يطرح ساري موسى في مجموعته القصصية «تعزيات الفشل» (دار التّنوير للطباعة والنشر) مجموعة من الأسئلة المستفزّة والملحّة التي تتعلّق بقضيّة الكتابة وقلقها ويوميّات المبدع بعامّة، وبالنّقد والسّخرية والتحام الواقع بالخيال وما إلى ذلك.تضم المجموعة ثماني وعشرين قصّة قصيرة. وعلى الرّغم من استقلاليّة كلّ قصّة، إلا أن بعض قصص المجموعة تحمل أكثر من خيط سرديّ خفيف يربطها بشكل عامّ، ويجعلها قريبة من السّرد الرّوائيّ نوعاً ما. وهذا يدفع المتلقي إلى عدّ بعض قصص «تعزيات الفشل» بمثابة متواليات سرديّة.


المتتبّع قصص هذه المجموعة، يلمح حصاناً يعدو من أول قصّة إلى آخر قصّة، وهذا الحصان يتعثّر كثيراً بحواجز متوقّعة وغير متوقّعة، يضعها مرّة الوضع الاقتصاديّ الصّعب، ومرّة الوضع الاجتماعيّ المتأخّر نسبيّاً، ومرّة السّلطة الّتي بدت متخفّية وراء أحداث كثيرة. وكلّما تعثّر ذلك الحصان، نهض محاولاً إكمال سيره من أجل الوصول نحو الهدف. ولكنّ هذا الحصان هل سيصل إلى هدفه ما دام العنوان الذي انطلق منه هو «الفشل»؟
يُعنى ساري موسى برصد الحالة الإبداعيّة ووصف عالم الكتابة الحقيقيّ والتّخييليّ، كما يستعرض بعض طرائق الكتابة مُظهِراً صعوبات هذه الحرفة التي ينشغل أصحابها بهواجسهم المتعلّقة بالحياة بعامّة، والشّهرة بخاصّة. يركّز في تصوير عالم الكتابة وتجسيد القلق الذي يعتري الكاتب. يرصد عمليّة الكتابة نفسها، ويبرز بعض مراحلها أحياناً، إلى أن يصبح النصّ عملاً إبداعيّاً، سواء بطريقة ساخرة أم غير ساخرة، فتظهر الميتاسرديّة في معظم قصص هذه المجموعة، وهذا يعطي النّصّ بُعداً فنّيّاً جماليّاً من خلال رصد بعض المشكلات التي يعانيها السّارد نفسه. يرصد معاناة المبدعين، ويصوّر واقعهم المرّ، ويبيّن انشغالاتهم اليوميّة، وصراعهم السّيزيفيّ مع الكتابة وكلّ ما يتعلّق بها من نشر ومتلقّين وجوائز إبداعيّة..
وأحياناً يعمد ساري موسى إلى تحويل الميتاسرديّة إلى ما يشبه اليوميّات للكاتب الذي يشغله الصّراع مع الحياة الخارجيّة حيناً، ومع ذاته حيناً آخر. وفي النهاية، يلجأ الكاتب إلى الانطواء على ذاته في عزلة خاصّة وعالم خاصّ متعالٍ على العالم الموضوعيّ الخارجيّ. ولم يكتفِ ساري موسى بسبر عوالم الذات والعالم الخارجيّ الموضوعيّ، بل انطلق إلى عالم الكتابة السّرديّة ليطرح أسئلة تتعلق بالقلق اليوميّ من جهة، وقلق الكتابة من جهة أخرى.
وتطلّ الميتاسرديّة في عدد من القصص. ففي قصّة «قبل النّهاية» يضع الكاتب مقدّمة قصيرة تبيّن طريقة كتابة هذه القصّة. وفي قصّة «الكسالى» يقول إنّه يكتب كتابات هي عبارة عن محاولات ليس راضياً عنها. وفي قصة «المؤلف»، يخلق الشّخصيّات ويبنيها ويضعها ضمن زمان ومكان معيّنين ثمّ يفلتها على الورق في اللّحظة المناسبة..
وبما أنّ عنوان المجموعة هو مدلول مرتبط بصورة ذهنيّة معيّنة، يظهر الدّالّ/ الفشل في الكسالى الفاشلين في تحقيق أهدافهم، كما يظهر في «تصحيح خطأ النشر»، وهو فشل الكاتب في الوصول إلى تحقيق أهدافه أيضاً. و«الشاعر» يفشل في الكتابة، فيحاول النهوض عبر نشر ما كتبه. كما يظهر تقمُّص صورة دون كيخوت الّذي تأثّر بروايات الفروسيّة وحاول تطبيقها في الواقع ففشل «كبرياؤه التي زرعتها فيه الكتب الحمقاء التي يقرأها منذ طفولته». تلك الكتابات أثّرت في شخصيّته فجعلته مخبولاً وأصمّ له عالمه الخاصّ بعيداً من عالم مَن حوله.... وغيرها من الأحداث الّتي تنتهي إلى فشل بطلها. تظهر في بعض الأحداث التّفاصيل الحياتيّة اليوميّة، فعندما يتكلم الرّاوي عن جدّه في قصة «الكسالى»، يسرد التفاصيل الدّقيقة التي كان يفعلها جدّه في دكّانه «يخيط الشّراويل للرّجال، البنطلونات للشبّان، الفساتين للنّساء، وثياب العيد ومراويل المدارس للأولاد.. اكتفى بتبديل السّحّابات التي خرجت عن سكّتها، وتثبيت الأزرار المخلوعة، وتطويل سيقان البنطلونات كي تلحق بسيقان لابسيها..». تلك التّفاصيل تكشف الوضع الاجتماعيّ لقرية فقيرة تمثّل مجتمعاً كاملاً.
لا تخلو المجموعة من النّقد والسّخرية؛ ففي قصّة «الشّاعر»، يسخر من الكتّاب الجدد الذين يتّبعون ما يسمّى بموضة الكتابة. وفي «مصيدة» يسخر من كتّاب المدينة الّذين يجلسون في مقاهي الكتّاب بازدحام منتشر بين الطّاولات الصّغيرة المستديرة «قرّرت التّوجّه إلى المدينة، لأجلس في واحد من مقاهي الكتّاب وأجرّب للمرّة الأولى، لكثرة ما قرأت عنه وحضرت مسلسلات تصوّره في الفترة الأخيرة».
لا تخلو المجموعة من النّقد والسّخرية


وللمرأة حضور لافت في معظم القصص، إذ تظهر المرأة الحبيبة في قصة «النصيحة»، يأتي عطرها عبر كتاب ملفوف يحمله أحد الصّبية، وكانت علاقة الحب قد بدأت من خلال الحديث عبر الماسنجر. وتتوالى المشاهد في قصة «إلى اللقاء الأحد»، وقصة «دموع غير قابلة للفهم». يظهر البحث عن المرأة الحبيبة في قصة «المرأة التي تحبني»، إذ يقول: «المرأة التي تحبني، أهي سيدة مرموقة، مكسوة بالحرير والدانتيل والحليّ، تحلم بغراميّاتنا، ممددة على أريكة مخدع؟».
تستحق نصوص «تعزيات الفشل» الوقوف أمامها مليّاً، وقد حاول كاتبها أن يأتي بالجديد المدهش - وهو الّذي يحمل في ذاته هاجس الإبداع - فظهر فيها ذلك القلق الأدبي الذي ينزع دائماً نحو تجاوز الرّاهن.