كتاب جديد أضافه المؤرّخ التونسي البارز فتحي ليسير إلى المكتبة العربية ضمن اهتمامه الأكاديمي بالتاريخ الراهن تحت عنوان «جائحة كوفيد 19: الحَدث الوحش ــــ مقالة في التاريخ الآني» (دار محمد علي الحامي العربية/ تونس و«مؤسسة الانتشار العربي»/ بيروت). في هذا الكتاب، لا يتوقّف ليسير عند «الحَدث» الذي هزّ العالم كـ«وحش» أصاب الإنسان في القارات الخمس بالهلع والخوف، بل يناقش تداعيات هذا الحدث الذي غيّر العديد من المفاهيم في تعاطي الإنسان مع الحياة والموت، وكشف فداحة الوضع الصحّي في العديد من المناطق في العالم بما فيها تلك «المتقدّمة». كما كشف هذا «الحدث الوحش» عن عزلة الإنسان في مواجهة حدث مفاجئ اجتاح العالم في أيّام معدودة.

ليسير كمؤرخ تخصّص في تاريخ الزمن الراهن، ذكّر في كتابه بـ«الضوابط المنهجية» لعمل المؤرخ، لكنّه يعرّج على التحوّلات التي عرفتها الكتابة التاريخية منذ ثمانينيات القرن الماضي: «تشهد الكتابة التاريخية منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين عودةً لافتة إلى الحدث وإلى التاريخ الحَدَثي المجرّد». ويضيف: «أنّ هذه العودة المحتفى بها، إنما تندرج ضمن إطار ما يسمّى بتيارات «العودات» التي شملت إلى جوار الحدث، التاريخ السياسي، والببيوغرافيا التاريخية، والمدى القصير، والفرد، أو ما سمّاه بروديل «الزمن الفردي»، علاوة على ازدهار التاريخ الثقافي». قسّم فتحي ليسير الكتاب إلى ثلاثة أبواب هي: جائحة كوفيد عبر منظور المؤرخ، وسينوغرافيا الجائحة، وجيوبوليتيكا جائحة كوفيد 19، وكل باب قسّمه بدوره إلى فصول واستنتاجات.
في الباب الأوّل، تناول مهنة المؤرخ وما سمّاه إشكالية قول الحدث. وهنا، اعتبر أنّ الإعلام كان شريكاً في صناعة الحدث، فـ«الحق أنّه ما كان لفيروس كورونا المستجدّ أن يوقف عقارب الساعة العالمية عن الدوران لولا الحضور الإعلامي غير المسبوق في تغطية أطوار الجائحة». في هذا السياق، يطرح سؤالاً حول «ما حظّ الواقع وما نصيب المبني في الحديث الإعلامي؟». وهو سؤال قديم طُرح قبل ثلاثين عاماً، أي «منذ نهاية الحرب الباردة». في هذا الباب أيضاً، يتوقّف عند وسائل التواصل الاجتماعي التي روّجت لـ«تخاريف وأراجيف وقصص وشائعات»، معتبراً أنّ هذه الوسائط هي شكل من أشكال الإعلام التي أصبحت جزءاً من الواقع الحديث، وهذا الإعلام هو الذي جعل من كوفيد 19 «وحشاً أو مسخاً كاسراً». وفي الفصل الثاني، يفكّك دور المؤرخ في فهم أزمة كورونا، وهو السؤال الذي حاولت نخبة من المؤرخين المغاربة الإجابة عنه في مؤتمر علمي في منتصف 2020 في مدينة أغادير المغربية، ويرى أن هذا السؤال كان ردّ فعل على «طغيان الخطاب الطبي» لأنّ العلوم الاجتماعية والإنسانية «تضفي معنى على ما يعيشه الناس، بمعنى أنها تسهم في عمليّة الفهم والإدراك والتمثّل».
يتتبّع الباب الثاني تطوّر الفيروس وانتشاره في العالم والتعاطي الإعلامي والطبي معه. وكانت البداية من الصين التي أبلغت منظمة الصحّة العالمية عن تسجيل حالات التهابات رئوية حادة بتاريخ 31 كانون الأول (ديسمبر) 2019 ورصد ردود الفعل الغاضبة على الصين التي سجّلت بدورها غضباً وتحميلاً للمسؤولية لسكّان ووهان. يشير المؤلّف في هذا السياق إلى أنّ «الأزمات تغذي رُهاب الأجانب أو فوبيا الأجنبي»، وهذا حدث دائماً وفي كل مكان في الفترات الصعبة، خصوصاً عندما «يتحوّل الأجنبي، أو الغريب إلى كبش فداء». وقد غذّى ظهور كوفيد 19 موجة العنصرية في الثقافة الغربية وخصوصاً الأميركية. كما تناول الوجه الآخر لانتشار كوفيد وهو جانب التضييق على الحريات، وتقييد حركة المواطنين، وحريّة حركة البشر باعتباره «مصدراً لتهديد سلامة المواطنين».
أثار ظهوره موجة العنصرية في الثقافة الغربية وخصوصاً الأميركية


ويتوقّف ليسير في الباب الثالث عند جيوبوليتيكا جائحة 19 التي كشفت عن أزمة القوى العظمى، معتبراً أنّ الصين هي الرابح الأكبر من الجائحة. أما القوة الأميركية، ففي انحدار فيما مرّ الاتحاد الأوروبي بامتحان «وجودي». ويرى في هذا الباب أن أزمة كوفيد وصعود ترامب في الولايات المتحدة الأميركية قد «أبانا عن طور جديد من الاستقطاب الدولي» وظهور قطبية ثنائية بصدد التشكّل والتبلور بعد انتهاء الحرب الباردة. كما يرى أن هناك ازدواجية بين «التنافس» و«التعاون» الصيني والأميركي.
يمكن اعتبار هذا الكتاب أهم ما صدر في تونس عن جائحة كوفيد، إذ يلخّص فيه فتحي ليسير الدروس التي جناها العالم من جائحة كوفيد وهي ثلاثة بحسب المؤلّف، أوّلها فشل الحوكمة العالمية الحالية. أما الدرس الثاني فـ«على صلة مباشرة ووطيدة بالصحّة البشرية ومستقبلها» متوقّعاً جائحات أخرى قادمة وفق علماء الأوبئة. أما آخر الدروس فيتعلق بوضع مأساوي، إذ ضحّت الدول بصحّة مواطنيها. ويختم كتابه بمقولة للكاتب الفرنسي الراحل ألبير كامو: «ما نتعلّمه في خضم الكوارث هو أنّ لدى البشر من الأشياء ما يستحقّ الإعجاب أكثر ممّا لديهم ممّا يثير الاشمئزاز» (رواية «الطاعون»).
الكتاب رحلة في تاريخ الأوبئة والعلوم الإنسانية والاجتماعية اعتمد فيه فتحي ليسير على لغة ممتعة أقرب إلى الأدب منها إلى لغة المؤرّخين، وهو الذي عرفناه كاتباً قصصياً وروائياً ومهتمّاً بسير المنسيين الذين أهملهم التاريخ الرسمي. ها هو يؤكد في هذا الكتاب انشغاله بتاريخ الزمن الراهن، ما يفتح أفقاً جديداً في الدراسات الإنسانية. وقد استعان المؤلّف بعدد كبير من المصادر والمراجع خصّص لها هوامش في مئة صفحة، ما يجعل من هذا العمل كتاباً مرجعياً في تناول جائحة كوفيد 19 التي أصابت العالم بالرعب.