لم تكن مسألة البحث في التاريخ غائبةً في الرواية الفلسطينية، لأنها ربما تحفز البحث عن جذور ذلك الصراع الدائر حتى الآن. لكننا لا نستطيع القول إنّ رواية الأسير باسم خندقجي «قناع بلون السماء» (دار الآداب) هي رواية تاريخية، فهو يستخدم السرد المبني على أكثر من معمار روائي. ولذلك طرح أكثر من سؤال هام في صلب قضيتنا الوجودية مع احتلال استيطاني استعماري وإحلالي غاصب. القناع هنا ليس قناعاً يخفي الوجه فقط، بل هو قناع يخفي الهوية، كرمز لما تفعله الصهيونية من سردية تحاول إخفاء الحقيقة التاريخية وتشويهها. فالبطل هنا وهو نور الشهدي من المخيم، يحاول أن يستخدم قناع الصهيوني أور شابيرا لكي يذهب إلى القدس ويشارك في بعثة لتنقيب الآثار. وهناك سيزيل نور قناعه، حين يزيل التاريخ عن وجهه الحقيقي، لنرى فلسطين في حقيقتها. لكن لعبة نور هي جزء من نضاله الذي أراد به الوصول إلى مواجهة هذا العدو أمامه وعلى مرأى التاريخ الدامغ في الأرض.

القناع في الشعر والأدب، هو أسلوب شعري يتحدث فيه الكاتب أو الشاعر بشخصية مختلفة عن شخصيته. يقول الروائي إنّ القناع باللغة بالعبرية يُلفظ «مسخاً»، فهو يشبه في لفظه ومعناه الرديف الإنكليزي «ماسك». والمسخ باللغة العربية يعني «مشوّه الملامح». فالملامح التي يحاول نور أن يقلدها بهدف الذهاب إلى البعثة التاريخية والعثور على روايته عن مريم المجدليّة التي يريد أن يكتبها، لكنها تتضح أخيراً حين يزيل ذلك القناع أمام سماء الفلسطينية من حيفا.
تأخذنا هذه الرواية لتذكر «عائد إلى حيفا» وثنائية خلدون ودوف، ولكن في رواية خندقجي، إن خيار المواجهة هو الخيار الوحيد، الذي يتوّج بالبحث والتنقيب وليس الحوار. وفي النهاية، فإنّ نور واعٍ لما يحدث، ويريد لتلك الهوية التي وجدها في المعطف للإسرائيلي أور شابيرا، لا أن تكون معبراً للذهاب إلى القدس، بل مواجهة لأور الذي يحاول أن يقنعه بمشروعيته بالهولوكوست والمحرقة بينما يأتي نور من المخيم.
المخيم حاضر في الرواية، وهو الشاهد على كل تلك الأقنعة، ولا سيما أنه المكان الذي يقف بوجه أور. إنّه المكان الحقيقي الشاهد على النكبة. في طريق نور مع البعثة بحثاً عن ذلك الكنز المدفون، يقف الغيتو الفلسطيني كحقيقة في مواجهة الغيتو الصهيوني.
يحاور نور مراد صديقه الأسير، على هامش حواره مع نفسه، كأنه هنا يحاور كل جغرافيا فلسطين، المخيم، السجن، القدس، لتكتمل خريطة ذلك الصراع بين أور ونور. صراع تصل جذوره إلى التاريخ وإلى مريم المجدليّة موضوع رواية نور. ربما اللافت أيضاً في الرواية أنّ الأحداث لا تجري في المخيم، ولا تحدث فيها، لكنه موجود كشاهد، وكأننا في تلك الرحلة في البحث عن الآثار، نمر فيه. إنّه ليس فقط المكان الذي ولد فيه نور، بل المكان الذي ظل حافظاً للذاكرة ومخزناً لكل ما مرّ من ويلات ونكبات.
لا تدخل الرواية إلى الألم الذي حدث بشكل مباشر، بل تتقصاه إلى أبعد، إلى تلك المواجهة مع العدو، الذي يبدو هنا كقناع. قناع مزيّف لكل الحقائق، والروايات. في مشروع باسم خندقجي، ذهاب نحو ذلك العمق في الصراع مع العدو. إنّه ــ كما يقول بلغته الروائية الحديثة ــــ ذلك الاستدعاء للتاريخ لأنه ربما سيجعلنا نزيل القناع كما فعلت سماء.
المخيم هو الشاهد على كل تلك الأقنعة


في زمن التطبيع، يجعلنا خندقجي، نتتبع خيوط السرد، لنعلم أن مهمته الروائية ليس أن نرى العدو آخر، فهو ليس كذلك كما يحصل الآن في الفن والمسلسلات وبعض الروايات. إنه هنا مجرد قناع للدخول إلى عمق الصراع ودحضه واكتشاف الحقيقة التي أظهرها الحب وحده، عندما واجه سماء بحقيقته. الحب هو من سيزيل ذلك القناع، الحب للحبيبة الفلسطينية وللأرض وللمخيم ولمريم المجدليّة، فتلك اللحظة حين يعرف من هو، سيدرك ويواجه سماء بأنه نور. وهنا نرى علاقة الحب بالهوية وبالأرض وبالحقيقة.
هكذا يواصل خندقجي مشروعه الروائي المبني أساساً على البحث والتاريخ، وكان قد أصدر أربع روايات هي «مسك الكفاية»، و«سيرة سيدة الظلال الحرة»، و«خسوف بدر الدين»، و«نرجس العزلة». وكان الروائي الأسير قد نقل من سجن نفحة الإسرائيلي جنوب فلسطين المحتلة بعد زيارة وزير «الأمن» الإسرائيلي المجرم بن غفير وطلبه تشديد الإجراءات ضد الأسرى.
في هذه الرواية، يبدو أنّ المؤلف اقترب من قلب فكرته القائمة على سرد حديث لا يهم فيه سرد القصص فقط، بل الاهتمام بالعمارة الروائية القائمة على أكثر من رواية. فالرواية لا تتقصى بداية وخاتمة، ولا تمشي بشكل أفقي، إنما هي تفعل كمن ينقب عن الآثار، تمشي بشكل عمودي لتبحث عن عمق ما أو غشاوة تزيل عنها الغبار. كل الشخصيات في النهاية تلتقي بمن تواجهه، كأن المواجهة هي الحل في النهاية، وخصوصاً حين تواجه سماء أيالا الإسرائيلية. إنها مواجهة على مرأى التاريخ ومرأى الحقيقة ومرأى المخيم، ليظهر الجرح المدفون في الداخل وهو النكبة. كأنما هناك روايتان داخل الرواية: رواية البحث عن مريم المجدليّة ورواية البحث عن فلسطين وتاريخها والهوية الحقيقية، لا تلك التي وجدها في معطف قديم، والتي سيمزقها في النهاية، ليجد هويته التي سيدافع فيها أيضاً عن حبه، فيقول في مقطع أخير: «ينزع قلادة نجمة داوود من عنقه، يلقيها بعيداً نحو السهل المحاذي للرصيف، ينتشل بطاقة الهوية المزورة من جيبه، هوية أور شابيرا، يستعرضها أمام ناظري سماء، ثم يمزقها بعنف ليلحقها بالقلادة».