يُختتم كتاب «مقدمة قصيرة عن الاحتباس الحراري» بجُملة تُبلور تفاوت مركز القُوى بيننا وبين الطبيعة: «الطبيعة وحش، ونحنُ ننقرُ ظهره بعصا». رغم أن هذه الجُملة، جاءت في سياق علمي وبيئي، لكنّها تصلح كعُنوان فرعي للمجموعة القصصية «مساحة للمُناورة»، التي تتّخذ نفس مسار النقر بالعصا، على فضاءات العُزلة وتداعي العلاقات العاطفية، انتهاءً بتداعي الذات في تيه أبدي، يقوم على التواءة حدثية تُغيّر النموذج الحكائي بأثر رجعي. صدرت «مساحة للمُناورة» (دار المحروسة للنشر) لأحمد فؤاد الدين مطلع العام الحالي، بعد تلاشي وباء كورونا، على الأقل في وعي العالم، وعودة الحياة إلى طبيعتها، إلا أنّ هاجس الاستدعاء في القصص، يجعلُ لحظة الانعزال كونيةً، مُمتدةً، ربما إلى مزيد من الوقت في داخلنا، حتى يكون هناك حُسن توقّع للحظة الخطر القادمة. في مقال «فرضيات حول القصة القصيرة»، يُحدد ريكاردو بيجليا أن القصة الحديثة، حكاية تنطوي على حكاية أخرى سريّة، وقد ورثنا هذا الشكل من تشيخوف وجيمس جويس وكاثرين مانسفيلد. تتخلى هذه الحكاية عن النهاية المُفاجئة، والبنية المحكمة، تُحدث توتّراً في فعل وحدانية القصص، تخلق فضاءً فاصلاً، لا ينفي الربط، بين القصة والقصة التالية. في العلاقة مع القارئ، تقوم القصة القصيرة الحديثة على تقنية المُراوغة، وعلى القارئ أن يُتقن النفاذ إلى القصة الباطنية، الثانية والسريّة. في «مساحة للمُناورة»، تأخُذ بعض القصص مساراً مُختلفاً عن تبطين الحكاية الثانية، فاللحظة الراهنة تجعلُ المعنى الدخيل في القصة، مُتفحّشاً بحُكم تأثيره على الشخصيات، بحيث أنّها تعجزُ عن تفعيل أي مناورة على القارئ ضمن الحكي، بل تُحاول، بيأس، أن تُراوغ على مستوى حكائي ظاهري، فيمنعها العجز والمحدودية، وتكون لحظة التداعي، هي مِحور القصة. بدلاً من تجهيل الشيء الأكثر أهميّة، الذي لا يتم سرده عادة في نموذج القصة الحديثة، وبدلاً من أن تُبنى القصة السرية مما لا يُقال ومن الإيحاء الضمني والإلماح، تندفعُ شخصيات تتشاركُ في مُناورات فاشلة، إلى السطح الخارجي للحكي، إذ تجدُ فضاءً مُطمساً، وعلاقات محدودة، ووجوداً ينأى عن متن المُدن، يحتمي بالهامش.


تطابقت القصة الأولى «جزمة البهلوان» مع بنية القصة السرّية. ثمّة حكاية كبيرة، لها زمن بمسير نصف حياة شخص، يُمكن استنطاقها من خلال علاقة مُمتدة بين بطل القصة وحذائه. نقرأ صورة ظاهرية للحكاية، لها مبدأ درامي، بينما الحكاية السريّة، تعكسُ علاقة تبادلية مع الفضاء، الذي طٌمست معالمه حكائيّاً.
يتصاعد ذلك الفضاء في القصة الثانية، ليكسر حيّز التوهّم الحكائي، لأن الشخصية، ابنة اللحظة الراهنة، داخل القصة، لا تمتلك سوى سلطة مراوغة ووهمية تصوّراتنا عن أنفسنا، بينما في المُقابل، تعكس لنا المرآة، إحدى الأدوات الحياتية الأساسية، صورةً «افتراضية» يُمكنها أن تستحيل إلى عدد لا نهائي من نفس الشخص، وبأبعاد مُختلفة.
تدور القصص في إطار شديد الضيق، سواء في حالة اعتماد مسارها على طرفي علاقة بشريين، أو اعتمادها على الفضاء الخارجي كطرف. تهيم بعضُ القصص، وشخوصها، في الفضاء الخارجي، تُعلّق في الهواء، وتكوّن حدثاً ما في الذاكرة بأثرٍ رجعي. تحتمي الشخوص بالهامش، لكنّه هامش مُدن حديثة، مُراوغة في ردود أفعالها التي تجعلنا نكوّن تصوّرات عن ذلك الفضاء، جواراً إلى الاشتباك العاجز مع الفضاء، الذي تبلغ لحظة التداعي فيه كسر تصوّراتنا الأساسية من خلاله. ثمّة لحظات فارقة تُستنطق من مرحلة واقعية، فحينما حُبس العالم خلال وباء كورونا، لم يُحبس على مُستوى مادي فقط، بل استحال مراكز صراع مُستكينة مُنذ زمن، والزمن بدوره تجلّت حاكميته أكثر. من خلال تسلّحه بالفراغ، والتنصّل من إضافات الدُنيا، أصبح الإنسان في علاقته مع الآخر، أو مع ذاته، أو حتى مع فراغ المُدن، مثل واقعٍ في ورطة.
تبدأ ذُروة المُناورات، في قصة «أصفر صارخ»، حيثُ يبحث مُخرج أفلام مُستقلة عن مُتخصّصة في الصرخات. يتداخل حيّز الذاتي بين المُخرج، ومُنتجه الفنّي، ويبدو أنّ المرأة المُتخصصة في الصرخات، هي من ناحية أخرى، تبحث عن المُخرج ذاته، لتُكمل مدلولات الدهشة والخوف والرهبة، المُتعلّقة باللون الأصفر، في حياة المُخرج. في القصة المذكورة، استحالت علاقة الأشخاص في القصص السابقة من تبادل مع آخر واسع المدى، إلى تبادلٍ بشريّ، محفوف بجدل مراكز القُوى، فكل شخصية لديها ما يُبدّل حياة الشخصية الأخرى سواء بالتأثير أو التأثّر، أو على الأقل يخلق التواءة في خط حياة مُستقيم، لا تدوم استقامته بعد ذلك.
هامش مُدن حديثة، مُراوغة في ردود أفعالها


من حُمّية الصراع المُبّطن، إلى التفتّت الهادئ والحميم، تشكّل قصة «وصفة لا أتقنها» مُفتتحاً جانبياً لعدّة قصص تقوم على نفس هاجس التداعي، في صورة أكثر واقعية ونائية عن التجريد. شخصية القصة معدومة الاسم، فاقدة لأي ملمح فيه أنسنة، حتى أصولها العرقية الأرمنية مُفتتة أيضاً، لذلك فإن مسار القصة يُسجّل بطء تفكك علاقة عاطفية، مثل ذوبان ملحٍ في الماء، لا توجد مسارات للمُرواغة، بدافع البقاء، بل هُناك مسارات معلومة النتيجة الفاشلة، إلا أنّها تطمح لمزيد من زمن يشغلُه فضاء حميمي.
تنتقلُ مساحة الخطر هذه بإيقاع تهديدي وقلق بدلاً من البطء، في قصة «خط مستقيم مُتعرّج» حيثُ تتشكّل الشخصية، بنفس آلية طمس معالم الشخصية. يُبرّر ذلك الإيحاء بمدى ضآلة الإنسان قُبالة القُوى غير المرئية. على الهامش نفسه، الذي شهد تداعي شخصية بفعل خط مُستقيم مُتعرّج بآلة حادة على السيارة، وربما في نفس الحيّ، دار صراع كتيم ومُحتدم، دلّلت عليه الألوان، مواقع الكراسي وفضاء المطبخ بالبيت، حين انفرد زوجان بنفسهما أيام عُزلة كورونا.
تدُور قصص «مساحة للمُناورة» في تبادلٍ ما بين الوحدة الجوّانية، أي تحديداً وحدة الانطباع والشعور بالخطرِ عقب كل قصة، وما بين التوتّر الحاصل خلال هذه الانطباعات، إذ إن تطابقها المبدئي ينتقل إلى صراع خارجٍ من المُتخيّل القصصي، لأن أدوات الحكي في المجموعة، شديدة الأولية، لا يحملُ العالم أي مميزات، بل هو مُتخيّل يوازي الواقع، يُعزّزه، ويجعله شديد القُرب منّا.
عودة إلى الحكاية السريّة التي ذكرها بيجليا، فلا توجد قصةٌ لا تنطوي على بُعد حكائي مُراوغ، لأن ذلك تحديداً هو ما يولّد الدهشة القصصية، ورغم أن قصص «مساحة للمُناورة»، تقوم على توتّر حاد خلال القراءة، بفعل الوضوح وعادية الشخصيات وتشاركها في التداعي، يختبئ البُعد السرّي في الحكي، بداخل الشخوص ذاتها، التي تُشبهنا كثيراً، في عاديتها وخيباتها، وفي الفضاء المكاني الذي تشتبكُ معه أيضاً.