يعرّف ميخائيل باختين الرواية البوليفونية بأنّها «الرواية المتعددة الأصوات ذات طابع حواري على نطاق واسع. وبين جميع عناصر البنية الروائية، توجد دائماً علاقات حوارية. أي إن هذه العناصر جرى وضع بعضها في مواجهة البعض الآخَر، مثلما يحدث عند المزج بين مختلف الألحان في عمل موسيقيّ». ويكمل في سياق آخر ليقول إنها كفاح «ضد تشييء الإنسان، ضد تشييء العلاقات الإنسانية». فالبوليفونية في الرواية هي تعدد الأصوات، أي إنّ الراوي يتعدد بتعدد الشخصيات، فليس هنالك من راوٍ واحد خارجيّ أو داخليّ، بل تُسرَد الأحداث من قبل جميع الشخصيات في النصّ. من كل التقديم السابق، يجد قارئ رواية «نهاية الصحراء» (دار نوفل) للجزائري سعيد خطيبي، نفسه في مواجهة نصّ صعبٍ، ومربِك، ومستفِزّ، وعميق في آن واحد، وأمام رواية بوليفونية من الطراز الرفيع، محبوكة بقطَب واضحة وأخرى مخفية، تجد نفسك منهَكاً في بدايتها لتلاحق الأصوات التي تَسرُد، وتلاحق الشخصيات وأسماءها التي تعددت، وجمعتها حِرَفية خطيبي اللغوية والسردية.

تبدأ بالقراءة مع مدخلٍ/ عنوان تظنّ معه أنّ الأحداث سترتبط بالصحراء بمعناها المباشر، إلا أنّك تصطدم بفندق ومحلّ لبيع أشرطة الفيديو ومرقص ومغنّية تُقتَل. ما يجمع بين الصحراء والنصّ هو اسم الفندق (فندق الصحراء)، فتظنّ أنّك خُدِعتَ، وأنّك أمام واحد من النصوص التي اختار لها الكاتب أو الناشر عنواناً جاذباً للتسويق. لكنك حين تكمل القراءة، وتتوضّح أمامك رمزية الفندق وروّاده، وهو القابع في الصحراء، الذي يكون محور حركة الشخصيات وصولاً إلى هرب صاحبه مع اندلاع الاضطرابات في أواخر الثمانينيات في الجزائر، وتحويله إلى مستشفى، تعرف أنّك خُدِعتَ لغاية أعمق من الغاية التجارية.
قد يظنّ المتلقّي أنه أمام رواية بوليسية بمعناها السطحي، لأنّك فعلاً تقرأ في بداية النص عن عملية قتل للمغنية زازا أو زكية، وتتمحور جميع الأحداث حول البحث عن الفاعل، من خلال ما تسرده الشخصيات المتعددة، كلّ من وجهة نظره وبحسب علاقته بالمقتولة وبحسب اهتماماته وأولوياته. فهناك بشير الحبيب والمتّهم الأول الذي يدخل السجن بصفته تلك، وحميد المحقق الذي جمعته بالقتيلة علاقة ظنّها قريبة وظنّ أنه بالفعل جنّدها لتجمع له أخبار روّاد المرقص من المتنفّذين، وكمال موظّف الاستقبال وما تورّط فيه من عملية قتل قبل سنتين ومعرفة زكية بذلك، بالإضافة إلى نورة المحامية التي لعبت دوراً كبيراً في عملية السرد، وميمون الذي كان يطلّ كلما تطلّب النصّ تدخّله بصفته صاحب الفندق. وقد أطلّت شخصيات لمرة واحدة مثل حليمة وعاشور والشيخة ذهبية.
كلّ ذلك عاديّ، على الرغم من الجهد الملقى على عاتق القارئ ليتابع العلاقات ولا يتوه بين تعدد الأصوات، لكنّ الملفت هو اختيار الكاتب لشخصيّتين من دون أن يذكر اسميهما في عنوان الفصل، إبراهيم الذي يبدأ كل فصل، يتولّى فيه السرد بتاريخ اليوم الذي تجري فيه الأحداث، وحسينة التي لم تترك لها الرواية مجالاً لتروي. وهنا تجد بأنك يجب أن تفتّش عن الإجابات في النص. فإبراهيم الذي يبحث عن قبر والده الذي يظنّ أنه شهيد، والوهم الذي يعيشه وما يرافق ذلك من ضياع لمحلّه بسبب الديون، نجده مخدوعاً، موهوماً، فلا تذكر الرواية اسمه بصفته راوياً، بل تصرّح بتاريخ اليوم، لتجعله رمزاً لجميع أبناء مجتمعه وبيئته من الموهومين والمخدوعين، والذين لن يحققوا شيئاً إلا بتغيير أولويات بحثهم ونبشهم في الماضي، والتركيز على الحاضر والمستقبل. أما حسينة، وهي المحامية أيضاً وزميلة نورة، التي توهمنا الرواية بأنّ دورها هامشيّ، تصدمنا في نهاية النصّ بأنها الشاهد الوحيد على جريمة قتل زكية والمشارِك بشكل غير مباشر فيها، فيكون السبب في عدم إفساح الرواية لها في المجال لتروي، هو أنها كان يجب أن ترمز إلى الخير والدفاع عنه، لكن الواقع مختلف وصادم أحياناً، وهذا ما تؤسّس له الرواية لتصل في نهايتها، إلى بدء العصيان والثورة، ونهاية الصحراء، الفندق والقحل والموت والذلّ.
تتمحور الأحداث حول البحث عن قاتل المغنية زازا


لغة خطيبي متماسكة وجذلة وفصيحة، إلا ما ندر، ويختار لكلّ مقام مقال في نصّه، ومع نصّ كهذا، تتعدد فيه الأصوات الروائية، تجده حذراً مع انتقال السرد من شخصية إلى أخرى، فيختار لها جُـمَــلها ومفرداتها بعناية، وهنا تكمن قوة النصّ بلغته، بالإضافة إلى نقاط قوّة كثيرة يمتلكها هذا النصّ، ولعلّ أهمها اعتماده على الأحداث التاريخية وتمريرها من دون ابتذال، ولكن فقط من أجل خدمة الحدث الذي يحصل الآن، وربطه بما يحصل حوله، ليترك لنا تحليل أثر التأثير والتأثّر. أمّا الناحية البوليسية التي وجدها بعضهم أساسيّة في النص، فلم تكن سوى اللبنة الأولى، ليبني عليها الكاتب فكرته: فأنت عندما تقرأ كلّ فصل بصوت شخصية مختلفة، تتكشّف لك قضايا ومشكلات وجرائم وخفايا، قامت بها كلّ شخصية، بعيداً عن القضية الرئيسة، أي مقتل المغنية زكية، لتكون الغاية من النصّ هي هذا البَوح لا الكشف عن القاتل، فكلّ واحد منّا يخبّئ أسراراً قد لا يتخيّلها أحد عنه. فأنت عندما تكتشف من هو القاتل، تأتي المعلومة بعيداً عن التشويق، والإطالة من أجل التشويق، كما هو حال النص البوليسي، وتأتي كأنها معلومة عادية، وليست المعلومة التي كنت تنتظرها على مدى عشرات الصفحات.
مأخذ واحد على الرواية، هو مقطع يرد قُبيل نهاية الرواية، تجد فيه الكاتب يشكّ بقدرة قارئه على التحليل، فيشرح له أنّ الكل شارك في قتل زكية، وهذا برأيي دور القارئ والناقد من بعده، حيث يقول كمال «لست وحدي من كتم صوت زكية، بل شاركتني حبيبتي تلك الفعلة، مثلما شاركَنا فيها إخوتها الذين نبذوها، بشير الذي أخلف وعده بالزواج بها، الشيخة ذهبية التي كادت لها، ميمون الذي زاد من غرورها، إبراهيم الذي زرع في قلبي رغبة انتقام منها، وحميد الذي أوهمها بحمايتها». هذا التحليل غير المبرَّر من الكاتب تجاه نصّه وإيراده في النصّ نفسه، قد يكون هفوةً وقع فيها خطيبي لأنه يعرف أنّ النصّ صعب، فأراد أن يريح القارئ في النهاية بأن يجمع له كلّ الخيوط ببساطة، ولكنه بذلك شكّك في قدرات ذلك القارئ من دون أن يقصد.