انشغلت الأوساط الثقافية المصرية، في الفترة الماضية، بأحدث إصدارات نوارة أحمد فؤاد نجم (1973) «وأنت السبب يابا... الفاجومي وأنا» (دار الكرمة ــــ 2023) الذي يحكي سيرة مختلفة عن أحمد فؤاد نجم (1929 ـــ 2013). إنّها الابنة الوسطى لشاعر العامية المصرية الشهير، والصحافية والناقدة المسرحية صافي ناز كاظم، التي تُعد أبرز كاتبات جيلها. ورثت عن أبيها «طولة اللسان»، ووضوح الموقف، فشاركت وهي في الجامعة، في منتصف التسعينيات، مع زملائها في وقفة احتجاجية ترفض مشاركة الكيان الصهيوني في معرض صناعي أقيم في مصر، وألقي القبض عليها وقضت في السجن نحو أسبوعين. قبل ثورة 25 يناير 2011، كتبت نوّارة مقالات في صحيفتَي «الوفد» و«الدستور» تناولت صعوبة الأوضاع المعيشية تحت اسم «اضحك مع الشعب». تعدّ نوارة من الجيل الأول من المدوّنين المصريين، اشتهرت بمدوّنتها «جبهة التهييس الشعبي» التي وصل عدد زوارها وقت الثورة إلى نحو 30 ألف زائر يومياً، وتعد أحد أبرز وجوه ثورة يناير
لم تكن نوّارة نجم تنوي كتابة حكايتها مع والدها. ظلّت لنحو عشر سنوات تحاول استيعاب غيابه. تحادثه كأنّه حيّ، تتّصل به علّه يرد على هاتفه. رفض عقلها تصديق الحقيقة.
استمرت على ذلك حتى جاءت وفاة أختها الكبيرة عفاف، بعد عام واحد من وفاة نجم، ثم الوفاة المفاجئة لأختها الصغيرة زينب (1992ــــــ 2022). وقتها، قرّرت نوّارة الكتابة، لكن هذه ليست مجرد كتابة عن شخص عادي، وإنما عن شاعر احتل مساحة كبيرة من الوجدان الجمعي بمواقف وقصائد ثورية، بعضها لحّنه وغنّاه رفيق دربه الشيخ إمام عيسى، فرُدّدت في التظاهرات وهزت عروش من جلسوا على كراسي الحكم، ما عرّضه للاعتقال والسجن لسنوات في عهد الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات.
لكنّ أحمد فؤاد نجم كان كثير الظهور، لا يخجل من قول أي شيء في أي مكان سواء كانت جلسة خاصة أو ندوة أو لقاء تلفزيونياً، بالإضافة إلى أنّه كتب مذكراته تحت عنوان «الفاجومي»، وكتب أصدقاؤه عنه كثيراً، فماذا ستكتب نوارة؟ هكذا سألت نفسها! والإجابة: ستكتب عن أبيها.
جلست تكتب قصتها/ قصته «عبر كاميرا مثبتة في حدقة عين طفلة ثم مراهقة ثم شابة عاشت في ظل شخص استثنائي على المستويين الإبداعي والإنساني» وفق ما تقول في مقدمة «وانت السبب يابا». تقول نوّارة في حوارها معنا: «لم أكن اعتزم كتابته، بل لم أكن أرغب في ذلك لأنني لم أشأ أن أواجه حجم الألم وأجترّه مرة أخرى. الأستاذ إبراهيم عيسى هو المحرّض الأول على كتابة هذا الكتاب».

يظهر الكتاب وجهاً آخر لأحمد فؤاد نجم: شديد الضعف والهشاشة في مواجهة المواقف الإنسانية والأزمات الشخصية

تحكي نوارة أنّها ذهبت يوماً لوالدها تعاتبه عن السبب الذي جعله ينجب أطفالاً بينما هو منشغل عنهن بقضية كبيرة يدافع عنها ويدفع ثمن إيمانه بها في السجن أو الهروب من السجن، وأنّ هذا أدى إلى غيابه عنهن، ما ترك أثراً كبيراً عليهن. تقول نوارة إنّه استمع للعتاب ولم يرد. بعد فترة قصيرة اتصل بها، وأخبرها أنه عُرضت عليه كتابة أغاني مسلسل اسمه «حضرة المتهم أبي» (2006)، وأنّه بالفعل كتب تتر المقدمة وجاء فيها: «نازل وأنا ماشي ع الشوك برجليا/ وأنت السبب يابا يالي خليت بيا»، متقمّصاً شخصية نوارة. ثم ردّ في تتر النهاية: «حقك علي عيني يا ابني يا نور عيني/ لجل الوفا بديني لك عندي بعض كلام/ أنا كنت وحداني والدنيا وخداني/ عايز ونيس تاني يقاسمني في الأحلام».
تقول نوّارة إن عنوان الكتاب الحالي لم يكن عنوانها المختار: «في البداية، اخترت عنوان «رواية المقالة» من قصيدة «الطنبور». وبعدما قرأت أمّي مسوّدة الكتاب، اقترحت عنوان الكتاب الحالي». ترى نوارة أنّ هذا «العنوان هو الأنسب لحكايتي مع أبي، لأنّني أظن أنه السبب في أشياء كثيرة ليس بالنسبة إليّ فقط. وحياتي كلّها كانت ستختلف لو أني ولدت لأب غيره». وتضيف: «هناك أمور سياسية حدثت في البلاد استلهاماً من شعره، وهناك قطاع كبير من المتأثرين به ليس في الشعر فقط، وإنما في الحياة بشكل عام. هو سفير الفقراء والمتحدث بلسان العامة، وتأثيره واسع في الوطن العربي بالكامل وليس في مصر فقط. وهذا ليس رأيي الشخصي، إنّما هي حيثيات فوزه بالجائزة الكبرى لـ «مؤسسة الأمير كلاوس الأولى» (2013) التي لم يحصل عليها مصريّ سواه، وحصل عليها عربياً الشاعر محمود درويش. ويقدمها «صندوق الأمير كلاوس» الذي أنشئ عام 1996 بهدف دعم المبادرات الثقافية وإثراء التبادل الثقافي مع الأفراد والمنظمات في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والكاريبي». أشارت اللجنة في حيثيات فوز نجم بها إلى أنّه «شاعر بارع، وناقد اجتماعي وسياسي شجاع، ومحبوب من الفقراء والمحرومين. وهو رمز وبطل شعبي».
تضحك عندما نسألها إن كانت تشعر بأنّها محظوظة. ترد: «ليس هناك شخص محظوظ. الناس تأخذ حظوظها على قدر ما قُسم لها».
لم تسع نوارة، عبر صفحات الكتاب، إلى إظهار أي جانب بطولي أو نضالي في حياة نجم، بل أرادت الحديث عن رحلتها في البحث عن «الأب الغائب». لذلك، كان واضحاً صوت ورؤية طفلة مرّت مع أبيها «بأحداث لم تفهم بعضها، وطبَّعت مع جُلّها باعتبار أن هذه طبيعة الأشياء، ثم تبيّنت حين نضجت أنها ليست كذلك، وأن هناك تجربة إنسانية تستحق أن تروى إن بدت عادية». في كتابة نوارة، يظهر نجم آخر غير الذي يعرفه كثيرون: «شديد الضعف والهشاشة في مواجهة المواقف الإنسانية والأزمات الشخصية التي يفقد فيها قدرته على حسن التصرف وسرعة البديهة التي يتمتع بها في الشأن العام». شخص ينام بجوار ضريح الحسين، ويؤمن بكرامات الأولياء، ويرفض أن تصرخ نوارة لوجود لصّ في بيتهم. يقول لها «عشان الراجل ما يتكسفش، (لا يحرج) أكيد حاله صعب عشان يسرق من بيت زي بيت نجم». هذه وغيرها من الحكايات التي ذكرتها نوارة بلغة ساخرة، لم تُخف آلام الفقد وقسوة غياب الأب، فقد كان «مثل الزئبق لا يمكن الوصول إليه إلا بشق الأنفس».
لهذا جاء اختيارها لصورة الغلاف وهي طفلة مع أبيها: «اخترت صورة الغلاف من اللحظة الأولى. صورة لطفلة لا ترغب في الابتسام وأبوها يشير لها كي تنظر إلى الدنيا وهو يبتسم، أظن أنّ هذا تلخيص جيد لمشاعري».
في الكتاب، يبدو أن هذه الطفلة تسعى «لفهم الصورة الكاملة، الأحداث التي رويتها كانت تؤلمني متقطعة، لكن حين أطلقت العنان لذاكرتي ورويت القصة كاملةً، وجدت العذر لكلّ طرف في القصة وأطلقت سراح الجميع» تقول نوارة، قبل أن تضيف: «لم تختلف نظرتي إلى أبي من الطفولة إلى المراهقة، فالنضج. طالما كان على قيد الحياة، كنت دوماً مبهورة وفخورة به، وأسعى إلى أن يلحظني ويلتفت إليّ لكنه كان منشغلاً».
اللحظة الوحيدة التي اختلفت فيها نظرة نوارة إلى نجم هي بعد الانتهاء من الكتاب: «شعرت بمدى عمق الحزن والأسى اللذين كان يدفنهما خلف السخرية وخوفه من المشاعر القوية الذي كان يغلّفه باللامبالاة وحيل الهروب». تلك الحيل التي تعلّمها نجم هي نتاج تجاربه الكثيرة في الحياة، منذ أن كان طفلاً بين سبعة عشر ابناً، يعيشون في بيت واحد. بعد وفاة والده، انتقل للإقامة في بيت خاله في مدينة الزقازيق، في محافظة الشرقية، لكنّ الخال أودعه في مدرسة داخلية يبيت فيها التلاميذ، أي «ملجأ للأيتام». كانت هذه صدمة للطفل المتعلّق بأمه. تقول نوارة: «حتى تعدّد زيجاته الذي كان يؤلمني، علمت بعدما رويت القصة أنه كان يبحث عن أمّ بسبب معاناته من التخلي في الطفولة». وتضيف: «أظن أنّ علاقته بأمه أثّرت على علاقته بالحياة بشكل عام، وبالنساء ومصر بشكل خاص وبشكل أخص علاقته بي». لقد كانت نوارة «أم أبيها»، ونجم «شرح لي أنّ التراث المصري حوّر لقب «أم أبيها» إلى اسم «ستّ أبيها» هذا الاسم الريفي الشهير» بحسب نوارة.

تعدّ نوارة من الجيل الأول من المدوّنين المصريين

على صفحات الكتاب، نتابع تطور العلاقة بين الأب والابنة؛ اشتياق وغضب ورضا ثم صداقة، تلك الطفلة التي انفصل أبواها، واضطرت إلى ترك مصر والسفر مع أمها إلى العراق، هرباً من الملاحقة الأمنية بسبب مواقفها السياسية.
في الغربة، بدأت نوّارة تعي غياب والدها. لا شيء يربطها به سوى صوره وقصائده، وما يصل بغداد من أغنيات الشيخ إمام، وشرائط كاسيت متبادلة بينهما. تشتاق إلى كلّ ما يشبهه. ترى أنّه يشبه عادل إمام، الذي كانت تُعرض مسرحياته بشكل مكرر على شاشة تلفزيون العراق. كانت تخبر مَن حولها باكتشافها، فيؤكّدون لها أنّ لا شبه بينهما أبداً، فتُجادل «أن لهما الجسد النحيل نفسه».
تعود الطفلة ذات الأربع سنوات إلى مصر في زيارة، بينما الأب في السجن، تذهب إليه مع أمها، تحملق فيه وتقول: «مش قولتلكم إنه شبه عادل إمام». كان هذا اللقاء الأول بين نجم ونوارة. وللدقة هو اللقاء الأول الذي تعيه نوارة، وليس مجرد صوت تسمعه على شريط كاسيت.
تحكي أنّ أكثر شريط كانت تحبه وتفضله «لم يكن فيه أي شيء مميز. فقط تسجيل لرضيعة تضحك وتحاول بالكاد النطق، ثم تبكي فجأة وهو يقول: بابا أدو (عضني) أدو؟ أدو؟ أنت زعلان؟ لا يا روحي أنا ما أقدرش أزعلك.. ثم يدغدغني فأضحك حتى ينقطع نفسي، وهكذا يعضني فأبكي يدغدغني فأضحك.. إلى أن أسمع صوت أمي تقول كفاية البت تعبت يا نجم». ترى نوارة أنّ هذا ملخّص علاقتها بوالدها «يعضني فأبكي يدغدغني فأضحك.. نقل لي مخي». في مرحلة المراهقة، كانت تتعمد إغاظته: «قلت له يوماً: قرأت الأعمال الكاملة لصلاح جاهين وهو أحسن منك. ردّ: طبعاً. فقلت له: لأ مش من قلبك. فقال: لا من قلبي، ثم صمت. وقال: على فكرة بنت صلاح جاهين بتحبّني أكتر منه وقالتلي زيك كده. أنتو عيال ولاد كلب».
هذه المحاولة لإغاظة نجم، كما كانت تراها نوارة، هي نتاج لإحساسها في تلك الفترة أنّها طفلة غير مرغوبة. والدها يعدها بزيارتها ولا يأتي، تذهب إليه في بيته الشهير في «حارة حوش قدم» فلا تجده، وإن وجدته، يكون وسط جمع كبير من مريديه. تهرول وراءه في الندوات والحفلات الغنائية التي يشارك فيها، فيتركها ويمشي على وعد بزيارتها. رغم كل ذلك، تقول: «كنت دوماً مبهورة وفخورة به، وأسعى إلى أن يلحظني ويلتفت إليّ لكنه كان منشغلاً».
تستذكر نوارة فترة مراهقتها، واصفةً إياها بأنّها «أسوأ فترات حياتها» على الإطلاق، لأنها «واجهت قهراً مضافاً إلى حرمان الطفولة الذي تجدّد مع سفر أبي، وأضيف إليه إجباري على ارتداء الحجاب. ليس بيني وبين أمي أي عتب من أي نوع، ولا ألم سوى إلزامي بارتداء الحجاب وإشعاري أنّ لا مناص منه، وأنّه طبيعة الأشياء وشعوري بالقهر في هذه السنّ مع تغيّب أبي الذي لم يكن موجوداً للدفاع عني».
ناقد اجتماعي وسياسي شجاع، ومحبوب الفقراء والمحرومين ورمز وبطل شعبي


هذا القهر لم يكن من نجم وحده، و«إنما من الجميع» كما تقول نوارة، وتضيف: «إجباري على الحجاب في سنّ الحادية عشرة تجربة شديدة الإيلام، وتملؤني بالعتب والحسرة بكل أمانة. لا ألوم أبي فقط. مرّت عليّ لحظة لمت فيها الجميع، خصوصاً أفراد القبيلة (أصدقاء والدتها) مثل طنط شاهندة مقلد (الناشطة السياسية وواحدة من رواد الحركة النسوية 1938-2016)، وطنط وداد متري (الصحافية ومن رواد الحركة النسوية 1927- 2007) وطنط محسنة توفيق (الممثلة 1939-2019). أعلم أنّ ليس عليهن مسؤولية ولا لوم ولا عتاب، لكن في فترة من حياتي، لمت كل من حضر ولم يدافع عني، وقلت لطنط شاهندة إنها فضلت صداقة أمي عليّ، ولم تشأ أن تدخل معها في مشاحنة لأنني لست ابنتها كما تدّعي. وطنط شاهندة دافعت عن نفسها، وأخبرتني أنها تحدثت في الأمر مع أمي، لكنّ أحداً لا يملك أن يمنعها من تربية ابنتها بالشكل الذي تراه مناسباً ولا حتى أبي، وقالت لي إنّ أبي لم يبذل جهداً في تنشئتي يسمح له بالتدخل في هذا الأمر».
رغم الوجع الذي تحمله نوارة لإجبارها على الحجاب، وموقف أمها المتشدد منه، إلا أنّه طوال صفحات الكتاب، تبدو الأم بصورة البطل؛ فهي لم تتخلّ عنها أبداً، وعزّزت لديها صورة نجم الأب والشاعر والمناضل والمختلف والغلبان (الطيب)، واحترمت قرارها بالإصرار على حضور نجم في تفاصيل ابنته رغم أنه كالزئبق».
كبرت نوارة وصارت شابة وتحوّلت علاقتها مع والدها إلى الصداقة. ترجع ذلك إلى سببين «أولهما أم زينب (زوجة نجم الأخيرة) التي نجحت في تكوين بيت يصلح لمقابلته، وثانيهما أنني كنت وصلت إلى السن التي يحسن أبي التعامل معها. هو يحبّ الأطفال لكنه يرتبك أمامهم. روحه الشابة تمكنه من التواصل مع الشباب دوماً».
رغم كل الألم الذي عاشته نوارة في طفولتها، لكنها سامحته، ونجحت في علاج نفسها من التروما التي لازمتها طوال حياتها: «زرت قبره وطلبت منه السماح، وقلت له سامحني يا بابا إني لومتك على المقدر والمكتوب». تقول نوارة بأن هذا «التسامح جاء من رواية القصة كاملةً. اللقطات المؤلمة في حياة الإنسان، تحتاج إلى وضعها في سياقها لتفهم جذورها»، ولا تتمنى نوارة أن يمرّ طفل/ طفلة بما مرت به، فـ «الموقف كان صعباً ومؤلماً».
وقّعت نوارة في نهاية الكتاب باسمها بالكامل، ذاكرةً حتى جدّها السادس. حتى ذلك، فعلته إرضاء لأبيها، إذ تقول: «وقعت باسمي كاملاً لتأصيل النسب الذي كان أبي يعتزّ به. فأبي هو الوحيد من بين إخوته الذي كان يشبه والده طبق الأصل. بقية أعمامي وعماتي جميعهم يشبهون جدتي هانم (أم نجم) ».
الآن لا تعلم نوارة أحمد فؤاد نجم كيف استقبل أبوها كتابها عنه، في حياته الأخرى، لكنها ترجو أن يتمكّن من قراءته.