آلان تورين (1925 ــ 2023) ليس عالم اجتماع سهلاً. إلا أنّ أعماله واسعة النطاق، ومنغمسة في أكثر القضايا أهميةً في العالم المعاصر والصناعي وما بعد الصناعي. وضع نفسه في مواجهة التيار الوظيفي لعلم الاجتماع والبنيوية في أميركا الشمالية وفرنسا. تطوّرت أفكاره من خلال حوار مستمرّ مع نفسه ومع المؤلفين الكلاسيكيين للفكر الحديث وعلم الاجتماع المعاصر. يقع تحليله في قلب الحياة الاجتماعية، أي صراعاتها وتحدياتها التاريخية بهدف زيادة قدرة الفاعلين أنفسهم على العمل، ولا سيما من الطبقات السفلية. أثّرت علاقته الوثيقة بأميركا اللاتينية على تفكيره وأسهمت في منحه نطاقاً أكثر عالمية.بدأت المرحلة الأولى بالبحث في مصنع «رينو» عام 1955 وبلغت ذروتها بعد عشر سنوات بنشر أول كتاب نظري له حمل عنوان «علم اجتماع العمل». أما المرحلة الثانية، فبدأت بأحداث مايو 1968 وانتهت في نهاية الثمانينيات. في تلك الفترة، اقترح تورين تحليل الحركات الاجتماعية الجديدة لمجتمع «ما بعد الصناعة». وفي عام 1973، نشر كتاب «إنتاج المجتمع»، تلاه في عام 1978، نشر «الصوت والنظرة». يعدّ الكتابان عملين مركزيين، حدد تورين فيهما أدواته المفاهيمية وطريقته في التحليل الاجتماعي. أما المرحلة الثالثة، التي تغطي التسعينيات والألفين، فتتوافق مع تقديم الفرد والموضوع كمرجع لا يمكن الاستغناء عنه في التحليل. دعم تورين هذا المنظور من خلال انعكاس تاريخي واسع انعكس في تحفة بعنوان «نقد الحداثة» (1992). سيستمر هذا التأمل في سلسلة من الكتب المهمة مثل: «ما هي الديمقراطية؟» (1994)؛ «كيف تخرج من الليبرالية؟» (1999)؛ «عالم المرأة» (2006) و«فكر بشكل مختلف» (2007).

العمل ونظرياته التحليلية
صُدم آلان تورين من الأزمة في المجتمع الفرنسي، وكان أحد المفكرين الناقدين الذين يملكون حساسية لأفكار جان بول سارتر. في عام 1948، أجرى بحثاً حول إصلاح الأراضي في المجر، وبعد فترة صعبة في أوروبا الشرقية، انتقل إلى منطقة تعدين الفحم في شمال فرنسا، حيث شارك عمال المناجم في عملهم وحياتهم.
في عام 1965، نشر «علم اجتماع العمل»، وهو أول كتاب نظري أساسي كشف فيه مفاهيمه عن نظام العمل التاريخي والطبقات والحركات الاجتماعية. في العام التالي، نشر «وعي العمّال» الذي جمع فيه أفكاره النظرية مع تحليل نتائج مسح واسع للعمّال في فرنسا. وبعد حوالي عقدين من الزمن، تحديداً في عام 1984، أجرى مع ميشال ويفيوركا وفرانسوا دوبيه تحقيقاً جديداً حول النقابية والوعي الطبقي في فرنسا، ما أدى إلى تعميق فرضيته حول صعود وانحدار الحركة العمالية. من خلال البحث في مصنع «رينو»، وضع تورين مخططاً تفسيرياً لتطور سلوك العمّال في علاقتهم بالتنظيم الفني والاجتماعي للعمل. تجسد ذلك في ثلاث مراحل:
1. المحافظة على خصائص نظام عمل التصنيع القديم، أي العمل الماهر المقترن بأدوات الماكينة (على سبيل المثال، الخراطة).
2. مرحلة الانتقال التي تتميز بخط الإنتاج شبه الآلي، الذي يوظف عدداً كبيراً من العمال غير المهرة المعينين لمهام روتينية.
3. نشر الأتمتة والقضاء على العمل المباشر.
أحد المتغيرات الرئيسية لهذا المخطط، هو استقلالية العامل، وهي قضية حاسمة تؤثر على ضمير العامل. تشكّل المراحل الثلاث أنواعاً من وعي العمل والتنظيم الذي يتعايش في العالم الصناعي وما بعد الصناعي، وترتبط مسألة الاستقلالية بفرضية أنّ العمال ليسوا مجرد ذوات سلبية في علاقات الهيمنة بين رأس المال والعمل. لا يتفق تورين مع الماركسية البنيوية التي تختزل علاقة العمل بالسيطرة، وتؤكد على حقيقة أنّ العمال يدافعون عن هامش من السيطرة في أداء عملهم ويتخذون القرارات بقدر ما تقدر الأغلبية ويكافحون من أجل تحسين عملهم. يتألف جزء من عمل العمّال في الرقابة الجماعية على أداء العمل اليومي، وممارسة الإضراب وتأكيد العامل كإنسان، وليس كسلعة.
يتحقق تورين في كتابه «وعي العمّال» من أن العمال عموماً ليس لديهم تصور سلبي لعملهم. لكن تورين يسند دوراً مركزياً لمفهوم العمل، بمقاربة قريبة من نهج كارل ماركس. فكلاهما تقوم مقاربته على أن العمل البشري في العالم غير الاجتماعي، هو عملية تحول للإنسان في الوقت نفسه مثل الطبيعة. ولا يمكن تحديد هذا التحول بشكل مستقل عن معناه المُتعلق بالموضوع. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفصل الأول من «علم اجتماع العمل» حمل عنوان «اكتشاف الموضوع ». اكتشاف سيظل تورين وفياً له طيلة حياته المهنية.

الحركات العُمّالية
إحدى الفرضيات الأساسية لتورين في المرحلة الأولى من مساره الفكري هي مركزية الحركة العمالية في المجتمع الصناعي. تُفهم الحركة العمالية على أنها عمل جماعي لأولئك الذين يسهمون بقوة عملهم في تنظيم الإنتاج الصناعي، ويعملون على التحكم في الاستخدام الاجتماعي للإنتاج المذكور وتوجيهه. لا تنفصل الحركة العمالية عن العداء الطبقي المحدّد حول علاقة رأس المال والعمل، وهو عداء يتمثل أفقه المشترك في التقدم الناتج عن التصنيع. ويفترض وجود حركة عمّالية بمستوى معين من التنظيم النقابي للعمّال المأجورين والقدرة على استخدام وسائل الضغط، ولا سيما الإضراب، من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والدفاع عنها، فضلاً عن المشاركة في القرارات المتعلقة بسياسات العمل. مع ذلك، يمكن أن تكون هناك نقابات عمالية بدون حركة عمالية.
لذا، يؤكد تورين إن ظهور الحركة العمالية لا يحدث إلا إذا اندلعت النضالات العمالية في «مجال عمل تاريخي» يتجاوز المطالب الفورية للنقابات وقدرتها على المساومة مع الشركات والحكومة. ما يعني أنّ الحديث عن الحركة العمالية يستوجب الاعتراف بوجود صراع طبقي حاسم داخل المجتمع الصناعي، وهو صراع متأصل في علاقة رأس المال والعمل. يعترف تورين بأنه يتفق مع تحليل ماركس بشأن هذه النقطة الحاسمة، على الرغم من أنه يختلف مع الحتمية الهيكلية والاقتصادية السائدة في التفسيرات الماركسية.
وشرع تورين في تعميق تحليله للحركة العمالية من خلال دراسة التناقض بين السياقات المختلفة في فرنسا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية (بولندا)، وتوصل إلى أن العامل يشكل أول حركة اجتماعية حديثة، لكن من المحتمل جداً أن لا يتبعه الآخرون، لا في رهاناته ولا في طرق تنظيمه، بل على العكس من ذلك، يجب الانتقال من عالم العمل إلى المجال الثقافي بأكمله لمحاربة هيمنة تتجاوز الإنتاج وتمتد إلى الحياة الاجتماعية كلّها: على مستوى الاستهلاك والإعلام والتعليم، ربما يبتكر علاقات أخرى غير التبعية العُمّالية مع المثقفين والأحزاب.

الدراسة الاجتماعية لأميركا اللاتينية
بدأ تورين علاقته بأميركا اللاتينية عام 1956، عندما دعته جامعة تشيلي لتأسيس مركز أبحاث اجتماعي. أجرى دراسة مقارنة لواقعين عمليين: واقع عمّال مناجم الفحم في لوتا وعمال الصلب في هواتشيباتو، وكلاهما قريب من مدينة كونسبسيون.
وما لفت انتباه تورين في أميركا اللاتينية اليوم هو ضعف الحركات الاجتماعية على عكس أهمية ظواهر الأزمة الحضرية والهجرة الداخلية أو الدولية. فأميركا اللاتينية قارة مليئة بالأوضاع الثورية، ولكنها تشهد ثورات قليلة جداً بالمعنى الدقيق للكلمة: الثورة المكسيكية، والثورة البوليفية عام 1952، والثورة الساندينية، بينما كانت ثورة كاسترو ورفاقه أشبه بحرب عصابات ناجحة.
إذاً لماذا قلة الحركات الاجتماعية؟ برأي تورين، يكمن النصف الأول من الجواب في الهيمنة الخارجية التي توجّه الاحتجاج نحو عدو خارجي. والنصف الثاني أنّ جميع بلدان أميركا اللاتينية امتلكت، منذ فترة طويلة، قدرةً إرشادية قوية للطبقة الوسطى: موظفو الخدمة المدنية، والموظفون، والعمال، والتجار، حصلوا على نصيبهم من الكعكة، التي أخذ حجمها يتزايد. في كل الحالات التي يسود فيها المنطق السياسي، يخسر الموضوع والحركة الاجتماعية والديمقراطية المعركة. هذان العاملان (الهيمنة الخارجية والقدرة على الاندماج الداخلي) وهيمنة الدولة على المجتمع، يفسران التشكيل المختصر لسياسة الموضوع.
كان تورين حاضراً في تشيلي خلال الأيام الأخيرة للحكومة الاشتراكية لسلفادور ألليندي والأيام الأولى لانقلاب بينوشيه العسكري في 11 أيلول (سبتمبر) عام 1973. وفي هذا الظرف الدراماتيكي، كتب يوميات نُشرت في العام نفسه تحت عنوان «حياة وموت التشيلي الشعبية». جمع هذا الكتاب بين تحليل الوضع والتحليل العالمي للمشكلات الكبرى في تشيلي وأميركا اللاتينية.
شاهد تورين تشيلي تحترق، وعاش مع معاناة الأصدقاء الذين اختفوا أو سُجنوا، مُفكراً في أسباب سقوط النظام الاشتراكي القائم وطبيعة النظام الجديد. غادر تشيلي في 24 أيلول (سبتمبر) في اللحظة نفسها التي دفن فيها بابلو نيرودا. ولم يقم بتعديل أفكار الكتاب قبل النشر ولكنه اعتبره شهادةً أكثر من كونه كتاب علم اجتماع، ووصفه بأنه كتاب فكر استقصائي حفّزه التضامن والقلق والغضب.
مع ذلك، تبنى تورين موقفاً نقدياً في ما يتعلق بالمناهج التي بررت طليعة التمرد، واستبدال الفاعلين الاجتماعيين بالنخب الثورية، التي يدعمها ريجيس دوبريه ومارسها تشي غيفارا وفيدل كاسترو. وبالمثل، انتقد التفسيرات أحادية الجانب لنظرية التبعية التي لا تترك مجالاً للعمليات السياسية ذات الطبيعة الوطنية. وكتب عنها: «يتبع النظام الاجتماعي للخارج إذا كانت الدولة القومية خادمة فقط للإمبريالية الأجنبية، ولا يمكن للدول التابعة أن تكون مجتمعات حقيقية. إن برجوازيتها ليست أكثر من برجوازية عَميلة. وهذه النظرية في شكلها المتطرف غذّت حرب العصابات ».
في وقت لاحق في منتصف التسعينيات، تعاطف تورين مع حركة «زاباتيستا» في المكسيك. تميزت هذه الحركة، المتجذّرة في ولاية تشياباس بوجود الأغلبية من السكان الأصليين الفقراء. في الأول من كانون الثاني (يناير) 1994، مع دخول اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية حيز التنفيذ، بدأت الزاباتيستا أعمالاً مسلحة تقتصر على احتلال بعض البلديات، ولا سيما في مدينة سان كريستوبال التاريخية للمطالبة أساساً بالديمقراطية والحرية والعدالة. أدت هذه الانتفاضة بسرعة إلى عملية تفاوض مع الحكومة الفدرالية، تميزت بالمشاركة النشطة للكنيسة ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام على المستويين الوطني والدولي.
خصّص تورين جزءاً كبيراً من كتابه «الكلمة والدم» لتحليل الظواهر المتعلقة بالإيمان الديني وعمل الكنائس في أميركا اللاتينية، ولا سيما «لاهوت التحرير». نشأ هذا التيار في عام 1968، وكان ثمرة تأمّل الكاهن البيروفي غوستافو غوتيريز في توجهات الكنيسة في أميركا اللاتينية. ومحور هذا التفكير هو «الخيار التفضيلي للفقراء» ومنظور متكامل لتحرير جميع البشر، مع إعطاء الأولوية للمضطهدين والمهمشين. ويشير هذا النهج إلى حدود السياسات التنموية التي تحافظ على روابط التبعية وتتجاهل الطبيعة المتضاربة لعملية التحرير.
يرى تورين أنّ «لاهوت التحرير» لا يتوافق مع توجه واحد. على العكس من ذلك، لا يمكن تعريفه اجتماعياً إلا من خلال الوجود المترابط لحركتين تبدوان مكملتين لكنهما في الواقع تتعارضان بشدة مع بعضهما. من ناحية أخرى، فإن الجماعات السياسية، التي تشكلت قبل أي شيء، من قبل المثقفين، تأثرت بشكل مباشر بالماركسية وبأكثر أشكال نظرية التبعية راديكاليةً، ومن ناحية أخرى، فالحركة المجتمعية تعتمد على أولئك الذين هم أقل اندماجاً في التنمية. لذا يرفض تورين الحتمية الاقتصادية والقدرية التاريخية، ويركز على التعرف على الذات الإنسانية وتوسيع مجال الحرية.

الحركات الاجتماعية ما بعد العصر الصناعي
تبدأ المرحلة الثانية من مسيرة تورين الفكرية بأحداث مايو 1968 في فرنسا. في العام التالي، نشر كتاباً صغيراً ذا تأثير كبير، بعنوان «المجتمع ما بعد الصناعي» أكّد فيه كفرضية مركزية، على ظهور نموذج جديد للمجتمع ونشر حركات اجتماعية جديدة.
أكدت الدراسات الاجتماعية التي تم إجراؤها، فقدان مركزية الحركة العمالية وأظهرت ضعف الحركات الجديدة. وعززت هذه الملاحظات موقف أولئك الذين كانوا يرفضون أسس علم اجتماع العمل الذي روّج له تورين، لتطغى الموجة النيوليبرالية على مفهوم المجتمع القائم على الفاعلين المنفردين، والخاضعين لمنطق السوق والهياكل المهيمنة. في الوقت نفسه، فضل تيار المحافظين الجدد العودة إلى الأسس التقليدية للنظام الاجتماعي وتعزيز الهويات العرقية والأصولية الدينية. ولم يتوقف تورين عن مواجهة هذه المواقف، مشيراً إلى مجالات العمل الممكنة.
لم يتوقع أحد مايو 68، بمن في ذلك تورين. مع انتهاء الحرب الجزائرية، كرّس الجنرال ديغول، رئيس الجمهورية يومها، نفسه «لسياسات العظمة» الفرنسية على المسرح العالمي، ولم يول اهتماماً للمشكلات الاجتماعية والطلابية الصغيرة. كان الاقتصاد يعمل بشكل جيد، والاستهلاك في ازدهار، ولم تكن البطالة مقلقة بعد. من كان يتخيل أنّ «مجموعة صغيرة من الطلاب الغاضبين» ستسبّب تشنجاً كاملاً في الجامعة وتطلق العنان لواحدة من أكبر حركات التمرّد في التاريخ الفرنسي؟
يوضح تورين أن الحركة الطلابية ليست استجابةً بسيطة للأزمة المؤسسية للجامعة، ولكنها تعبير عن صراع مركزي جديد في المجتمع، وهو صراع يتعرّض فيه الوصول إلى المعرفة والتوجه الثقافي للخطر. وكان لشهر مايو 1968 تأثير قوي على المؤسسات الرئيسية في المجتمع: المدارس والجامعات والشركات ووسائل الإعلام والكنيسة والمستشفيات والسجون. وأجبرت السلطات على الاستماع إلى أصوات الشباب والنساء والأقليات الجنسية والمعوقين والسجناء والمرضى وكل الناس الذين سحقتهم هياكل الهيمنة.
فالحركة العمالية، التي كانت الحركة الاجتماعية المركزية في المجتمع الصناعي، شاركت على نطاق واسع في أحداث مايو وأعطتها القوة، لكنها لم تقُدها. لم يحاول القادة النقابيون والسياسيون الرئيسيّون منحها مسار تمرد، وهذا ليس بدون سبب، بل لأن ظروفها السياسية لم تكن موجودة. وكان عليهم الخضوع للمفاوضات مع الحكومة. حققت هذه المفاوضات إنجازات مهمة، ولا سيما الاعتراف بالتنظيم النقابي في الشركات. ومع ذلك، كانت هذه الإنجازات أقل بكثير من توقعات العمال والطلاب الذين تم حشدهم، ولهذا السبب رفضت العديد من القواعد إنهاء الإضراب. انقسم العمال، واشتد القمع، ودخلت الحركة العمالية المزدهرة فترة استنزاف. ودفعت هذه الأحداث تورين إلى تقديم مفهوم «المجتمع ما بعد الصناعي».
إن مفهوم «المجتمع ما بعد الصناعي»، الذي يجب عدم الخلط بينه وبين «ما بعد الحداثة»، فتح آفاقاً جديدة لتفكير تورين، وجاء تعميقاً لمعنى التعبير الذي صاغه دانيال بيل، واستخدمه تورين لتعيين نوع جديد من المجتمع أخذ يتشكل منذ أواخر الستينيات في البلدان الصناعية، الرأسمالية والاشتراكية على حد سواء.
رأى تورين أن المجتمع ما بعد الصناعي يتميز بتوليد مستوى أعلى من «التاريخية»، وقدرةً أكبر وأكثر تنوعاً للمجتمع للعمل على نفسه. ولا يعني ذلك نهاية الصناعة، بل تحولها المستمر الذي يحفزه الابتكار العلمي والتكنولوجي. فالمجتمع ما بعد الصناعي، بحسب تورين، هو أكثر من مرحلة متقدمة من التطور الصناعي. إنه ظهور نوع جديد من المجتمع تحتل فيه المعرفة والإدارة التنظيمية والثقافة مكانةً متميزة. في هذا المجتمع، لا يختفي الصراع بين رأس المال والعمل، لكن الحركة العمّالية تميل إلى أن تكون مؤسّسية من خلال النقابات والتشريعات العمالية، وفي الوقت نفسه تفقد مركزيتها كعنصر تاريخي فاعل في المجتمع ككل.
لذا، إنّ سمة الصراع الاجتماعي في مجتمع مبرمج، هي أن الطبقة الحاكمة تبدو كأنها تسيطر على جميع مجالات الحياة الاجتماعية، ما يمنع المسيطر عليه من التحدث والتصرف على أساس الاستقلال الاجتماعي والثقافي. إنهم مجبرون على معارضة الهيمنة الاجتماعية باسم ما لم تُسيطر عليه بعد أي طبيعة. وهذا يدل على أهمية التيار البيئي الذي يدعو إلى الحياة ضد الإنتاجية وضد أخطار التلوث النووي. وهذا يفسر أيضاً أهمية الحركات الاحتجاجية التي تقوم على مكانة بيولوجية لا اجتماعية: الأنوثة والشباب والشيخوخة أيضاً والانتماء إلى مجموعة عرقية وحتى الانتماء إلى حد ما إلى ثقافة محلية أو إقليمية.
في كتابه «إنتاج المجتمع»، عمّق تورين منهجه، مؤكداً على مفاهيم التاريخية والحركة الاجتماعية. وحجته هي أنّ التاريخية - التي تُفهم على أنها قدرة المجتمع على تحويل نفسه - تستلزم وجود صراع بين الفاعلين الذين يريدون السيطرة على التوجهات الأساسية للمجتمع أي: التراكم، وطريقة المعرفة، والنموذج الثقافي. ويرتبط مفهوم الحركة الاجتماعية بمفهوم الطبقة الاجتماعية، أو بالأحرى العلاقات الطبقية. يفهم تورين الحركات الاجتماعية على أنها عمل مُضاد للطبقات الاجتماعية المسيطرة والمهيمنة، التي تناضل من أجل السيطرة على نظام الفعل التاريخي.
ويتميز مفهوم الحركات الاجتماعية في المجتمع الصناعي بالحركة العمالية. لكن في المجتمع ما بعد الصناعي، يصعب تحديد محور الصراع الذي يحدد الطبقات والحركات الاجتماعية: الطبقة الحاكمة (التكنوقراطية أو البيروقراطية أو النخبة السياسية) من ناحية، والطبقات المحكومة من ناحية أخرى (لم يتم تحديد العمال بأجر والمستهلكين والمستخدمين بشكل واضح)، إذاً ما هي حركات المجتمع ما بعد الصناعي الناشئ؟ يقترح تورين نطاقاً واسعاً، يشمل النزاعات حول إدارة المنظمات المعقدة، والتطور العلمي والتكنولوجي، والتعليم، والجامعة، والصحة، والبيئة، وحقوق المرأة.

الحداثة والموضوع
في المرحلة الثالثة والأخيرة من مسيرة تورين الفكرية، نشر تفكيره حول ما يسميه «الموضوع». احتل هذا المفهوم دائماً مكاناً مهماً في فكره، مشكلاً اليوم حجر الزاوية، مِمّ يتكون الموضوع؟ كيف يختلف عن الفرد؟ ما علاقته بالمجتمع؟ ما هو الدور الذي يلعبه في الحياة الاجتماعية؟
في أوائل التسعينيات، نشر تورين رائعته «نقد الحداثة»: كتاب ضخم عبارة عن فحص متعمّق للأفكار التي سادت العالم الغربي لأكثر من ثلاثة قرون، والأفكار التي يتم التشكيك فيها وإعادة تعريفها إلى اليوم. يُظهر تورين أن الحداثة، في أكثر أشكالها طموحاً، تتمثل في إعلان أنّ «الإنسان هو ما يفعله». لقد استجابت الحداثة لإرادة التحرر من الروابط التقليدية ونشر القدرات بفضل العلم والتكنولوجيا والترشيد وفق قوانين موضوعية. لكن تورين لاحظ أنّ الحداثة لا تُعرَّف فقط من خلال الهيمنة المتزايدة للفكر العقلاني ولكن أيضاً من خلال تأكيد الشخص البشري. وتُبنى الحداثة من الفصل بين العالم الموضوعي، الناتج عن العقل وفقاً لقوانين الطبيعة، وعالم الذاتية، الذي يشير إلى الفردية والحرية الشخصية.
وجد تورين تقارباً مع موقف ديكارت «الثنائي»، حيث تصور الحداثة على أنها فصل متوازن بين العقل والموضوع، مع إعطاء أهمية كبيرة للعقل كما للموضوع. سلط تورين الضوء على العواقب الدراماتيكية للانفصال شبه الكامل بين عالم العقلانية الأداتيّة وعالم الهوية الذاتية. وجادل بأنه يجب علينا إعطاء وزن أكبر لفكرة الخضوع.
تبنى موقفاً نقدياً من المناهج التي بررت طليعة التمرد، واستبدال الفاعلين الاجتماعيين بالنخب الثورية


لاحظ تورين أن جميعنا اليوم منغمس تقريباً في الحداثة أو نطمح لأن نكون جزءاً منها، لكن هذه الحداثة هي أيضاً موضع تساؤل. يبدو أن صورتها الكلاسيكية، المبنية على معركة ضد التقاليد، تم تفسيرها على أنها انتصار العقل على قوى الطبيعة والمصير، وباعتبارها غزو الكونية ضد الخصوصيات، التي بدت كأنها تتحلل. ترتبط الحداثة الآن بتفكك معنى الحياة، والتدفق الاقتصادي، والسلطة بدون مركز، وغياب الفاعلين الاجتماعيين، ويُنظر إليها على أنها تهديد بالاستبعاد الاجتماعي وفقدان الهوية.
قاد هذا التحليل تورين إلى البحث عن أسس حداثة جديدة لتأكيد الذات: الذات التي تحاول تعريف نفسها على أنها فاعل، بعيداً من القوى التي تهيمن عليها. وفّر هذا النهج مفتاح التحول الحاسم للحداثة. إن تأكيد الموضوع لا يعني تجاهل أهمية العقل. أكّد تورين أن الحداثة تقوم على نهج مزدوج من أصل مسيحي، على الفصل بين نظام المعرفة الموضوعية وتلك الخاصة بالموضوع. فالدينامية الحديثة ناتجة من التوتر وإمكانية الحوار بين كلا النظامين. وليس مناسباً تشويه الواقع الحديث المعقد والخصب من خلال اختزاله إلى العقلنة بشكل عام أو إلى شكله المقيد للعقل الأداتي؛ ولا نفهمه على أنه ذات بحت.
لا تستند الحداثة إلى مبدأ واحد، ولا إلى مجرد تدمير عقبات حكم العقل. إنها مصنوعة من حوار العقل والموضوع. وبدون الذات، يصبح العقل أداة قوة. لقد عرفنا في هذا القرن دكتاتورية العقل والانحرافات الشمولية للذات.
يطور تورين مقارباته الخاصة. يطرح الحاجة إلى إعادة تعريف الحداثة كعلاقة محمّلة بالتوترات بين العقل والذات. يوضح كيف أن العقلنة بحدّ ذاتها لا تعطي معنى للفعل البشري، بل ترتبط بتأكيد الذات، بتدخلها التحريري والإبداعي. فالحوار بين العقل والذات هو المفتاح للتغلب على تجزئة الحياة الحديثة، وإعطاء معنى للحياة الشخصية والجماعية، وبناء العلاقات التي يمكن ممارسة الديمقراطية على أساسها. فالموضوع هو أساس الحركات الاجتماعية. وبالاعتماد على فرويد، خصّص تورين جزءاً مهماً من تحليله لفحص عملية تكوين الذات البشرية، لـ «الأنا » نفسها. حلّل مظاهر الذاتية - السلبية والإيجابية - في مختلف السياقات الاجتماعية الحالية، مع التركيز على قضية الهوية والدين، وخصّص فصلاً أخيراً للديمقراطية.

توصل إلى أن العامل يشكل أول حركة اجتماعية حديثة


كانت هذه رسالة تورين والمفتاح الذي مثل بداية جديدة وفتح آفاقاً جديدة لعلم الاجتماع. فتورين لم يحصرنا في نظرية جامدة، بل شجعنا على توسيع نظرنا؛ وعدم اختزال المجتمع إلى أدائه وأزماته؛ ولا تجاهل الموضوع، أي الشخص البشري الذي تم تكوينه كفاعل. نهج تورين المعرفي مثل ترياقاً للتشاؤم والعقائد الفكرية وحافزاً للتفكير المشترك.
يتقارب فكر تورين ومنظور التنمية البشرية الذي صاغه أمارتيا سين على أساس توسيع الحريات والقدرات وممارسة حقوق الناس، وليس فقط في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. كما يتقارب مع لاهوت التحرير لغوستافو غوتيريز، بمعنى «التحرر من كل ما يحد أو يمنع الرجال والنساء من تحقيق أنفسهم، من كل ما يمنع الوصول إلى - أو ممارسة - حريتهم».
أخيراً، علم اجتماع تورين للعمل، والمنظور المتجسد في مفهوم «العمل على الذات» الذي طبّقه على كل من المجتمع والمواضيع الفردية، هما دعوة قوية لتولي منظور الذات والفاعل البشري في خضم هذا الانفعال التاريخي، حيث أصبحت التاريخية فئةً أساسية لفهم الديناميكيات غير العادية للإبداع البشري في التاريخ الذي نعيشه، وتوفّر لنا أداة للتفكير الدائم في الصراعات والتحديات الرئيسية في عصرنا.