كل ما يكتبه وكتبه علاء خالد (1960) يُعد شعراً، حتى في رواياته يحيطك بأسلوبه الشعري، بدءاً من ديوانه الأول «الجسد عالق بمشيئة حبر» وصولاً إلى ديوانه الجديد «العدم أيضاً مكان حنين» (الهيئة المصرية العامة للكتاب). قسم الكاتب المصري ديوانه إلى ثلاثة أجزاء: «الحياة التي اتّخذت هيئة جسمي»، «مقعد مسافر»، «بعدي» رغم اختلاف شكل القصائد في الأجزاء الثلاثة. في الجزء الأول، تُكتب قصيدة نثر بدون عنوان، ثم في الجزء الثاني تُكتب القصائد على هيئة نصوص. أما في الجزء الثالث، فتتخذ القصائد عناوين، لكنّ ثمة تشابهاً في الأجزاء الثلاثة، فشعره يقطر عليك قطرة قطرة، حتى يغمرك من كل الجهات. يفتتح علاء خالد ديوانه بقصيدة يقول فيها: «الحياة التي أحملها معي/ الحياة التي اتّخذت هيئة جسمي/ الحياة التي أصعد بها على الرصيف خوفاً من العربات المسرعة/ الحياة التي أغطيها بواقٍ شفاف/ الحياة التي يدق المطر على سقفها بقوة/ الحياة التي أصبح بيني وبينها حائط زجاجي/ أنظر إليها اليوم كوديعة، بعد أن كانت بالأمس القريب عضواً من أعضائي». يبدأ خالد من النهاية، يذكر لحظة حدوث الانفصال، لحظة الذهاب إلى العدم، وكأنه بذلك يمهد للقارئ الاندماج مع خلق مكان اسمه «العدم»، لكنه مكان بلا زمن وبلا حنين، مكان لا يستطيع القارئ تخيّل معالمه، لكنه بسهولة يدخل إليه.


أخضع علاء خالد المكان إلى سُلطة الشعر، جعل القصيدة مكاناً يسكنه القارئ، وجعل من العدم صورةً يتتبعها القارئ في جميع قصائد الديوان، توقظ فيه مشاعره، ولا يفرض الشاعر سُلطته على القارئ في رحلته إلى مكان بلا معالم ولا زمن. فالقارئ الذي يتتبع رحلة خالد إلى العدم، سيستمع إلى أصداء مشاعره في كل لحظة في الرحلة. يصبح العدم القبضة الشاعرية التي تلتقط الوجود الكلي للقارئ، والشاعرية لا تأتي من الحنين، بل تأتي من أن العدم أصبح عدسة ترصد الحياة، عدسة رصد للوجود، عدسة ترصد لا تحن إلى أي شيء بعينه.
يحيلنا الجزء الأول من الديوان في نهايته إلى التفكير في ثنائية الحب والموت، والصراع بينهما، الذي صوّرته الميثولوجيا اليونانية والرومانية في صورة الآلهة إيروس وثاناتوس، لكن ما صوّره علاء خالد في نهاية الجزء الأول من ديوانه ليس صراعاً، بمعنى أنه جعل الاثنين متساويين، لم يرجح أي كفة منهما. يكتب في نهاية الجزء الأول: «كنا وما زلنا وسنكون بعدة أوجه وحيوات/ دون أن أخونكِ أو تخونيني/ دون أن أهجركِ أو تهجريني/ حياتنا تهرب منا في الليل/ تتبدّل وجوهنا في مقايضة/ ولكن قلبنا كما هو واحد/ الندبة الخالدة التي سنعود إليها لنتعرف على أنفسنا». وربما كلمة الصراع تحمل في معانيها إعلان فائز ومهزوم، لكنّ علاء خالد فهم قوانين لعبة الوجود في رحلته إلى العدم، وأدرك أن الحب ربما هو ندبة في جبين الحياة، ندبة تفرض سُلطتها على صراع بلا منتصر ولا مهزوم. ندبة تتشابه مع الموت. كلاهما يقطر شعراً، لذا لم يهمه أيّهما أقوى، لأنه أدرك كما يكتب في إحدى قصائد الديوان: «الله قام أمام العدم/ الحب قام أمام العدم/ العدم الذي لم يترك إلهاً أو قلباً أو حباً/ إلا وألقى في ترابه بتلك البذور الجافة»، ومن إدراكه هذا أنبت من رحلته إلى العدم شعراً.
جعل من العدم صورةً يتتبعها القارئ في قصائد الديوان


في مشوار خالد الشعري، دواوين سيطرت عليها نبرة الرثاء لمن فقدهم في حياته مثل «تصبحين على خير/ تحت شمس ذاكرة أخرى» الذي كان رثاء لأمّه. لكنه في ديوانه الأخير يفقد ذاته، ويخرج منها. افتتح ديوانه الأول «الجسد عالق بمشيئة حبر» (1990)، بقول ميشال فوكو: «ينبغي أن أفترض أنّ خطابي هذا لا يؤمن لي طول البقاء. وإنني إذا أتكلم لا أتحاشى موتي وإنما أؤسسه، أو بالأحرى أنني أزيل كل داخلية في هذا الخارج الذي لا يقيم أي فرق بين حياتي وموتي». لعلّ علاء خالد أكثر من ثلاثين عاماً ليفقد ذاته وهويته، أو يحقق نبوءة فوكو، كي يكتب شعراً لا عن ذاته، بل عن فقدها. يكتب في قصيدة بعنوان «النوم في الفنادق»: «ربما جئت الحياة لأحترف النوم في الفنادق، للدخول في هذه الهوية الأخرى نائماً، لأضع غشاء رقيقاً على هذه الذكريات». كتب شعراً لا يُعد رثاءً لفقد الذات فقط، بل رثاءً للحياة نفسها، شعراً يجرب فيه شعور الأعمى الذي تمنى أن يجربه في الحياة، وفي آخر قصائد ديوانه التي عنونها «شعور الأعمى».
فقد الذات والهوية ذلك يحيلنا إلى أحد دواوين الشاعر اللبناني وديع سعادة (1948) بعنوان «نص الغياب»، حيث كتب أنّ «زمن الكتابة زمن الغياب، مكان الكتابة عدم المكان». وفي كتابه «جماليات المكان»، يوضح باشلار: «إننا لا نلمس إلا القليل، أو لا شيء على الإطلاق، من الحركة في مشتقات قواعد اللغة أو في الاستدلال والاستقراء. حتى الأفعال تتجمّد مثل الأسماء، الصور وحدها هي التي تدفع الأفعال إلى الحركة». وإذا قيّمنا الشعر من خلال هذه الإحالات، وتحديداً إحالة باشلار، نجد أنّ هذا ما نجح علاء خالد في تقديمه في ديوانه «العدم أيضاً مكان حنين» الحائز «جائزة الشعر الفصحى» في «معرض القاهرة للكتاب» الأخير.