1. منظر من غرفة الجلوس، عصر نهار شتويإلى محمد العبد الله

- ١ -
في غرفة الجلوس المستطيلة
كثلَّاجة مستلقية على ظهرها
أَلُوذُ عبثاً من تسلل صقيع الشارع
بكنبة خيشية رمادية.
(غيث الأمين)

- ٢ -
في عتم الغيم القاتم
أُحدق وسع عينيَّ الاربعينيتين
في ظلال الأشجار المتراصة
لألتقط دقائق ملامحها
الممتدة إلى الداخل.

- ٣ -
في الواجهة الحديدية البيضاء على يميني
زجاج زمهريري
مرتعد حتى السقف.
أُلقي نظرة على هامة عظيمة أسفل الشباك
وإذ بها صلعة محمد العبد الله
تلتمع بنار قطافي الشارع
تتقدم بين عواميد إنارة خامدة
نزولاً
نحو البحر
حيث جثث ملقاة على الشاطئ
لثلاثِ مقاهٍ
وأطياف هائمة
لأصدقاءَ رحلوا.

2. شمس الدين ما فوق- البنفسج.

غادر محمد شمس الدين
الكوكب الأزرق
بعدما لاعب الموت طويلاً
وغافله لأعوام.

عند أفول كل سنة
كان يستمهل عزراييل
بقربان يقتطعه
من لحمه الحي.

سبع سنين وشمس يتحاذق على ملاك الموت...

في السنة الأولى،
أرسل زائدته الدودية
في تابوت صغير
وانهمر بالضحك لساعات،
فابتسم عريضاً ملاك العتم...

في السنة الثانية
بعث له بلوزتين ورديتين
منقطتين بالأبيض.

في العام الثالث
أهداه ٤٠ سنتيمتراً من أسفل مصرانه الغليظ
كرع زجاجة ويسكي
وقهقه لأيام سبعة.
فتبسّم حصّاد الأرواح بصبر...

في السنة الرابعة
منحه فلذة كبدٍ مثخن بالشموع.

في السنة الخامسة
وهبه مرارة ملأى بحصى
لمّها عن شاطئ الرمل في صور.

وفي السادسة
خلع عليه معدته
التي نظفها جيداً
بنبيذ العنب الأحمر.
فتهلّل وجه إبليس بحنان...

اليوم فجراً
خرج شمس الدين
إلى باحة مرسمه في البازورية
أغمد يده في جوفه،
انتزع قلبه،
ورماه باحتقار في حقل
ثم غطّ في سبات أخير.

3 ـــ خارطة الطريق إلى البحر

-١-
أسكن عمارة خمسينية
تصغر النكبة بعشر سنين،
بنتها عائلتان فلسطينيتان،
في أول شارع اللبان
المتفرّع من شارع السادات،
بطل العبور ذاك
الأنيق ببزته البيضاء،
رائد فضاء الاستسلام
وقتيل الإخوان.

-٢-
مقابل سكني،
موقف سيارات شاسع،
الرئة الشرقيّة لحيّ كَرَكَاس نهاراً
ومساءً، مُتَنَزَّهٌ للمسنين ومرتع للغربان. كائنات متربصة بعيون ميتة
وريش مخملي يبرق كالفحم الجديد،
استوطنت أشجار الحي الباسقة
ورؤوس عواميد الإنارة وأسلاك التوتر العالي
في مشهد هيتشكوكيٌّ مريب.
يوم احتَلّ نعيق الغربان أرجاء الحيّ،
اختفت زقزقة العصافير
ومعها جاري الصباحي العتيق،
الدوريّ اليومي الصديق،
إذ وجدته - بقلب مقبوض - على الرصيف مساءً
وقد هلك من فدغ بالغ في الجمجمة.

-٣-
على الزاوية اليسرى،
أمام المنتزه الإسفلتي،
يجلس الخياط الأربعيني
داخل مشغله الزجاجي الضيق،
محاطاً بأكوام ملابس مستوري الحال،
في الخلفية أذان بوليفونيٌّ
لثلاثة مساجد متجاورة
يوازنه هدير هارمونيّ
لثلاثة مولدات طاقة.
ورشتهُ، فِترينة تشع بقناديل النيون،
يعمل في وضوح ضوئها الكلينيكيّ،
راتقاً ثقوب جيوب الفقراء
خائطاً ندوب كرامات المعدمين.
يَفرُدُ البروليتاريّ النبيل طوله على الرصيف
كلّما أحسّ بحدبة تنمو في ظهره،
يشعل سيجارة
ويمجّها ببطء متعمدٍ
لإطالة وقت الاستراحة،
تأملاً
أو ضجراً،
أو ربما تبرماً صامتاً،
ثم ينفث ببطء شديد
احتراق التبغ خارج رئتيه،
فيمتزج الدخان الأبيض الخفيف
بدخان المازوت الكثيف
المطرود بعنف في وجهه العُمَّالِيّ،
دخان ثقيل خارج من قلب أسْوَدْ
لعادم مولد العمارة البورجوازية الوحيدة في الحيّْ.

-٤-
يَفصُلُ إسفلت كورنيش المنارة
- الذي يعود لطبيعته النفطية صيفاً -
مرتفع كَرَكاس السكني،
عن المنخفض الساحلي السياحي
المستمر باقتصاد يزحف بالكاد،
لعربات الترمس والفول وعرانيس الذرة،
وأكشاك البوظة والزنطاريّة وغزل البنات.
هناك، شُيِّدَ قديماً نصب كوركوفادو المنارة واليعازرها:
دولاب مدينة الملاهي الكبير،
الذي زعق صدأً لعقودٍ كلما أُدير،
ثم سقط على رأس بيروت ذات عاصفة،
في شتاء عام ستة وتسعين،
فأُعيد الاعتبار لدائرته الملتوية
باحتفالية طوِّب فيها شفيعاً
للحزانى والضجرين
ورُفِعَ هالةً ذهبيةً
تدور فوق رؤوس المارة،
تضيء خطى المتعثرين
وتستريح بفيئها أنفاس المتعبين.

-٥-
١•٥
في الخلف ناحية البحر
وعلى مسافة آمنة من قطر السقوط،
يستقر مقهى الروضة في نهاية رواق،
فيه يلتقي كل ليلة عند ساعة الإغلاق،
- في منزلة بين آخر السهاد وأول السبات -
محمد العبد الله وعناية جابر ومحمد شمس الدين.

٢•٥
تدخل عناية المقهى البحري
بوجنتيها البارزتين ورموشها الكحلى،
وبظلها الخفيف ولسانها السليط،
فتبعثر على الطاولة
شطوراً حميميّةً فيها تخففٌ،
وتندرٌ حَذِقٌ بخاطر مكسور،
هرّبته تحت لسانها مؤقتاً
من سوء المصير.
أبيات تقطر فطنة ووجعاً،
وسخرية لم تؤنس وحدتها
وحكمةً ما أفادتها في آخر محنتها.

٣•٥
تُوْرِقُ ابتسامة إعجاب ماكرة
على محيا محمد العبد الله،
تتبعها قهقهات فلسفية
فَغَزَلٌ بمريم
وبحُسنها الريفيّ، عند نبع الدردارة،
وهيام بباذنجان يرقص في قعر فخارة.

٤•٥
تهطل ضحكات عميقة
من روح محمد شمس الدين،
تتسرب من ذكاء عينيه الآسيويتين،
فيتذكر إلهة إغريقية طارحها الغرام
قبل جولة من نزالاته الكثيرة مع الإمبرياليّة،
استعان عليها بزجاجة نبيذ وتمائم طلسميّة
وسجائر سحريّة وقصيدة كاليغرام.

٥•٥
يحدث أن يلتفت إليهم أحياناً فادي ابو خليل،
وربما يزول الكدر ولو لبرهة
عن وجهه المسرحي المنسيّ،
وجه تراجيدي يُنيره شعاع مساء أخير.
يحدّق الشاعر المتواري
- بنظرة كأنها الأخيرة -
في ذاته الغائبة بصمتٍ
وفي ظلال أقرانه الثلاثة عند المغيب
من وراء سماكة بُردَةٍ
التحفها بدار العائلة في اللويزة
أو من خلف ستارة
أمام شباك محكم الإقفال
في عنبرٍ أعلى تلة دير الصليب،
يعيد إسدالها على تأنٍّ.
* لبنان