في كتابه «فلسفة التديّن» (دار الفارابي)، يتجاوز حبيب فياض «التَّهَافُتَيْن» وفصل المقال اللذين حكما علاقة «الفلسفة» و«علم الكلام» في العصر الوسيط، وهي علاقة لم تتخطَّ التضاد عبر المساجلات الكلامية، وكذلك محاولات التوفيق بين الحكمة والشريعة لتسويغ التفلسف. وهذا الجدل كانت له تبريراته لتداخل الفروض بين ما هو ديني وما هو فلسفي، حيث كانت «الفلسفة أُمّ العلوم» كما أطلق عليها القدماء. وعليه، فقد تقاطع النشاط الفلسفي مع مجالات المعرفة على تنوعها، ومنها الإلَهِيَات، وحاولت أن تجيب عن أسئلة «الله» و«الكون» والحرية. وكان الفلاسفة الأوائل، منذ اليونان، محكومين بالإجابة عن هذه الأسئلة، من دون الانتباه إلى حدود إحكام العقل، وهذا ما أنشأ التداخل والتضاد بين هذين المجالين المعرفيين: «الدين» «علم الكلام»، والفلسفة.وإذا كان هذا التعارض مبرّراً في العصر الوسيط، فما هو المبرّر لاستمراره في زماننا المعاصر، وتحديداً مع الثورة الكنطية التي نجحت من خلال فلسفة النقد ــــ نقد العقل في أواخر القرن الثامن عشر ــ في إعادة بناء الفلسفة على أسس جديدة بعد مخاض طويل وعسير، لتسلُك طريق العلم التي لا تنسد أبداً. ومع هذا النقد، لم تعد الفلسفة «أمّ العلوم»، بل أضحت علماً يبدع الأفهوم Concept، ومعارفنا القبلية (القبلي بما هو كلي وضروري) أصبحت تجاوز الموضوع وتتعاطى مع موضوعاتها لا كتلميذ يسأل أستاذه، لكن كقاضٍ يستجوب متهماً.
وفي الوقت نفسه، اكتشف حقل إمكان العقل وحدوده ضمن ما يمكن أن تثبته التجربة، وهذا ما خلق التباساً لدى العاملين في هذا المجال.


فياض جعل هذا الالتباس وإزالته موضوعةً أساسية للتقدم نحو عنوانه «فلسفة التدين» ربما كفرع جديد في مساحة علم الكلام، من خلال تحديده للعقل لدى المتكلمين الذي اعتبره «مكبّلاً بنتائج مسبقة، مستمدّة من الوحي، وعليه إثباتها وليس مسموحاً له بنفيها». والمفكر الديني في هذه الحالة، يضع النتائج المستمدّة سلفاً من النص الديني ثم يقوم بالبحث عن المقدمات المنطقية المفضية إليها. فهو يعلم أولاً، ثم يستدل على ما يعلمه كنوع من إضفاء العقلانية أو الحجاج لإقناع الآخر وإفحامه.
وهو هذا العقل ـــ بحسب فياض ــــ استخدم المنطق للاستدلال على صحة ما يقوله الوحي، وليس لإنتاج معرفة على غرار العقل الفلسفي ويقول: «هنا نحن أمام منهج نقلي وحياني».
أما الفيلسوف، فهو ينطلق في بحثه الفلسفي من مقدّمات منطقية تعود في نهاية أمرها إلى المسلّمات والبديهيات العقلية، فتفضي إلى التسلسل المنطقي، وهو مستعدّ لقبول النتائج من دون إخضاعها للمعايير النقلية أو التعاليم الوجدانية.
وفي تحديده لوظيفة العقل في هذين المجالين الكلامي والفلسفي، يؤسّس فياض لعلاقة جديدة بين الاثنين خارج التضاد الذي اعترى هذه العلاقة في العصر العباسي وحتى يومنا هذا لتداخل الفروض بين ما هو ديني وما هو فلسفي. ويضيف فياض أنّ التعارض بين الوحي والعقل في حال وجوده، إما أن ينشأ من التباس في فهم الوحي، وإما عن سوء استخدام العقل. ويقول: «لا مكان للحديث عن تعارض في حال كنّا أمام وحي يخلو من شوائب الفهم، وعقل محض لا يقع في فخّ المغالطات والشبهات».
بحسب فياض، هذه الشرطية في تفكيك موضوع التعارض تحمل في متنها الإجابة، فيكون التعارض لديه ناشئاً عن عدم القدرة على الفهم - فهم النص الوحياني- وإما إعمال العقل المحض بموضوعات خارج حدوده وهي موضوع الله والكون الذي يوقع حكماً في المغالطة. وإذا كان الفكر الديني محكوماً بموضوعات لا تقع ضمن حدود العقل وإمكاناته، فإن التناقض في هذه الحالة حتمي وذاتي.
في بحثه هذا، يميّز فياض بين مجالين معرفيين ضمن نقاشه العلاقة بين الفلسفة والفكر الديني؛ فهناك «فلسفة الدين» بما هو التفكير الفلسفي حول الدين، لا التعاليم الفلسفية التي ينطوي عليها. ويعتبر أن الأفكار الدينية مجرد تعاليم نظرية، لم تشكّل يوماً حافزاً كافياً لاستنفار العقل الفلسفي إزاء الوضع الديني. وفي استعراضه لعلاقة الفلسفة الحديثة بالدين بشكل عميق وموضوعي متميز في إطار الإثبات والنفي والسلب والإيجاب، والدحض والتثبيت، والنقد والنقض، والهدم والبناء، والتأييد والتشكيك، يستخدم ثقافته الدينية ودراسته الفلسفية في مسار الدفاع عن الدين والفلسفة في حدودهما، من خلال عملية نقد، وكذلك في نقاش عميق لأزمة الفكر الديني، فيعلن ثورةً في المنهج. هو يرى أن علم الكلام بقي أسير المنطق الأرسطي عبر قرون، ويعدد آليات قصور المنهج القائم، وهي الانفعال في التحليل والاستنتاج والاستنباط في ظل المعارك بين شبهات تستوجب الإبطال، وإثبات الحقانية حيث يتحول هذا الانفعال النظري في الفهم، إلى انفعال عملي في الأداء.
من خلال هذا النقد، يحاول فيّاض تشريع وفادة معارف خارجية إلى المعرفة الدينية تستوطن فيها، فتتحول من كونها منهجية خارجية إلى كونها معرفية داخلية، من قبيل المنطق، وعلوم اللغة والبلاغة، والبيان، والاجتماع، والتاريخ، والدلالة، والنفس وإضافة إلى بعض مبادئ الفلسفة. ويرى أن تأسيس فلسفة الفقه ضروري للالتفاف على تاريخانية الفهم الديني من حيث قدرته على التمييز بين ما هو ثابت وما هو متحول في النص الوحياني، وما هو تشريعي وإلهي، وما هو تدبيري بشري على صعيد المتعلقات والسيرة. وما يطلبه فياض هو هدفه الإتيان «بالتجربة الماضوية إلى الحاضر وفق ظروف الحاضر، لا إرجاع الحاضر إلى الماضي وإخضاعه لتجربته». وكذلك، يدعو إلى أن تؤكد التجربة التجديدية في علم الكلام ضرورتها في تحويل العنصر التاريخي في العقيدة إلى عنصر تاريخي على قاعدة تبيئة التعاليم العقائدية، بما يتناسب مع تحولات الذهن واللغة والتفكير لدى مخاطبي الوحي.
هذه الثورة المنهجية ضرورة عند فياض تدفعه إليها آليات قصور المنهج الكلامي القائم. وتالياً، وللخروج من أزمته هذه، عليه أن ينفتح على علوم جديدة كنظريات فلسفة اللغة عند شلايماخر، وتفسيرية المعرفة عند دلتاي، والبنيوية عند دو سوسير، وتحويلية النحو عند تشومسكي، وهيرمينوطيقا اللغة والوجود عند غادامير، كون «الوحي قبل كلّ شيء حقيقة لغوية، وفهمه لغوياً متوقّف على كل ما يترتب عنه» وفق فياض.
ينطلق المؤلف إلى المنهج منتقداً مَن يظن أنّ صناعة المنهج في فَهم الوحي شأن وحياني، لأنّ هذا الاعتقاد يجعل المنهج غَير المقدّس في مقام المضمون المقدّس. ويدعو إلى أن يكون المنهج مجرد شأن تفكيري يرتبط بأنحاء التفكير. ويقبل التبدل والنقد والمراجعة والتعديل لأنّ محاولة التماهي بين النص الديني بما هو مقدس، والمنهج بما هو بشري من شأنه منْع مراجعة المنهج ونقده لاحتسابه مقدّساً في ما هو أمر خارجي متغيّر وبشري.
دعوة لتجديد الفقه والقيم بما يتلاءم مع شمولية النص واحتياجات الواقع


وهنا يشير فياض إلى أماكن الخلل في علم الكلام وحصره في كونه عاش أسير المنطق الأرسطي ولم يَنْفَتِحْ إلى علوم أخرى، وفي هذا تغييب الأزمة الحقيقية لعلم الكلام. المشكلة تكمن في ظروف نشأته ووجهته، وهو اقتصر على نصرة الآراء والأفعال التي صرّح بها واضع الملّة وتزييف ما خالفها بالأقاويل بما هي الحجج أو القياسات المنطقية، واستخدمت المنطق انتقائيّاً في خدمة هذه المهمة، معتبرة أنّ استخدام المنطق يعطي الصدق لأقوالهم من دون الانتباه إلى أن المنطق الأرسطي أنشأ قواعد صحيحة للحكم بِمَعزِلٍ عن النتائج. وعليه، فليس كلّ ما هو منطقي صحيحاً. هنا المشكلة ليست في الأداة، وإنما في المعارف نفسها وأسئلتها، وموضوعاتها (موضوعات العقل الديني) التي ــ بحسب فياض ــــ ينطلق فيها هذا العقل من مسلّمات، مكبّلاً بنتائج مسبقة مستمدّة من الوحي، وهو يعلم أولاً ثم يستدل على ما يعلمه كنوع من إضفاء العقلانية. وإذا كان هذا هكذا، فأين مسؤولية القواعد المنطقية في هذا «الشطح» والحجاج؟وعليه، فإن تناقض العقل الديني هو تناقض مع نفسه، وليس مع المنطق أو مع الفلسفة كعلم. أمّا في موضوع المنهج، فيعتبر فياض أن المنهج شأن بشري لا بد من نزع القداسة عنه، ولكن وفي هذه الحالة لكي يبقى المنهج قابلاً للنقد والمراجعة. لكن ماذا يضمن ألّا يكون مصير هذا المنهج كمصير المنهج الشَّكِّي عند الغزالي، الذي أطلقه الأخير من عوالمه الفلسفية العقلية، والمنطقية في تجديد الفكر الديني لإنشاء منهج جديد لمواجهة التقليد والقصور لدرك الحق على تقليد إمام؟ هذا المنهج أعطى الغزالي الجرأة في الارتفاع عن حضيض التقليد والاستفسار ورسم طريقة نحو اليقين، من خلال عدم الثقة بأيّ معرفة من دون وجود دليل، فيقول: «لم أشكّ في معرفتي إذا شاهدت بعيني بوجود دليل... ونضيف في «المنقذ» أنّ كل ما أعلمه على الوجه اليقيني ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب». واليقيني هو عقلي بالضرورة باعتبار أن الأحاسيس مشوّشة، لكن هذا المنهج الشَّكِّي نفسه على أهميته وتأسيسه للفكر العقلاني، اصطدم بواقع النص المقدس، فتحوّل في واقع الأمر إلى رياضة ذهنية جدلية لا توصل إلى يقينيات بل حقيقة ثابتة وسابقة لعملية الشك أزلية وأبدية. فالشك في هذه الحالة أُعْمِلَ في غير مجاله وفي غير مساحته، لأن الشك في جوهره ينطلق من دون مسلّمات.
وهذا المنهج، وبعد قرون سبعة، أخذه ديكارت وأطلقه من سجنه في بيئته الجديدة منطلقاً ممّا قدّمه الغزالي: أدرك بعقلي ما كنت أحسب أنني أراه بعيني، يجب أن أشك في كل شيء، يجب أن أُعَلِّقَ كل معارفي. والشك يجب أن يضع نهاية لكل وجوده، والأنا المفكرة تعطي الأشياء مدلولاتها. والأجساد نفسها لا تُعْرَفُ حقاً بالحواس أو بقوة المخيّلة وإنما بالإدراك وحده.
الغزالي الذي خرج من عباءة الفلسفة المشائية – العقلانية - التي تمثلت في «فرقة المعتزلة» ثم ارتدّ عليها وحاربها وأعلن تهافتها، وفي النتيجة حصار الفلسفة، لم يقدم لنا استمرارية لعلم الكلام، ولم يحقق الحداثة التي ابتغاها، لكنه مهّد الطريق لأهل الحديث. وبدل أن يُحْدِثَ خرقاً في العلاقة مع أهل الحديث، دفع غالبية فرقهم إلى اعتباره مبتدعاً كبيراً لاحتواء بعض أعماله مذاهب فلسفية، ونزعات غامضة ورموز مذاهب تخالف الدين في جوهره. ولم يشفع للغزالي تأسيس التصوف السُّني العملي، ولا اعتباره عقيدة أهل الحديث هي العقيدة الناجية في الإسلام.
واعتقد أنّ تأثير علم الكلام في العصر الوسيط، كان أحادي الوجهة، إذ نجح في التنظير لحرب دائمة ضد الفلسفة، مستخدماً الأدوات العقلانية الفلسفية. وهذا التهفيت للفلسفة العقلية جاء يمهّد الطريق لهيمنة أهل الحديث الذين بدورهم دعموا ورسموا نهاية لعلم الكلام، وأحكموا قبضتهم على الفكر الديني والوعي الجمعي عند المسلمين وهم الذين أنكروا إمكانية العقل البشري تناول المسائل الإلهية، بخاصة «القرآن»، لأن الأخيرة أرفع مرتبة من العقل كونها مأخوذة من «وحي إلهي». وهذا الوحي، بحسب رأيهم، يفيد الإنسان ما شأنه ألّا يدركه بعقله، وما يَخورُ عقله عنه، وإلا لم تكن للوحي أو النبوءة حاجة قط. وسبيل هؤلاء إلى نصرة آرائهم هو الرجوع إلى المعجزات التي تظهر على يدي صاحب التشريع وشهادات من تقدّم قبله من الصادقين. وفي هذه الحالة، تزول الحاجة إلى النظر أو الرؤية في تصحيح هذه الآراء. وإذا وجدوا شيئاً منها، عمدوا إلى التأويل، وإذا تعذّر، اكتفوا بتزييف الأقوال المناقضة.
وفي المحصّلة، المشكلة لا تزال قائمة منذ قرون ليس بين «الحكمة والشريعة» بحسب ابن رشد، وإنما توسّعت المشكلة لتشمل علاقة علم الكلام وعلم الحديث. وهنا لا بد من طرح سؤالٍ إضافي وهو جواز التعاطي مع النص الديني من موقع إعادة تكوينه على أسس عقلية، وهو القائم على الإيمان بالله واليوم الآخر والغيب، ومنظومة أخلاقية، ولماذا يكون هذا النص موضوعاً للتفلسف؟
إن فلسفة التدين «مع تحفظي على استخدام مصطلح فلسفة» تحمل باعتقادي مذهباً تأسيسياً لإصلاح ديني عميق طال انتظاره بعد مخاضات ومحاولات جزئية عبر التاريخ الإسلامي.
إن التدين بما هو ممارسة عملية أخلاقية توازي الممارسات العبادية، وفياض يناقش علاقة الدين بالتدين والمتدين والواقع، معتبراً أن الواقع ليس مساحة مستقرّة يصح التعاطي معها تديّنياً بنمطية صلبة ومسبغة، وهي ليست ظرفية ولا ثابتة بتحول الشروط المجتمعية التاريخية والمعرفية بما هي وعي في حركة تطور دائمة وبحث معمّق. ويتمحور جهد فياض في دعوته من خلال هذا الجهد المبذول في صياغة «فلسفة التدين»، إلى تشميل الفعل التديّني وجعله انعكاساً لشتى أنواع التعاليم الدينية وتحويل المسألة الاعتقادية من مسألة ذهنية ونفسية إلى مسألة التزامية تطبيقية، في شقّيها التعبدي والقيمي، حيث يجد خللاً في الشروط التصعيببية التي يتم وضعها كمعايير لانتماء الناس إلى الدين وخلاصهم به، ويدعو إلى الانتقال من فهم الدين إلى تطبيقاته من خلال تأصيل منظومة الكلام، الفقه والقيم وتجديدها بما يتلاءم مع شمولية النص واحتياجات الواقع.

* باحث في الفلسفة