صدر للشاعر والنّاقد سلمان زين الدين كتابان نقديّان هما: «في الرواية العالمية» و«في الرواية العربية» (دار العربية للعلوم ناشرون ــ بيروت). يتضمَّن كلٌّ منهما خمسين مقالة نقدية لخمسين رواية صدرت أخيراً عن دور نشر لبنانية وعربية. يمثّل هذان الكتابان، من نحو أول، وثيقة تاريخية، تقدّم معرفة، أولاً، بواقع الرواية العربية وواقع الترجمة الروائية في الوطن العربي، وثانياً، بمئة روائي عربي وعالمي وبإنتاج كلٍّ منهم؛ إذ إنّ المؤلّف يبدأ مقالته، بتعريف موجز بصاحب الرّواية وإنتاجه.يمثّل هذان الكتابان، من نحو ثانٍ، أنموذجاً للنقد الأدبي الصحافي، المتمثّل في مقالة قصيرة يتّسع لها الحيِّز الذي تُتيحه الصحيفة اليومية للنقد الأدبي.


في ما يأتي، نحاول تقديم معرفة بهذه المقالة، في أحد الكتابين، وهو «في الرواية العربية»، هو الكتاب الثامن للمؤلّف في النقد الروائي. بهذا الكتاب يكون مجموع الروايات المقروءة في الكتب الثمانية ثلاثمئة وستين رواية (ص 9). وهذا رقم يدلّ على سعة معرفة زين الدين بالرّواية العربية والعالمية، ومدى تتبّعه لتطوّر الحياة الروائية العربية والعالمية. ومن الأدلّة على ذلك، أيضاً، نُشير، على سبيل المثال، إلى حديثه عن خمس عشرة رواية عربية تستلهم الأسطورة، لدى تمهيده للكلام على رواية سليم بركات «ميدوسا لا تسرح شعرها» (ص 172و173). كما نُشير إلى تصنيفه الروائيّين، وفاقاً للقضية المركزية في رواياتهم، كقوله «مي منسّى روائية الوجع بامتياز» (ص ١٨٤ ).
المقالة النقديّة الصحافية، في هذا الكتاب، كما قلنا قصيرة، لغتها سهلة، معجمها معجم اللّغة المتداولة، عباراتها قصيرة، بسيطة التّركيب، تبدأ بتعريف موجز بالروائي وإنتاجه، وموقع الرواية موضوع المقالة في هذا الإنتاج. وتدخل إلى نقد الرواية من عتباتها، من العنوان، فعنوان رواية «اختفاء السيد لا أحد» لأحمد طيباوي، على سبيل المثال، دالٌّ على قضية الرواية المركزية، وهي «عالم مرجعي يقطنه المهمّشون... » (ص 19). وعنوان رواية «الباشكاتب» لأمين الزاوي، دالٌّ على «قِدَم اَليّات الحكم» (ص 60)... ويُثير العنوان، في مقالات، سؤالاً تكون إجابته موضوع «العجالة» (ص 199)، ما يشوّق القارئ إلى متابعة القراءة، وكثيراً ما يبدأ النّقد بمثل هذا السؤال المشوّق. ويتوقّف الناقد لدى عتبات أخرى، ومن نماذج ذلك، الإهداء في رواية «مدينة أبي» لكفى الزعبي، وهو: «إلى ناهض حتر واَخرين...» فيقول: «نستنتج أن عتبة الإهداء تشكل مفتاحاً مناسباً للنص». كما أن التصدير، وهو لأدونيس، «يفضي إلى المدينة المقصودة» (ص 300 و301).
وإذ تبدأ المقالة بما يشوِّق، يأتي العرض، ويشمل، كما يقول المؤلّف، التوأمين «الحكاية والخطاب اللذين تتشكّل منهما الرواية» (ص 8). ويبدو أنه يقصد بالحكاية أحداث الرواية وبالخطاب روائيتها، فنقرأ على سبيل المثال قوله: «هذه المادة الروائية/ الحكائية يضعها حمادة في خطاب روائي يزاوج بين التقليد والتجديد... » (ص 225). وفي هذا السياق، نجده يستخدم مصطلحَي الأحداث الفعليّة والأحداث النصيّة. وفي سبيل تحديد المصطلحات بدقّة، نقول: في المنهج السردي، مصطلح الحكاية يعني المادّة الأولية، ما يسمّيه هو الأحداث الفعليّة، ومصطلح القصّة يعني الأحداث والشخصيّات، ومصطلح الخطاب يعني المنظور الروائي والفضاء: الزمان والمكان.
يناقش الفرق بين الرواية والسيرة، والعلاقة بين الرواية والأسطورة


وإذ يُتِمّ العرض ينتهي إلى حكم، فيقول، على سبيل المثال: «انطلاقاً ممّا تقدّم... رواية جميلة تستحقّ القراءة...» ص.(113) . ويقول في حكم اَخر: «ما يجعل من الرواية شهادة فنية على مرحلة تاريخية... وما يجعل من الروائي، مؤرّخاً فنّياً بامتياز» (ص 39). غير أنّ بعض هذه الأحكام تبدو مطلقة، مثل قوله عن إحدى الروائيات في بداية المقالة: «هي شهرزاد الرواية العربية بلا منازع». وتتويجه لها في نهاية المقالة: «وتستحقّ أن تتوّج شهرزاد الرواية العربية بامتياز» (ص. 245 و253).
العرض وصفي يقدّم معرفة بالحكاية والقصّة والخطاب، ونقدي، فيسأل، على سبيل المثال، في ما يتعلّق ببناء الشخصية: «كيف يستقيم الموقف المتعاطف مع المظلوم مع حبّ الظالم والحماسة له». ويقول عن بناء الرواية: «ما يجعلنا إزاء حكايتين منفصلتين في الرواية الواحدة، لا يجمع بينهما سوى الحيّز الورقي...». وعن الحوار : أكبر من مرحلة الشخصيات الدراسية والعمرية. ويرى أنّ بعض الوحدات السردية من قبيل «لزوم ما لا يلزم» (ص337 و79 و191و37). ويصنّف الروايات في اتجاهات: حديثة، واقعية سحرية، غرائبية، تقليدية، نصّ متنوع... كما يرى إلى تميّز بعضها بلغتها الشعرية، أو باعتمادها «كوكتيلاً لغوياً». ويُثير مسألة النوع الأدبي، فيناقش الفرق بين الرواية والسيرة، والعلاقة بين الرواية والأسطورة... ويرصد التناص، ويتبيّن، في مسار عملية النقد، القضايا المركزية التي تتمثَّلها هذه الروايات من مرجعها، وتُمثِّلها نصاً روائياً كاشفاً ورائياً. من هذه القضايا نذكر: الواقع العربي المعيش وتحوّلاته ومشكلاته: المهمّشون، واقع المرأة، علاقة المثقّف بالسلطة، الاستبداد والفساد، ما أفضى إلى قيام ما سمّي بالربيع العربي. الحروب في الوطن العربي: في لبنان وسوريا والعراق، والهروب من جحيمها، وعيش الغربة المزدوجة في الوطن وفي المنفى، القضية الفلسطينية والمقاومة في الجنوب اللبناني، انتفاضة 17 تشرين اللبنانية، الوجود وجدواه، التاريخ العربي...
وهكذا، كما يُفيد ما سبق، يمثّل هذا الكتاب وثيقة أدبية ونقدية تاريخية، وأنموذجاً للمقالة النقدية الأدبية المتميّزة، فيلبّي، بهذا، حاجة ماسّة للحياة الأدبية العربية.