوفوبيا في الإعلام الغربي ورعايتها لنزوعات نازية جديدة غريبة على الاتحاد السوفياتي القديم الذي حرَّر أوروبا من نازية هتلر. يضيف تود ساخراً إنّ «روسوفوبيا ما بعد حداثية» عودة كاريكاتورية لروسوفوبيا الحرب الباردة.
بات العالم الإسلامي بأكمله ينظر إلى روسيا باعتبارها شريكاً لا خصماً


ويبقى المثير في تحاليل تود هو صناعته لمفاهيم سياسية جديدة لا تجافي حقيقة ما يحدث في رقعة الشطرنج العالمية: كل ما يحدث حالياً بين القوى الكبرى يمكن اختزاله في «صراع بين أوليغارشيا ليبرالية وديموقراطية استبدادية روسية» وصين تتفرَّج وتستعمل الفيتو واحتداد اللهجة الديبلوماسية كلَّما كانت طُرُقُ تجارتِها البرية وممرَّاتها المائية مهدَّدة.
على المقلب الآخر، يرى تود في طبيعة أميركا وجوهرها، راهِناً، مزيجاً من الأوليغارشية والعدمية، في ظلِّ سياسة تمارِسها تحت شعار لخَّصَه في عبارة: «تكاليفُ أكثر من أجل موتٍ أكثر». بل إنه لا يتورَّع عن وصف تحالف البنتاغون والبيت الأبيض، من دونَ موارَبة، بعصابة منغلقة على ذاتِها في قرية اسمُها واشنطن. قرية نخبة حاكمة مرتهِنة لسوق السلاح والنفط، عصابةُ بيض، مع ديكورٍ من الزُّنوج، تعاني من انقراضِ الذَّكاء وسط الطائفة اليهودية الأميركية. الملاحظة الأخيرة، ومخافةَ موجة العداء للسامية الراهنة، يُتْبِعُها تود بالتوضيح الآتي: «أود أن أشير قبل أيّ شيء، لتجنب سوء فهم آخر، إلى أنني شخصياً من أصل يهودي وبرُتُونِيٍّ وإنكليزي، وأنا راضٍ جداً عن هذه الأصول الثلاثة».
خلاصة خلاصات تود أنَّ أميركا غرقت في شَرَك المستنقع الأوكراني: روسيا تدخل الحرب في وقت اختارته. لقد قام الروس بتقييم جهوزيّة قواتهم وقرروا، لأسباب عسكرية وديموغرافية، أن لديهم نافذة إطلاق مثالية بين عامَي 2022 و2027. ومن المؤكد أن روسيا قللت من إمكانات الجيش الأوكراني، لكن ليس من الإمكانات الصناعية الضعيفة للغاية لحلف شمال الأطلسي. وكانت المقاومة الفعالة التي أبدتها كييف، وخلقت الوهم بأن النصر الغربي ممكن، بمثابة المأساة الكبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

حالة الصِّفر الاجتماعي التي تعيشها أميركا تمنعنا من توقّع القرارات النهائية التي قد يتخذها قادتها

لقد زادت النجاحات الأولى التي حققها الأوكران رؤوسَ المحافظين الجدد حماوةً. إن انسحاب الروس من شمال أوكرانيا، ونجاح الهجمات المضادة الأوكرانية في خريف عام 2022، جنوباً باتجاه خيرسون، شرقاً في إقليم خاركيف، سمح للنزعة العسكرية بالاستحواذ على تفكير البيت الأبيض. لقد أصبحت ديناميكية الحرب لا تقاوَم، لأن الحرب هي، دائماً وفي كل مكان، إحدى ظواهر العدمية. كان التراجع العسكري الأميركي في عامَي 2008-2016 معقولاً، ولكنه كان أيضاً هشاً، لأنه حدث في اللحظة التي كانت فيها العدمية تنمو، وقد بدأت فجأة، في عام 2022، تهتزُّ بالتوافق مع العدمية الأوكرانية. لقد دفعت النجاحاتُ العسكرية سريعةُ الزوال التي حققتها القوميةُ الأوكرانية الولاياتِ المتحدةَ إلى حرب مزايدة لا يمكنها الهروب منها من دون التعرض لهزيمة. لم تعد مجرد هزيمة محلية، بل عالمية: عسكرية واقتصادية وأيديولوجية. ستكون الهزيمة الآن هي إلغاء دَوْلَرَة الاقتصاد العالمي، ونهاية الواردات التي تدفع ثمنها «المطبعة الجماعية الداخلية للأوراق المالية» والفقر المدقع.
يسترسل تود في تحليله وفي خاتمة مريرة للغرب الليبرالي: «لستُ متأكداً على الإطلاق بأنّ الناس في واشنطن يدركون ذلك. دعونا نصلّي حتى لا يتمكنوا من ذلك، وأن يثبتوا أنهم قادرون على إبرام سلام يعتقدون أنه لا يُعْلِنُ لهم ولكييف سوى عن سايغون أخرى، أو بغداد أخرى، أو كابول أخرى. إلا أن حالة الصِّفر الاجتماعي التي تعيشها أميركا تمنعنا من أي توقع معقول بشأن القرارات النهائية التي قد يتخذها قادتها. دعونا نتذكر أنّ العدمية تجعل كل شيء، كل شيء على الإطلاق، ممكناً».



مقتطف من الكتاب

دليلٌ مِنْ غزة على العدمية الأميركية
أظهرت لنا الأسابيع الثلاثة التي أعقبت استئناف الصراع بين إسرائيل وحماس، في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، في حالة غريزية أولية، نزوعَ واشنطن إلى العنف. وفي مواجهة حرب راح ضحيتها مدنيون على الجانبين، لجأت الولايات المتحدة على الفور إلى تصعيد الصراع.
واعتباراً من 8 أكتوبر، استنفرت حاملة طائرات أولى إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لدعم إسرائيل، تلتها حاملة طائرات ثانية في 14 أكتوبر. رد الفعل الغريزي هذا لا يتوافق مع أي ضرورة عسكرية. من يصدق هجوماً إيرانياً؟ تمتلك إسرائيل أسلحة نووية، أما إيران فلا تمتلكها.
بعدَها، قام جو بايدن بزيارة تضامنية إلى تل أبيب. وعند عودته، في 20 أكتوبر، ألقى خطاباً بسيطاً طفولياً: حماس = بوتين وإسرائيل = أوكرانيا. ونسي أن هناك ما يقرب من مليون مواطن من روسيا يعيشون في إسرائيل، متعلقون بشدة بثقافتهم الأصلية، ولا يستطيعون فهم كل ما تقوله وسائل الإعلام الغربية، ولا استئصال اللغة الروسية الذي تقوم به كييف، ولا الرموز النازية الأوكرانية المتطرفة. إن لا مبالاة واشنطن تجاه الإسرائيليين الحقيقيين أمر مذهل. تعلن الولايات المتحدة تضامنها اللامحدود مع دولة وهمية.
وفي 27 أكتوبر 2023، رفضت الولايات المتحدة التصويت على القرار الهادف إلى إعلان «هدنة إنسانية فورية ودائمة وطويلة الأمد» التي اقترحها الأردن. ومع ذلك، صوتت 120 دولة لمصلحتها، وامتنعت 45 دولة عن التصويت، وصوتت 14 دولة فقط ضد: إسرائيل، والولايات المتحدة، وفيجي، وتونغا، وجزر مارشال، وميكرونيزيا، وناورو، وبابوا وغينيا الجديدة وباراغواي وغواتيمالا، وكذلك النمسا، والمجر وجمهورية التشيك وكرواتيا (شبح الإمبراطورية النمسوية-المجرية؟). إن التصويت الأميركي ضد الهدنة تصويتٌ عدمي، فهو رفضٌ للقيم الإنسانية المشتركة.
ويمتنع أغلب الغربيين عن التصويت، بمن في ذلك أعضاء المحور الأميركي في أوروبا، مثل المملكة المتحدة وبولندا وأوكرانيا. ووافقت فرنسا والنرويج وإيرلندا وإسبانيا والبرتغال على الاقتراح الأردني، إلى جانب روسيا والصين. وامتنعت ألمانيا عن التصويت، وهو خيار يخفف من موقفها التقليدي المؤيد من حيث المبدأ لإسرائيل.
لا شك في أنّ انحراف الغربيين يكشف عن شعورٍ بالخوف تجاهَ انعدام المسؤولية الاستراتيجية للولايات المتحدة. لأنها بهذا التصويت، قررت، في خضم الحرب الأوكرانية، عزلَ العالم الإسلامي بشكل فوري ودائم.
أما التفسير الأقل إثارة للقلق، فهو تقديم دعم الولايات المتحدة للحرب ضدّ «حماس» كوسيلة لجعل الناس ينسون، بل ينسون حتَّى أنفسهم، أنهم يخسرون الحرب في أوكرانيا. وأخيراً، ها هم في مسرح عمليات يمكنهم عبره التصرف بحرية، من دون خوف من الانتقام الروسي، بقصف سوريا أكثر قليلاً، وربما إيران في يوم من الأيام. إن شرق البحر الأبيض المتوسط هو في الواقع البحر الوحيد الذي ظلت حاملات الطائرات الأميركية تعمل فيه منذ أن جعلتها الصواريخ الصينية الفرطُ-صوتيَّة أسلحة عفا عليها الزمن للدفاع عن تايوان. لكن للأسف، أرسل بوتين، في 18 أكتوبر، طائرات استطلاع من طراز «ميغ» مسلحة بصواريخ «كينجال» فوق البحر الأسود، قادرة على ضرب حاملات الطائرات هذه في غضون خمس إلى عشر دقائق. إن الصحافة الغربية، التي غذَّتنا لأشهر عدة بوهم الهجوم المضاد الأوكراني المنتصر، شعرت بالارتياح، من دون أي نقاشٍ محتمَل، عندما اضطرت إلى تحويل انتباهها إلى هذه الحرب الجديدة.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة، فإنّ مفهوم العدمية يسمح لنا بالذهاب أبعد من ذلك في التفسير: إن التزامهم الطائش وغير المشروط تجاه إسرائيل عَرضٌ انتحاري. الناتو في حالة حرب. لقد رأينا في متن الكتابِ أنّ غالبية الدول غير الغربية (بقية العالم) تميل لمصلحة روسيا وأن رفضها احترام العقوبات الغربية سمح للاقتصاد الروسي بالصمود. وقد رأينا السعودية تتشاور مع روسيا لإدارة أسعار النفط، والتصالح مع إيران (حليفة روسيا)، تحت إشراف خَيِّرٍ من الصين (حليفة روسيا). كما يخسر حلف شمال الأطلسي الحرب الصناعية، بعدما أثبت عجزه عن إنتاج الذخائر والصواريخ بكميات كافية. في بداية أكتوبر 2023، كان فشل الهجوم المضاد الصيفي الأوكراني معروفاً للجميع وبدأت التكهنات حول انهيار جيش كييف. مع ذلك، اختارت الحكومة الأميركية الدَّفعَ نحو تعزيز العالم الإسلامي لموقف روسيا. إن الموقف المتشدد لإدارة بايدن، الذي يمتد من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، أعطى روسيا، التي لا تزال في حالة حرب، إمكانية الظهور كقوة للسلام. وبالنسبة إلى العالم العربي، فقد أصبحت الآن الدرع الوحيد الممكن ضد تجدّد العنف من جانب الولايات المتحدة. إن تفضيل واشنطن للحرب يقودنا إلى تصور أنّ الإسرائيليين، الذين سئموا حربهم التي لا نهاية لها، سوف يلجؤون في نهاية المطاف إلى روسيا، التي هم قريبون منها إنسانياً، لمساعدتهم على الهروب من مستنقع الأعمال الانتقامية.
إذا كنا راغبين في توقّع الخيارات الاستراتيجية التي قد تواجهها أميركا، فيتعيّن علينا بالتالي، على وجه السرعة، أن ننزعَ صفة العقلانية عن سياسة الولايات المتحدة الأميركية. الولايات المتحدة لا تبحث عن مكاسب عبر تقييم التكاليف. في قرية واشنطن، في أرض حوادث إطلاق النار الجماعية، في عصر ديانةِ الصِّفر، الدافع الأساسي هو الحاجة إلى العنف.