ما زالت قصة الكتابة العربية وابتداع الخط الذي نكتب به نحن العرب الآن، قصة طويلة وطريفة في آن، قدّمها الباحث المصري إبراهيم جمعة في «سلسلة دار المعارف» عام 1974 في كتاب مختصر ووافٍ حمل عنوان «قصة الكتابة العربية». وها هي «مكتبة الأسرة» في القاهرة تُعيد طباعته في إصدار حديث لما يمثّله من أهمية.

ينطلق جمعة من تفنيده للنظريات المعروفة حول نشأة الخط العربي الحالي، أولها النظرية الجنوبية، التي تدّعي بأن الخط العربي مشتق من المسند الحميري في اليمن. وقد أيّد هذه النظرية المفكّر والعالم العربي ابن خلدون. لكن هذه النظرية أثبتت خطأها بمجرد المقارنة بين النقوش الحميرية المكتشفة في اليمن حديثاً، وبين الخطوط العربية الأولى. والطّريف أنّ استخدام العرب الشماليّين للخط الحميري في وقت من الأوقات، كان سببه الاحتلال اليمني لهذه المنطقة.
وتأتي النظرية الشمالية لتُحاول تفسير كيف انتهت الكتابة من الحيرة إلى الحجاز. تحاول هذه الفرضية إثبات نشأة الخط العربي على يد شخصيات عربية في الحيرة، متجاهلةً استعارة الخطوط من الأنباط. وهو ما أكّدته النظرية الحديثة للكتابة العربية التي فسّرت كيف انتقلت بعض القبائل العربية من حياتها البدوية إلى الاستقرار في المنطقة الممتدة من شمال الحجاز وخليج العقبة حيث يقع الآن إقليم شرق الأردن حتى دمشق. وهناك تغيّرت حياة هذه القبائل إلى الطابع المدني، بخاصة بعد احتكاكها بالرومان، وكوّنت وحدات عربية سياسية أهمها مملكة الأزارس التي عرفت بمملكة النبط وازدهرت لمدة خمسة قرون، وكانت مركزاً تجارياً هاماً على طريق القوافل بين سبأ وبلاد البحر المتوسط.
لقد أغار النبطيون على أقاليم «آرامية» واستعاروا حضارتها وابتدعوا لأنفسهم خطاً مستمداً من الخط الآرامي، وهو الأصل الذي استمد منه العرب خطهم واستقر شكله من الخط النبطي التربيعي إلى ما هو عليه حالياً ما بين منتصف القرن الثالث والقرن السادس الميلادي. وقد اتخذ هذا الخط أسماء عديدة نسبة إلى المكان الذي يُكتب فيه، فسمّي الخط الحيري، الأنباري، المكي، المدني، الكوفي والبصري.
ويؤكد الباحث أن الخط الكوفي المربع ليس، هو الأساس للخط العربي الحالي كما يُشاع، ويقول إنّ العرب عرفوا الخط المستدير قبل الإسلام واستخدموه في مراسلاتهم وحياتهم اليومية لسهولة رسمه وليونته. وقد استخدم العرب الأقلام المصنوعة من الغاب والمداد واستخدموا الخزف، عظم الجمال وجريد النخل للكتابة عليها، قبل استخدامهم البردي المصري بعد دخولهم مصر سنة 20 هجرياً.
لقد كانت الكتابة العربية محدودة المعرفة في الحجاز قبل الإسلام. كان يعرفها «أهل الذمة» ثم أخذها عنهم الصحابة الذين كتبوا الوحي، ثم عامة العرب في صدر الإسلام، ثم انتقلت إلى الأقطار والبلاد الأخرى مع الفتوحات، وأسهمت في التبادل الثقافي وترسيخ الدولة الإسلامية الحديثة.
كانت الكتابة العربية محدودة في الحجاز قبل الإسلام


وقد مرت الكتابة العربية بثلاث مراحل للتصحيح بسبب التحريف الذي طال قراءة القرآن. فبدأت المرحلة الأولى على يد أبو الأسود الدؤلي الذي استخدم الإعجام ومعناه، ووضع النقاط كعلامات إعرابية فوق وتحت الحروف، لتدل على الفتح والكسر والضم وغيرها. وكان استخدام التنقيط قبل ذلك مكروهاً من قبل العرب، ويدل على الاستهزاء بالمتلقّي. وكانت مرحلة التصحيح التالية في عهد خلافة عبد الملك بن مروان، عندما طلب الحجاج بن يوسف الثقفي من يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، وضع النقاط على الحروف المتشابهة لتمييزها عن بعضها. وكانت المرحلة الثالثة في العصر العباسي على يد الخليل ابن أحمد الفراهيدي، الذي استبدل النقاط بعلامات الفتح والضم والكسر وغيرها، لتستقر هذه العلامات الإعرابية حتى الآن.
وقد اهتم العرب بتجويد الخطوط العربية واستخدموها في زخرفة ونقوش العمارة الإسلامية، مؤكدين أنّ ما يميز حضارتهم هي الكلمة، عكس ما يميز الحضارة الغربية التي اهتمت بالتصوير والنحت. ويرى الكاتب أن جمال الكتابة العربية ومرونتها، ساعدا الفنانين العرب على زخرفتها. وكانت أهم مدارس تجويد الخط العربي هي المدارس العراقية، والمصرية، والتركية والفارسية.
ويتطرق الباحث إلى انعقاد مجمع اللغة العربية في القاهرة عام 1938 لوضع مشروع لتيسير القراءة العربية الصحيحة. وهو ما دفع بعضهم إلى اقتراح استخدام الحروف اللاتينية بديلاً عن الحروف العربية في الكتابة، وهو ما قوبل بالرفض، واعتبر المجمع أنّ هذه الاقتراحات ستقطع الصلة بين الماضي والحاضر وستقضي على التراث الأدبي العربي.
يُعدّ الكتاب دراسة هامة ومكثفة، تقف على مراحل تطور الكتابة العربية وما وصله الخط العربي من تطور، مروراً بمدارس التجويد المختلفة وأنواع الخطوط التي استخدمها العرب، ويرسخ فكرة أنّ الحضارة الإسلامية أخذت مكانتها وظلت محفوظة بسبب الكلمة.