يمثّل آدم فتحي (1957) تجربة استثنائية في المشهد الشعري التونسي في غزارة إنتاجه وتنوّعه بين الكتابة بالعامية والعربية الفصحى والكتابة للأغنية التي تمثّل مكوّناً أساسياً في مساره الأدبي منذ بداية ظهوره في أواخر سبعينيات القرن الماضي عندما كان ملازماً للمجموعات الموسيقية التي كانت تسمّى بمجموعات الموسيقى البديلة التي أسّست للثقافة المستقلة وكانت تقدّم عروضها بمرافقة آدم فتحي في الفضاءات الجامعية والنقابية بعيداً من الفضاءات الثقافية الرسمية. رافق آدم فتحي التيارات اليسارية في الجامعة، وساندها كما ساند التحركّات النقابية مع مجموعات «البحث الموسيقي» و«الحمائم البيض»، والشيخ أمام الذي كتب له أجمل الأغاني، قبل أن يلتقي بالفنان لطفي بوشناق في عام 1990 الذي كتب له معظم أعماله وأشهرها. على مدى نصف قرن، راكم آدم فتحي تجربة شعرية لافتة وتوالت أعماله منذ عام 1982 مع «سبعة أقمار لحارسة القلعة» و«حكاية خضراء والأمير عدوان» و«أغنية النقابي الفصيح»، و«أناشيد لزهرة الصبار» و«المعلقة» و«نافخ الزجاج الأعمى». وبالتوازي مع هذه المسيرة الشعرية، أنجز العديد من الترجمات لشارل بودلير وإميل سيوران وغيرهما، وقد صدرت هذه الترجمات عن «منشورات الجمل» في بيروت. لم يغب كذلك عن الكتابة في الصحافة التونسية منذ بداية الثمانينيات في صحف «الرأي» و«الموقف» و«الأيام» و«الشروق»، إلى جانب مساهماته في الإنتاج التلفزيوني والإذاعي عبر برامج ثقافية اعتنت بالأدب والثقافة عموماً. آدم فتحي الذي ينأى بنفسه عادةً عن المشهد الثقافي في تونس، قليل الظهور أيضاً في وسائل الإعلام وقليل المشاركة في المهرجانات الأدبية التي كثيراً ما يغيب عنها الأدب. نجح في نحت مسيرة شعرية وأدبية لافتة وفريدة سواء في جيله أو في من سبقوه، ما جعله يحظى بتقدير اعتباري من الأجيال الجديدة في تونس، وقد عاش دائماً مستقلاً بعيداً عن السلطة لإيمانه بأن الأدب والموقع الثقافي هما السلطة الحقيقية. في هذا الحوار يتحدّث عن رؤيته إلى الشعر والكتابة ومسيرته الأدبية
آدم فتحي: السلطات والمعارضات عقدت تحالفاً ضدّ المثقّف


على مدى نحو خمسين عاماً من الشعر والحضور في المشهد الأدبي، لم تنشر من الكتب في الشعر، إلا ثلاثة أعمال فقط، لماذا هذا «التعفّف» عن نشر الشعر؟
ـــ لندقّق في بعض المعلومات. دخلتُ ساحة النشر عام 1982 بكتاب «سبعة أقمار لحارسة القلعة». ثمّ دأبتُ على محاولة النشر بمعدّل كتابٍ كلّ سنتين. بعضُ هذه الكتب حُجِز بعد النشر. بعضُها مُنِع من النشر في المطبعة. بعضها ضاع في غرف الفنادق أو مع ضياع الحاسوب، ونحن نتسلّل من الغرف أو الشُّقَق هرباً من البوليس أو الدائنين. لكنّ المنع من النشر أو الحجز بعد النشر، لم يمنع هذه الأعمال من الوصول إلى القرّاء بأكثر من طريقة. أعدتُ كتابة بعضها. نسختُ بعضها صحبة الأصدقاء. ألقيتُ بعضها في الأمسيات وتمّ توثيقها عن طريق الكاسيت والفيديو. نشرتُ نصوصاً كثيرة منها داخل تونس وخارجها من دون أن أنسى دَوْرَ الأغنية في إيصال الكثير من النصوص. كما أنّ الترجمة من جهة وكتابة المقالة من الجهة الأخرى، كانتا في خدمة الشاعر أساساً. هكذا ترسّخت التجربة الشعريّة في ذاكرة كثيرين. وثمّة إعدادٌ لنشر هذه الكتب في صيغة أعمال شعريّة كاملة تصدر قريباً. ولا أعتقد أنّ هذا العدد (أكثر من عشرين كتاباً حتى اليوم) يسمح باعتباري «مُقِلاًّ» في النشر أو «متعفّفاً» عنه!

ما تفسيرك إذن؟
ــ لم أُولِ مسألةَ النشر من عدمه اهتماماً أكبر ممّا ينبغي. لم أنظر إلى عدد الكتب كغاية. لم أعتبر الحجز أو المنع سبباً للشكوى أو لادّعاء «بطولة». ساهم كلّ ذلك في عدم وصول المعلومة في أحيان كثيرة، لكنّي لم أبال بالأمر. ثمّ إنّي لا أتقن لعبة الترويج للذات. لقد لاحظتُ أخيراً أن سيرتي المدرجة في ويكيبيديا «ناقصة» بشكل فادح، لكنّي لم أعرف كيف أتدارك الأمر ولم أهتمّ به كثيراً. فضّلتُ دائماً النظر إلى الأمام. إلى المستقبل. إلى الكتاب القادم في ما سمّيته «حرب المواقع». يحجز لي كتاباً، فأكتب أغنية أو أترجم نصّاً أو أنشر مقالة. كانت تلك طريقتي الطبيعيّة لتحقّق الشاعر. يؤلمني طبعاً أن أرى شراسة البعض في مهاجمة زملائهم بعبارات من نوع «فلان انتهى». رأيت هذه العبارة تطلق مثل الرصاصة على معظم شعراء تونس وكتّابها جيلاً بعد جيل من الشابي إلى المسعدي إلى آخر القائمة. أحتفظ في ما يخصّني إلى اليوم بقصاصاتِ كثيرين «بشّرُوا» بموتي شعريّاً منذ نهاية الثمانينيات لمجرّد أنّهم لم يتجاوزوا فقرهم الإنسانيّ المدقع. ثمّة شيء خارق يحدث في مسيرة الشعراء الذين يتعجّل بعضهم موتهم بهذه الطريقة: كونهم يعيشون أكثر من حياة.

قلت في آخر حضور لك في معرض الكتاب أنّ «سبعة أقمار لحارسة القلعة» هو أهمّ أعمالك؟
ـــ في هذا الكتاب بذورُ مغامرةٍ جماليّة تطوّرت في التالي من الأعمال. أوّل تلك البذور اعتماد «الكِتَاب» كشكلٍ رئيسيّ، فأنا لم أنشر «مجموعة شعريّة» بالمعنى المُتَعارف عليه، بل حاولتُ دائماً بِناءَ كُتُبٍ ذات معمار خاصّ يتيح لها أن تتنفّس حين تتشظّى وتتوحّد. كانت تلك طريقتي في التعامل مع كياني ذاته، مع شظاياي الشخصيّة. من ثمّ كان هذا الكتاب سيرتي الشعريّة من ناحية وقراءتي للعالم الذي أعيش فيه من ناحية أخرى. هكذا ظلت الكتابة عندي طيلة أربعين سنة. كنتُ أنا «آدم» وأنا «يسار» في هذا الكتاب وهما يخوضان رحلةً لا يدركان تماماً الغاية منها. و«كنتُهُما» حين فرّطا في أقمارهما السبعة لفائدة حارسة القلعة مقابل أن تسمح لهما بالدخول. وكنتُ أنا «يسادم» المتحوّل المتشكّل من أناه وآخره، الذي أراد الخروج من القلعة ليصدع بحقيقة خيبته، فأعطته الحارسة شفةً من نار وشفةً من كبريت وقال له اخرج وتكلّم. لقد خرج «يسادَم» من القلعة لكنّه ظلّ في نهاية الكتاب متردّداً خائفاً لا يريد أن يختار لأنّه لا يريد أن يتحمّل مسؤوليّة خياره. هكذا بدا لي واقعي الشخصيّ والواقع التونسيّ والعربيّ في تلك الأيّام. وكأنّ مأساة اليونان تتأنسن حين تتعرّب: مأساتهم إرادة يعارضها القدر ومأساتنا إمكان تنقصه الإرادة. لهذه الأسباب وغيرها أكّدتُ على أهميّة «سبعة أقمار...» في تجربتي من جهة أنّه كتابٌ «أمّ» أو «أب». إنّه عملي الأوّل. العمل الأوّل هو أمّ الشاعر أو أبوه كما أنّ الطفل هو أبو الكهل أو أمّه.

هل ترى أنّ لكل شاعر عملاً واحداً يترجم روح تجربته؟
ـــ ليس تماماً. أهميّة العمل الأوّل لا تعني بالضرورة أنّه الوحيد أو الأفضل... أهميّة العمل الأولّ لا تمنع الأعمال التالية من إحداث مستويات من الاختلاف وأحياناً من القطيعة. لكنّ النظر في هذه الأعمال قد ينبّه إلى ملامح أساسيّة في التجربة. والحقّ أنّي لم أنتبه إلى أهميّة هذا الكتاب بالنسبة إلى تجربتي إلا في وقت متأخّر، بعدما اطّلعت على بعض الكتابات ومن بينها عمل شارل مورون «من الاستعارات الملحّة إلى الأسطورة الشخصيّة». أيّاً كان الأمر، فهذه مجرّد وجهة نظر. وأنا لا أخال القارئ مضطرّاً إلى تصديق الكاتب حين يتحدّث عن أعماله، لأنّ ما يقوله في هذا المجال ليس سوى رأي من جملة الآراء.

أنت من أقل الشعراء حضوراً في المناسبات الشعرية في تونس (تعتذر غالباً)، هل أنت من الذين يعتبرون أنّ الشعر يوجد خارج المنابر وبعيداً عن الجمهور الحاضر بمعنى أنّه يقرأ في الصمت والعزلة؟
ـــ لا أعتقد أنّ الشعراء يريدون أن يُقرأ شعرهم في الصمت والعزلة. لو صحّ ذلك لما رأيناهم يحفلون بلقاء الجمهور مهما قلّ عدده من أيّام عكاظ وصولاً إلى بودلير ورامبو وسعدي وسركون وسيميك إلخ... صحيح أنّ الشاعر ينصت إلى نفسه، لكنّ نفسه لا تكتمل إلا بالآخر. من ثمّ لم نكفّ عن الحكم على المجتمعات بالتخلّف أو التقدّم وفق إقبالها على الشعر أو تجاهلها له. أنا أفضّل البحث عن أسباب عزوف الجمهور عن الشعر عوضاً عن التظاهر بالعزوف عن الجمهور. أعرف كثيرين يترفّعون عن الجمهور ما دام منصرفاً عنهم ويلعنون الأمسيات التي لا يشاركون فيها ويشكّكون في المهرجانات التي لم يدعهم إليها أحد، لكنّهم ما إن يحصلوا على دعوة حتى يصبح ذلك النشاط «مأثرة ثقافيّة». وفي السياق نفسه، تراهم يلعنون أكبر الجوائز لأنّها تتجاهلهم أو لأنّهم يفشلون في نيلها وما إن يحصلوا على أقلّ منها حتى تصبح أهمّ من جائزة نوبل. لا أريد ركوب هذا المنزلق.
لم ينتقل بيان الثقافة العربيّ «الأوّل» إلى الرواية كما يظن بعضهم بل انتقل إلى السياسيّ الشعبويّ الذي يبيع سرديّة مسمومة


بالنسبة إلى تجربتي الخاصّة، كان الصمتُ والعزلة من أعزّ «أصدقائي». لكنّهما صمت وعزلة مجبولان من طين الحياة. اعتدت أن أكتب في خلوةٍ لكنّها خلوةٌ في الزحمة ووسط الناس. ألِفتُ أن أكتب في المقاهي الصاخبة، فإذا بذلك الصخب يحفّ بي مثل قوقعةٍ من الصمت. لذلك كنت أسعد كثيراً كلّما لمست رغبةً في الاستماع إليّ. ولم أنفكّ أحضر بحساب وأعتذر بحساب وأنتقي الأمسيات والتظاهرات التي أشارك فيها. ذاك شأني منذ الثمانينيات والتسعينيات. لم نكن نملك آنذاك فضاءات إعلاميّة لمعارضة «السرديّة الرسميّة» غير الأمسيات التي ينظّمها الطلبة والنقابيّون والحقوقيّون. فتشكّلنا في حلقات من الشعراء الجوّالين وجُبنا البلادَ صحبة فنّانين ومجموعات موسيقيّة عديدة. اليوم أصبحت وسائل التواصل أكثر من أن تحصى ولم يعد في وسع السلطة أن تسيطر عليها. من ثمّ أصبحتُ أكثر تأنّياً في مشاركاتي. ولعلّي كنت محظوظاً بطبيعة إيقاعي في التعامل مع التظاهرات الثقافيّة، فقد جعلني جمهور هذه التظاهرات أجوب تونس من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها مرّات ومرّات، وأتاح لي زيارة معظم البلاد العربيّة، وجعلني أقرأ قصائدي في أغلب البلاد الأوروبيّة، وحملني إلى الهند واليابان وأميركا اللاتينيّة. وأنا مدين للشعر بذلك كلّه. فشكراً للشعر ولجمهوره على قلّته.

في السنوات الأخيرة تكاد تتخصّص في الترجمة، ما هو موقع الترجمة في تجربة آدم فتحي؟
ــ بدأتُ منذ نهاية الثمانينيات بترجمة عدد من النصوص الفلسفيّة. ثمّ نشرت أوّل كتاب في التسعينيات. وما كنت أزمع خوض التجربة بمثل ما كان من استمرار لكنّي تماديت فيها بعدما أدركت حقيقتها. الترجمة ليست إبداعاً من درجة ثانية يا صديقي. الترجمة هي الأصل. إنّها تتيح لنا ما يتيحه الشعر: الإقامة على الأرض وفي العالم. إنها ليست وسيطاً بين نصّ سماء ونصّ أرض. بين نصّ في لغة مصدر ونصّ في لغة هدف، بل هي تدخّل إبداعيّ لخلخلة المتكلّس في الهويّات بدايةً من اللغة. تأتي لتلقيح كلّ لغة وكلّ خطاب كي لا يتكلّس. الترجمة كالشعر بناءٌ لسوء التفاهم وبناءٌ بسوء التفاهم. تقوم على المعادلات. تربط العقدة وتحلّها. تختار وكلّ خيار إقصاء. ثمّ تمدُّ جسوراً من الكلمات والأحاسيس والصور والأفكار والأصوات، تتقاطع وتتشابك لصنع النصّ الجمعيّ المبني على الفرادة، ولإنتاج الائتلاف المبنيّ على نسبة من الاختلاف والتنوّع تكفي للانفتاح والتجدّد.

عدت في العامين الأخيرين إلى المهرجانات العربية، كيف ترى خريطة الشعر العربي اليوم؟
ــ بالنسبة إلى خريطة المهرجانات هي اليوم أكثر ازدهاراً في بلاد الخليج. وبعضُها جادٌّ في جعل الوفرة الماليّة في خدمة إنتاج المعنى. أمّا بالنسبة إلى خريطة الشعر العربيّ، فهي لا تنفكّ تتطوّر. إنّها أفضل ممّا يظنّ البعض. ثمّة تجارب تتوهّج شباباً وحيويّة تطالعنا من جميع الأجيال وفي كلّ الأنماط ومن كافّة البلدان العربيّة. وإذا كان الشعر العربيّ بخير، فإنّ الساحات الثقافيّة العربيّة في جانبٍ كبير منها ليست كذلك. لقد عقدت السلطاتُ والمعارضاتُ نوعاً من التحالف الموضوعيّ ضدّ المثقّفين لأنّها في معظمها لا تتحمّل المثقّف الذي لا تسيطر عليه. هكذا تمّ ترويج سرديّات مزيّفة من نوع «غياب المثقّف» أو «هامشيّة المبدع» بينما المثقّف في الحقيقة مُغيّبٌ وليس غائباً والمبدعُ مُهَمّش وليس هامشيّاً. ولإحكام الضغط عليه، تمّ تجويعه وحرمانه من القوانين والبنى التحتية التي تكفل له العمل بكرامة وتمّ تطويقه بمؤسّسات وفعاليّات مبنيّة على ذهنيّة الموالاة.

الترجمة هي الأصل. إنّها تتيح لنا ما يتيحه الشعر: الإقامة على الأرض وفي العالم

وكان من نتائج ذلك أن أصبحت الساحات الثقافيّة في معظمها أشبه بالحلبات الرومانيّة يتعافس فيها الكتّاب مختصمين على فتات الموائد. وتفشّى في معظم كُتّابها الطمع والحسد وبلغت الضغينة والشماتة مستوى غير مسبوق. وانتشر نوع من النقد الجنائزي لدى كثيرين لا مبحث لديهم ولا سؤال، عدَا إضافة صفحات إلى كتاب الموتى: الشاعر الفلاني انتهى! الشاعر العلّاني مات! ماذا ترك نزار؟! ماذا أبقى درويش؟! ماذا بقي من سعدي يوسف؟! كأنّ الشعر «تركة» وهم مكلّفون بجَرْدِها لفائدة الغير أو للحلول محلّ الغير، لا عن طريق الإبداع بل عن طريق إخلاء المكان من المبدعين الحقيقيّين. هكذا أستطيع أن أجيبك: الشعر العربيّ بخير. لكنّ الساحات العربيّة ليست بخير. ولا يقتصر الأمر على الساحات الثقافيّة.

هل صحيح أنّ الشعر لم يعد بيان الثقافة العربية الأول؟
يبدو أن المراحل الشعبويّة تتفرّع في المجال الشعريّ إلى حروب شكلانويّة يستشرس في إشعالها الخالون من أيّ كثافة على مستوى الشكل أو المضمون. هذه الحروب الشكلانويّة لم تتجاوز حتى الآن التمترس حول قصيدة البيت أو قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، فإذا بأنصار هذا النمط أو ذاك من الكتابة، ينكرون شعريّة أنصار النمط الآخر ويطردون شعراءه من جنّة الشعر! هؤلاء يرفعون شعارات الحداثة والحرية والاختلاف لكنّهم في الحقيقة عبدة أصنام. لم يخرجوا بعد من مرحلة أيقنة الشكل. لن يتحرّر الشعر العربيّ إلا يوم يتحرّر الشاعر العربيّ من أوثانه. في انتظار ذلك، لم ينتقل بيان الثقافة العربيّ «الأوّل» إلى الرواية كما يظن بعضهم بل انتقل إلى السياسيّ الشعبويّ الذي يبيع سرديّة مسمومة.
أحلم برجل السياسة العربيّ الذي يفهم أنّ الثقافة هي التي تجعل التراب يرتقي إلى مرتبة الوطن وتجعل الكائن يرتقي إلى مرتبة المواطن. يقال، ولا أدري مدى صحّة ذلك تاريخيّاً إنّ الهجمات النازيّة كانت على أشدّها حين أشار بعض شيوخ البرلمان البريطانيّ على وينستون تشرشل بأن يقتطع قسطاً من الاعتمادات المخصّصة للثقافة دعماً للجهد الحربيّ، مُبرّرين ذلك بأنّهم في حالة حرب. فما كان منه إلا أن سألهم مستغرباً: ولماذا نُحارب إِذَنْ؟ لم يُثبت البحث نسبة هذه العبارة إلى تشرشل. والأرجح أنّها العبارة المحلوم بها، تجري على لسان رجل السياسة المحلوم به. لذلك أحلم أن أراها تجري على لسان رجل السياسة العربيّ اليوم، حيثما كان: لماذا نحارب إن لم يكن من أجل الثقافة؟!

منذ بداية الثمانينيات، أصبحت قصائدك المغناة على كل لسان خاصة بين الطلبة والنقابيّين، ماذا أضافت لك هذه التجربة؟
ـــ أضافت لي الكثير. أتاحت لي القرب من الناس أكثر. غمستني أكثر في الثقافة الشعبيّة. مكّنتني من الخوض في الكثير من الشؤون العامّة بطريقة شخصيّة. جعلتني أكثر راحةً من الناحية الإيطيقيّة. فتحت آفاقاً أوسع أمام تجربة الكتابة عندي. أنت تكتب القصيدة وحدك. أمّا الأغنية، فأنت تكتبها مع الملحّن والمؤدّي والمستمع. إنّها نوع من الحوار مع الجمهور أيضاً. تنصت إلى الآخر فيما أنت تحاول أن تجعله ينصت إليك. هكذا تتغيّر ذائقتكما معاً ومن ثمّ قدرة الأغنية على التأثير والتغيير.

غنى لك الشيخ أمام «يا ولدي»، ماذا تذكر من هذه التجربة؟
غنَّى لي الشيخ نصوصاً أخرى إلى جانب «يا ولدي». «اصحَ اصحَ». «قهرزاد». «لا عاش غصنٌ». «الحجر». «نشيد الاتّحاد العام التونسي للشغل». «نشيد الاتّحاد العام لطلبة تونس». إلخ... من دون أن أذكر نصوصاً أخرى عديدة ضاعت لأنّنا لا نملك تسجيلاً لها. وأنا أذكر تلك التجربة بتفاصيلها ولا أنسى منها شيئاً. كان معلّماً حقّاً كمبدع وكإنسان. وتركت رحلتي معه أثراً بليغاً في روحي. إنّه لا يفارقني لحظة. وإنّك تسألني عنه الآن، فأكاد أراه أمامي ونحن في سيّارة من تونس إلى قفصة، وهو يضرب بيده على فخذه يوقّع لحناً جديداً. مشهد استعدته في أحد النصوص:
«قال إنّه تعوّد على ذلك. أن ينقر الألحان
على جسده طيلة الليل
في الغوريّة. كي لا يزعج الجيران.
اُنظُر،
وأراني بقعة داكنةً على فخذه. منها
كانت الكلمات تقطرُ بصدقٍ، زرقاء
مثل الكدمات...»