«التاريخ الحقيقي لم يُكتب ولن يُكتب» هذه الجملة كتبها الخديوي عباس حلمي الثاني في مذكراته «عهدي» التي تناولت الفترة التي حكم فيها مصر بين عامَي 1892 و1914، كتعبير عن التزييف الذي يحدث دائماً عند كتابة التاريخ، وخصوصاً الرسمي منه. الجملة ذاتها التي استعان بها الصحافي والكاتب المصري محمد الشماع في كتابه «الشوارع الخلفية... عن المهمل والمسموم في تاريخ مصر ـــــ 1882 ــ 1852» (دار المصري ـــــ 2023)، للتدليل على أن التاريخ الرسمي ليس سوى وجهة النظر الرسمية للأحداث. زاوية مليئة بالأكاذيب والاختلاق والتدليس المتعمّد. يعتبر الشماع أن أول معتمد بريطاني في مصر اللورد كرومر، كان أحد أهم وأكثر المدلّسين والكذابين الذين كتبوا عن التاريخ المصري. في «الشوارع الخلفية»، يرصد الشماع دور كرومر وتأثيره في كتابة التاريخ المصري عن الفترة الممتدة من ثورة عرابي وبداية الاحتلال البريطاني وصولاً إلى ثورة يوليو (1882- 1952)، ملاحظاً أنّ الغريب في الأمر هو انحياز غالبية السياسيين وكتّاب التاريخ لوجهة نظر المستعمِر نفسها، من دون أن يلتفتوا إلى كذبه وادعاءاته وتمجيد نفسه في مقابل احتقار الشعب المصري. لكن الشماع يرى أيضاً أنه في مواجهة هذا التاريخ الرسمي الذي يتناول بشكل أساسي ما يحدث في الشوارع الرئيسية، هناك تاريخ آخر مواز يحدث في الشوارع الخلفية ويتم إهماله دائماً عن قصد.يضع الشماع في مشروعه عن التاريخ الموازي، نموذج الكاتب الصحافي الراحل صلاح عيسى (1939 - 2017)، محترماً منجزه الذي تناول الحياة الاجتماعية في مصر، آملاً في يوم من الأيام أن يكتب ويحقق عملاً مثل «رجال ريا وسكينة» الذي كتبه عيسى، وأعادت «دار الكرمة» نشره منذ فترة. وانطلاقاً من شغف الشماع بمنتج صلاح عيسى، كتب عنه كتاب «حكايات من دفتر صلاح عيسى» (مؤسسة شمس للنشر والإعلام ـــــ 2020)، وصدر له عن المؤسسة نفسها كتاباً «أيام الحرية» (2011) و«الشعب يبدي رأيه في كل ما حدث» (2018)، فيما نشر «السرايا الصفرا... رحلة في مذكرات مدير مستشفى المجاذيب (1916- 1953)» عن «دار المصري للنشر والتوزيع» (2022)، وكتاب «المتمرد... سيرة حياة عمر خيرت» (2022) عن «دار نهضة مصر»، وحديثاً كتاب «الشوارع الخلفية» (2023). التقينا محمد الشماع في القاهرة وحاورناه عما دار في شوارع مصر الخلفية في حقبة مهمّة ومفصليّة من تاريخها الحديث.

بداية لماذا اخترت الفترة الممتدة ما بين عامَي 1882 و1952؟
ـــــ هذه الفترة تحديداً شهدت تزويراً هائلاً للكثير من الأحداث التاريخية، وهي الفترة أيضاً التي بدأ ينساب هذا التاريخ المزوّر أو المسموم إلى التاريخ الرسمي بطريقة سهلة يسيرة طالما استغربت منها. هي الفترة التي بدأ المؤرخون المصريون –للأسف- يعتمدون فيها على كتابات المستعمر الذي بسط نفوذه على البلاد كمصادر لا تخضع للنقاش أو للنقد، ومن تلك الكتابات كتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر الذي أعتبره أبا التاريخ المسموم في مصر، فضلاً عن ذلك، فإنّ تلك الفترة تحتوي على مناطق مجهولة بشكل كبير في التاريخ إما مُحيت أحداثها عن قصد، أو أنها أهملت انتصاراً لأيديولوجيات معينة أو لطوائف سياسية ودينية معينة. والأهم أن تلك الفترة أيضاً شهدت ازدهاراً للصحف، التي أعتبرها أحد أهم مصادر التاريخ.



اعتمدت في كتابك على مذكرات كرومر والخديوي عباس والبارون كوسيل... لماذا هؤلاء بالتحديد؟
ـــ كل واحد منهم يمثل تياراً تاريخياً مختلفاً، كرومر الذي يمثل الاستعمار، فهو من جاء إلى مصر بعد الثورة العرابية مباشرةً وغادرها بعد حادثة دنشواي الشهيرة، وأنجز بعدها كتابه الذي ذكرته «مصر الحديثة»، وهو كتاب يحتوي على شقين، شق معلوماتي، فبحكم منصبه كمعتمد بريطاني وحاكم فعلي للبلاد، أورد الكثير من المعلومات المهمة التي جاءت في السجلات والتقارير الرسمية، واتفقنا أو اختلفنا مع كرومر لكن هذا جزء مهم ومفيد لأي باحث. أما الشق الآخر في الكتاب، فهو يعبّر عن وجهة نظره، أو وجهة نظر الاحتلال بشكل عام، وهنا نرى بوضوح كيف كان هذا الرجل ينظر إلى مصر ونخبتها وشعبها. لذلك اعتبر أن هذا الكتاب من أكثر الكتب التي تحمل زيفاً وزوراً وتشويهاً لكل ما هو مصري أو مقاوم للاستعمار، وأذكر هنا موقفه من الثورة العرابية التي خاض فيها تشويهاً وإهانة لقائدها وكل المشاركين فيها بشكل فج. أما مذكرات «عهدي» للخديوي عباس حلمي الثاني، فتمثل تيّار السلطة المصرية، وأعتقد أن هذا الخديوي هو الوحيد الذي كتب مذكراته بنفسه في منفاه، وأرى أنه واحد من مظاليم التاريخ. فعندما تقرأ ما كتبه كرومر نفسه عن أحد أسباب رحيل عباس حلمي، نجده يقول إنّه «كان مصرياً أكثر من اللازم». أما البارون كوسيل، الذي كتب مجلداً ضخماً اسمه «ربع قرن في مصر»، فيمثل تياراً آخر من النخبة المستعمرة التي عاشت في مصر، فالرجل عاش نحو 25 عاماً، لكنه في النهاية أنجز كتاباً يحتوي على مشاهدات عادية، وكأنه «شاهد مشافش حاجة». كتاب البارون كوسيل نموذج لكتابات من يكتب التاريخ وهو لا يعرف التاريخ أصلاً. عندما تقرأ كتابه الكبير لن تحصل منه على معلومة، وبعد أن تنتهي من كتابه، ستجد نفسك أمام وصف بسيط لافتتاح قناة السويس لكنه في النهاية لم يقدم وجبة تاريخية.

بشكل عام، كيف تتعامل مع المذكرات وأنت تعلم أنّها تحتوي على أكاذيب؟
ــــ أنا أتعامل دائماً بحذر شديد مع المذكرات، وخصوصاً في هذه الحقبة من تاريخ مصر. أتعامل بنظرة انتقادية وأفرّق بين المعلومة التي قد أستخدمها في ما أكتب، وبين وجهة النظر التي أنتقدها وأحاول أن أصحّحها بما لديّ من مصادر أخرى، فكرومر مثلاً وضع في كتابه معلومات واستخدم بعضها لتدعيم وجهة نظره، لكن ما يحزنني حقاً هو أن وجهة نظر الرجل انتقلت إلى بعض المؤرخين المصريين.

لماذا ركّزت بشكل أساسي في كتابك على ثورة عرابي للتدليل على التاريخ المصري المسموم؟
ــــ لأنها مثال واضح على السير وراء حتى المصطلحات التي اخترعها المحتل، فالكتابات التي تناولت هذه الفترة وصفت حركة أحمد عرابي بـ«الهوجة»، وهو لفظ معبّر جداً عما وصفه كرومر نفسه في مذكراته عن تلك الثورة، إذ كان يهاجمها باعتبارها فوضى، وبأن أحمد عرابي ذاته لم يكن سياسياً ولا يستحق التعاطف. نظرة لا تنفصل عن نظرة المستعمر لنا بشكل عام.

كيف كان ينظر المستعمر إلى مصر في هذه الفترة؟
ــــ كان ينظر لنا بأننا شعوب غير متحضرة لا تستحق أن تحكم نفسها بنفسها، وهوس الصحافة الأجنبية الشديد بقضية ريا وسكينة باعتبارها أعمال عنف غير إنسانية وغير متحضرة كان بقصد الإساءة للشارع المصري. وقد حدث ذلك أثناء مفاوضات الاستقلال، فكأنهم أرادوا أن يقولوا انظروا هذا الشعب هو الذي يريد أن يحكم نفسه وشارعه مليء بالجرائم. لذا كان قرار المحكمة بإعدام الشقيقتين، إضافة إلى مجموعة القتلة الآخرين، رغم أنهما لم تشتركا في القتل، وبالتالي فإنّ كان ممكناً تخفيف العقوبة عن الإعدام، لأنها لم تكن عقوبة الفاعل الأصلي. وغير قضية ريا وسكينة، هناك قضايا أخرى ذكرها توماس راسل في كتابه «مذكرات حكمدار القاهرة».
الشعب يصنع أسطورته التي يردّ بها على المستعمر وما يراه من تضخيم لأشخاص يعلم أنهم ليسوا أبطاله الحقيقيين


في كتابك قسم خاص عن الصحف الدينية، لماذا اعتبرتها أحد روافد التاريخ المسموم؟
ـــ ركزت في الكتاب على الصحف ذات الأيديولوجيا الدينية، وكان من الطبيعي أن تخدم هذه الصحف مصالح الطائفة التي تنتمي إليها، فالصحافة الدينية (الإسلامية والمسيحية واليهودية) كما هو واضح في الكتاب تخدم مصالحها ومصالح أبناء طائفتها، إما بتمجيد النفس أو بمهاجمة الآخرين وتصفية الحسابات معهم، إذ كان يُستخدم بعضها لأهداف سياسية معينة. وهو تقريباً نفس ما فعله اللورد كرومر الذي استخدم مذكراته أو التأريخ عموماً في تمجيد الاستعمار والدعوة إلى طرح أن النخبة المصرية لا تصلح لحكم مصر. لذا أعتبر الصحف الدينية ومذكرات كرومر وجهان لعملة واحدة.

كيف رأيت الصحف اليهودية في هذه الفترة؟
ــــ الصحافة الصهيونية عملت في البداية كصحافة متخصّصة في الفنون والآداب وغيرهما، لكن بعد فترة أصبحوا بوقاً دعائياً للحركة الصهيونية التي كانت تنشأ في العالم، وخصوصاً أنّ مصر كانت تحوي جاليةً يهودية كبيرة، إضافة إلى قربها الشديد من فلسطين، وهناك رؤوس أموال كبيرة وجمعيات أُسّست للترويج للصهيونية. وكانوا يعتبرون أن مصر أرض ممهّدة جداً لهذا الفعل. وهناك خطابات بالفعل بين تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة، والطبيب اليهودي ألبرت موصيري الذي أسّس في أوائل عام 1920 صحيفة «إسرائيل»، بلغات ثلاثة؛ عربية وعبرية وفرنسية، كما أجرى موصيري حواراً صحافياً مع هرتزل. هذه الصحيفة سبقتها صحيفة أخرى أسموها «الرسول الصهيوني»، وكانت أول صحيفة تحمل اسم «صهيون» ناطقة بالفرنسية إلى جانب غيرها من الصحف التي تبنّت وجهة النظر الصهيونية في إقامة الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية. وكان عدد كبير من الصحف اليهودية في تلك الفترة تصدر باللغة الفرنسية أولاً لأنّ غالبية الشعب المصري يجهل هذه اللغة بينما كانت هي اللغة المستعملة في دوائر المال والأعمال، ولغة التدريس السائدة في المدارس اليهودية والمدارس التي يعلّم اليهود أبناءهم فيها كـ «الفرير» ومدارس الراهبات، وأيضاً لأن الجالية الأجنبية في مصر تتحدث الفرنسية، وهم في النهاية يريدون نشر أفكارهم، وحشد رأي عام أجنبي لفكرتهم.



سيرة «الفتوات» أهملها التاريخ الرسمي، لكنك تناولتها في «الشوارع الخلفية»... فلماذا أُهملت ولماذا كان اهتمامك بها؟
ــــ هناك صورة نمطية عن الفتوات في هذه الفترة، مأخوذة عن روايات نجيب محفوظ، لأن محفوظ كان يتناولها في فترة معينة، لكن دور «الفتوات» ذاته طرأ عليه الكثير من التغيرات والتحولات، بفعل تأثير المجتمع عليه، فلدينا مثلاً حجاج الخضري أيام الحملة الفرنسية الذي كان وطنياً خالصاً. ثم بعد ذلك أيام فترة الاستعمار البريطاني، ظهرت مجموعة من الفتوات الذين يحمون المناطق، لكل منطقة فتوة هو حاميها وصاحب الكلمة العليا فيها، ولكن كثيراً منهم ارتبطوا بشكل أو بآخر بالقوى الاستعمارية، فكان لكل فتوة حماية من جهة، سواء كانت حماية إنكليزية أو فرنسية، ولن تستطيع محاكمة هذا الفتوة إذا ارتكب جريمة إلا بعد إذن الجهة التي تحميه. محمود حكيم، فتوة الجمالية مثلاً، ارتكب جرائم قتل ولم تجر محاكمته إلا بعد إذن القنصلية الفرنسية، وتدخّل القنصل الفرنسي بشأنه، وأخرجه ونفاه.
الكتابات التي تناولت تلك الفترة وصفت حركة أحمد عرابي بـ«الهوجة»

وبعد فترة، علم البوليس المصري أن محمود يدير وكراً للمخدرات، لكن البوليس لم يستطع مهاجمة الوكر إلا بعد استصدار إذن من القنصلية كذلك، فانتدبت وكيلها لحضور عملية الضبط، ودارت معركة أصيب فيها وكيل القنصل، وحكم على محمود بالنفي فاختار بيروت، لكنه عاد بعد فترة قصيرة وارتكب جريمة قتل أخرى، فحُكم عليه بالنفي إلى فاس في المغرب، إلى أن مات مريضاً هناك وهكذا. هذا النموذج تحول كذلك إلى نموذج آخر مع بداية إنشاء منطقة الترفيه في الأزبكية التي كانت مكاناً لدور المسارح والكازينوهات، فتحول الفتوة إلى بورمجي وبلطجي يحمي الراقصات بأجر، وهكذا.

وما الفرق بين الفتوة والبورمجي؟
ــــ الفتوة كان في الحارة الشعبية، وأحد أعمدتها يعمل على حفظ الأمن، ويحصل، في مقابل ذلك، على ما سمّي بالإتاوة وهي عبارة عن مبلغ مالي يدفعه التجار والسكان أحياناً. لكن مع بداية الأربعينيات، بات للشرطة المصرية تواجد قوي في الشارع، وبالتالي تراجع دور الفتوة، وفي الفترة نفسها حدث تطور مهم في المجتمع بظهور منطقة ترفيهية في الأزبكية تحتوي على كازينوهات ومراقص، واختلط الرقص بالبغاء فأصبح لكل واحد منها برمجي يحميها مقابل مبلغ مادي. ويربط المؤرخ جمال بدوي بين ظهور الشخص البورمجي ونشأة دور الدعارة الرسمية في مصر. لكن على أي حال، لم يكن الفتوة ولا البورمجي في التاريخ المصري يرمز إلى السلطة ولا إلى البطل المنشود. مجتمع الفتوات مجتمع متطور، وللأسف الشديد هذا التطور لم يرصد بدقّة وجدية في التاريخ الرسمي، فتاريخ الحارة الشعبية لا يمكن الحديث عنه من دون الحديث عن الفتوة.

في كتابك أيضاً، اعتبرت الرقص الشعبي المصري أحد مظاهر التاريخ المسموم؟
ــــ همي الأساسي في الكتاب هو طرح سؤال هو: لماذا سار المصريون خلف المستعمرين في وجهة نظرهم؟ الغريب أن الرقص الشرقي كان دليلاً واضحاً على ذلك، فالرقص الشرقي لم يكن أبداً مثل الرقص الذي نراه الآن ورأيناه في جيل الراقصات الكبيرات. كانت الطريقة مختلفة تماماً، ولم يكن شهوانياً أو لإثارة الغرائز... طيب لماذا اختلف؟ لأن المستعمر رأى أن هذا الفن مثير لغرائزه هو، وبدأ يكتب ويرسم الرقصات بشكل شهواني، وسادت هذه النظرة بعد ذلك وتحول إلى رقص غرائزي تماماً، رغم أنه مختلف تماماً عن الرقص الشرقي الذي ظهر في نهايات القرن الـثامن عشر واستمر لبداية القرن العشرين. وقتها كان الرقص الشرقي شبيهاً برقص الفلاحات حالياً. والغريب أن الراقصات أنفسهن سرنَ خلف وجهة نظر ورؤية المستعمر للرقص!

هل يمكن أن نعتبر كتاب «الشوارع الخلفية» جزءاً من كتابة التاريخ الموازي؟
ــــ بالضبط، هو التاريخ الموازي؛ فأنا مؤمن بثنائية الشوارع الخلفية والشوارع الرئيسية. في الرئيسية يُكتب التاريخ الرسمي وفي الخلفية يُكتب التاريخ غير الرسمي أو الشعبي، بما يضم من كتابات مسمومة عن النخب والناس، فضلاً عن تاريخ جرى في تلك الشوارع ولم يدوّن في التاريخ الرسمي، وهو تاريخ الناس العاديين أي الشعب بكل فئاته التي ظهرت حينها؛ ومنهم الفتوات. أذكر هنا الفتوة حجاج الخضري أحد قادة ثورة القاهرة الأولى الحقيقيين، فالرجل ذُكر في مواضع بسيطة جداً في التاريخ بينما ذكر التاريخ الرسمي أنّ قادة الثورة هم مجموعة شيوخ الأزهر.

ومن أين نحصل على هذا التاريخ الشعبي؟
ــــ في الغالب يتم الاعتماد على كتابات أخرى من صحف ومذكرات وتقارير تتناول تلك الفترة التي نريد التأريخ لها. مثلاً هناك كتاب «ساعة عدل واحدة» الذي كتبه أرثر سيسيل ألبورت وهو طبيب عاش في مصر رصد أحوال المستشفيات في الفترة الممتدة بين عامَي 1937 و 1943. وكذلك هناك مذكرات «حكمدار القاهرة» لتوماس راسل، الذي رصد فيه أحوال الجريمة في مصر، إضافة إلى ذلك الأرشيف الصحافي، باعتبار أنّ الصحافة مصدر مهم للتاريخ. كل هذه المصادر حكت تاريخاً غير رسمي، وهو الجزء الذي أهتم به، فأنا لا أهتم كثيراً بالتاريخ الذي لا يُدرَّس في الجامعات والمدارس، أنا أهتم بالتاريخ الاجتماعي بكل عناصره.

وبرأيك لماذا تجاهل المؤرخون التاريخ الاجتماعي إلا نادراً؟
ـــ يمكن أن يكون السبب التأثّر بالتاريخ الغربي، أو أن السلطة، أي سلطة، لا تريد أن يكون ذلك موجوداً في التاريخ، وأعتقد أن هذا كان إهمالاً عن عمد. ولذلك عندما يظهر مؤرخ يكتب عن التاريخ الاجتماعي، نجد احتفاءً به مثل صلاح عيسى وكتابه المهم «رجال ريا وسكينة»، وسيد عويس، لكن الحقيقة تقول إنّنا لم نر المجتمع المصري الحقيقي في فترة 1882 وحتى 1952، نحن قرأنا فقط عمّ يحصل في دوائر الحكم النخبة والقصر والأحزاب وصراعاتها.

«الشوارع الخلفية» هو التاريخ الموازي والأمور التي أُهملت عن عمد.. هل هذا له علاقة بمن يكتب التاريخ؟
بالتأكيد لأن القاعدة تقول إن التاريخ الرسمي يكتبه المنتصر والأقوى، لكن الشعبي يجد له عادة طريقة لحفظه من زاويته. مثلاً أدهم الشرقاوي قاتل وقاطع طريق لكنه شعبياً أصبح أسطورة شعبية، ومثله خُط الصعيد، فهما كانا يرتكبان جرائم سرقة لكن لأنهما كان يسرقان من كامبات الإنكليز، أصبحا أسطورة. الشعب يصنع أسطورته وهو في الحقيقة يردّ بها على المستعمر وما يراه من تضليل أو تضخيم لأشخاص آخرين يعلم تماماً أنهم ليسوا أبطاله الحقيقيين.