يشكّل كتاب «مدخل إلى تاريخ الديانات» (دار كتب للنشر) للباحث حسّان سلامة سركيس إضافة مهمةً تحتاج لها المكتبة العربية لا في المرحلة الحالية فحسب، بل أيضاً في أعوامها المقبلة. من المهم العودة إلى «تاريخ الديانات» و«جذورها» (منطقتنا) وبنيتها وتاريخها حكماً، لفهمها أكثر ومحاولة «تنسيبها» للعصور الحديثة اليوم. يأتي «مدخل إلى تاريخ الديانات» بتقديمٍ بصري مباشر: ربما كان مستغرباً ومحبّباً بعض الشيء استخدام الكتاب للقطع الكبير من الورق، فضلاً عن أسلوب تقسيم وتنسيب بصري/ ورقي يشبه الكتب القديمة أو البحثية الكلاسيكية، وحتى الغلاف لناحية التركيز على الفكرة، لا على «بهرجة» التقديم والصورة: غلافٌ أحمر مباشر، وكلماتٌ مكتوبةٌ بخط واضح، لا ترف في ذلك البتة: المهم هو المضمون.

يأتي الكتاب ضمن سبعة أبواب ومقدّمة وتوطئة، وهنا الفكرة نفسها حول الكلاسيكية في تقديم الكتاب. يشرح الباحث في المقدّمة كما في التوطئة، مراد العمل وهدفه؛ مؤكداً أن الكتاب «مدخل لا يدّعي التخصصية»، وهو «ليس كتاب لاهوت ولا كتاب تعليم ديني، إنه محاولة لمقاربة بعض جوانب الظاهرة الدينية وإبراز بعض مفاهيمها ومشتركاتها، انطلاقاً من كون البشرية واحدة في طبيعتها وتساؤلاتها واهتماماتها».
أهم ما في التوطئة الإشارة إلى أنه ـ أي الباحث ــ «اجتهد على إعطاء القارئ أكبر عدد ممكن من النصوص لتمكينه من معرفة بعض نواحي الفكر الديني من وجهة نظر أصحابه، لا من خلال ما يمكن أن يكون قد رسخ في ذهنه من أفكار مسبقة». في المقدمة، يقارن سركيس بين قراءتين: قراءة المؤمن المتيقّن مما يدرسه، وقراءة الباحث المستقل؛ مشيراً إلى أن القراءة المستقلة «لكي تأتي بفائدة تُذكر؛ لا بد من أن تقتصر مهمة الباحث المستقل على رفع القدسية عنها، أي عن النصوص الدينية المراد دراستها، بهدف إعمال الفكر النقدي في نصوصها وطقوسها وتقاليدها وممارساتها، ومحاولة فهم غرائبها وتناقضاتها في إطار البيئة الطبيعية والتاريخية والثقافية التي أنتجتها أو ظهرت فيها». هكذا، يطرح أسئلةً مهمة مثل: «هل يمكن الجزم بأن الإنسان الذي كان أو ما زال يقدّس مثل هذه الأشكال التي تبدو عجيبة غريبة، إنما يقدسها لذاتها؟» ليشير في إجابة على ذلك: «الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يتجاوز عقلياً، ومن خلال الترميز، حدود قوانين الطبيعية وأن يتخطى مشكلة الحواجز القائمة بين عالم المادة وعالم الغيب».
محاولة لمقاربة بعض جوانب الظاهرة الدينية


تأتي أبواب الكتاب السبعة، متضمنةً فصولاً تراوح بين الاثنين والأربعة. يبدأ الفصل الأوّل من الباب الأول، معرّفاً الدين منذ صفحته الأولى: «يتألف الدين في المفهوم العام، من مجموعة معتقدات تنطلق من شعور الإنسان فرداً كان أم جماعة، بوجود قوى منزهة تفوق الطبيعة وتتحكم بها، قد تتمثل بإله واحد أو بمجموعة آلهة أو أرواح أسلاف أو كائنات تملأ الكون وتفرض إرادتها عليه». يغوص لاحقاً في تاريخ الدين في الفصل الثالث من هذا الباب، مروراً بالمذاهب التي تُعنى بالدين (أو بالظاهرة الدينية). أما في الباب الثاني، فيأتي الغوص أكثر عمقاً حينما يتحدّث عن جذور الظاهرة الدينية، من خلال الحديث عن بوادر تجليات هذه الظاهرة، منذ البدايات حينما بدأ الإنسان يطرح التساؤلات على نفسه، مسبّباً «قلقاً وجودياً» وخوفاً من القادم والمجهول وصولاً إلى فكرتَي الموت والحياة، و«فرضية» نشأة الآلهة. أما في الباب الثالث، فيكون الحديث الأهم حول «الميثات»؛ والكلمة هي جمع Myth أي أسطورة أو خرافة بحسب الترجمة المباشرة. لكن الكاتب يرفض الترجمة هذه، مشيراً إلى أنّ الكلمة تختلف إذ إنها «تروي ما يمكن اعتباره أحداثاً حصلت في ذلك الزمان ويرى الإنسان الديني في تفاصيل واقعه المعيش ما يثبت صحتها». ويشير الكاتب إلى «دور الميثات» في تبرير بعض الطقوس والتصرفات، «التي لا يمكن بأي شكل من الأشكال إيجاد تفسير منطقي لها بدونها، ففي سفر التكوين مثلاً (17: 7-11) نقرأ أن الله قطع لإبراهيم عهداً بأن يعطيه كل أرض كنعان ملكاً أبدياً، شرط أن يختن نفسه وأن «يختن كل ذكرٍ» في عشيرته». ينطلق بعدها الكتاب بالولوج أكثر في الفكرة، فيحكي كيف انتقلت «الميثة» إلى الرواية، و«الطقس» إلى الفلولكلور. يستمر بعد ذلك الكتاب من خلال أبوابه الأربعة الباقية وفصوله الإحدى عشر المتبقية (فضلاً عن تمهيد للباب السادس) في محاولة سبر الفكرة الدينية ككل وكأجزاء، إذ يشرح أهمية الرمز والاستعارة في الخطاب الديني، ويأخذ «الشجرة» كمثال على هذا البعد الرمزي. يتناول فكرة «الوحدانية» وتعدد تجلياتها، ثم ينطلق في بابه الأخير متحدثاً عن «الصلوات والقرابين»، مشيراً إلى علاقة الإنسان بمعبوده، وكيف أن الصلاة والقربان في العبادات جزء لا يتجزأ منها. أما في الباب الأخير، فيتحدث عن «اليأس» من الديانات الرسمية و«الحلول البديلة»، ما أدّى إلى بروز «فرق وهرطقات»، فضلاً عن «لامبالاة وانتقائية إلحاد واللاأدرية»، وصولاً إلى المذاهب المسارية والعرفانية والغنوصية.
تقنياً؛ يزخر الكتاب بالكثير من المراجع التي تمتد على أربع وثلاثين صفحة «كاملة»، وهو أمرٌ يشيد بالبحث، خصوصاً لكتاب لا يتجاوز المئتي والخمسين صفحة؛ إذ إن كثرة المراجع تدلّ على أن الباحث بذل جهداً كبيراً لتأكيد معلوماته مرة ومرتين وثلاثاً. ولأننا في البداية تحدّثنا عن «طريقة تقديم الكتاب»، قد يجد القارئ إشكالية في «حجم خط» الكتاب، «طريقة قرب المسافات بين الأسطر» إذ بدت قريبةً للغاية، وبدا الخط «صغيراً» بعض الشيء. أيضاً يُعاب على الكتاب بالتأكيد حجم خط «الفهرس» مثالاً، إذ يحتاج القارئ إلى «مكبّر» ليستطيع قراءتها، وهذا أمرٌ غير مفهوم، كما يعاب عليه عدم وضعه أي «معلومات» عن المؤلّف أو إصداراته، وهذه أخطاء يجب تلافيها في كتبٍ لديها قيمة علمية مثل هذه.
في المحصّلة، هو كتابٌ يستحق القراءة خصوصاً لهواة الغوص أكثر في البحث حول الأديان خارج «معتاد النصوص» التي تتناول الدين. إذ يصرّ حسان سلامة سركيس على البحث والتدقيق الكثير في أي معلومة يوردها، وهو ما يعطي الكتاب مصداقيةً عالية، فضلاً عن كون الأخير ضرورة في المكتبة العربية لا لسبر الأمور فحسب، بل للتدقيق فيها وفهمها أكثر وأكثر.