تعدّ «إخضاع الكلب» (دار الشروق- القاهرة) الرواية الخامسة في مسيرة الكاتب المصري أحمد الفخراني، سبقتها سبعة كتب بين شعر وقصص وروايات، وفازت منها روايتاه «بياصة الشوام» (دار العين ـ 2019) و«ماندرولا» (دار العين ـ 2013) بـ «جائزة ساويرس الأدبية». يقر الفخراني أن رواياته الخمس تدور كلها حول العوالم في ذهن الفرد المعاصر، في مسارات متوازية ومجابهة للعالم الحقيقي، حيث يكتب عن العالم من مركز فردي، مواجهاً سلطة الذوبان في المجموعة، ويؤكد أنه في روايته الجديدة يخوض هذه الرحلة بتأكيد أكبر، صانعاً من البطل وحده عالماً كاملاً يدور في ذهنه.

يقول الفخراني بأنه يحب التجريب في كل عمل جديد (قد يكون تجريباً لغوياً إلى حد كبير)، لكنه يهدف إلى اكتساب قارئ فاهم لأدنى حدود القصة. يقول بأنه واعٍ جيداً لأن تحتوي قصته على أكثر من مستوى لها، متمنياً أن تحقق هدفها، خاصة أننا أصبحنا أمام تحد كبير بخصوص التلقي، ينصرف فيه القراء للأدب الشعبي والرخيص، مفضلاً خلطة الإثارة والتشويق على الأفكار الكبيرة عن الحياة.
قد ينطلق الفخراني من فلسفة أدبية مصرية تحاول الإنتشار حالياً وفرض نفسها، حيث التوسط بين الأدب بمفهومه العميق وبين إيقاع سريع ولغة قريبة من لغة الشارع وقصص جذابة، مما ينجح في لفت انتباه القارئ المصري، خصوصاً بعد انتشار المنتديات ومجموعات القراءة التي تنشر يومياً روايات مرتجلة أشبه بأفلام السينما الرخيصة وبلغة ركيكة، لكنها تجد آلاف القراء المتلهفين، في مقابل سوق لا يبذل فيه الناشرون دوراً تنويرياً بقدر ما هو تجاري، إلى جانب غياب مجموعات قراءة جادة وغياب وظيفة الوكيل الأدبي أو على الأقل المحرر الأدبي الحقيقي. لذلك، ينطلق أغلب الكتاب بشكل فردي ابتداءً من عملية الكتابة وتطويرها وانتهاء بعملية الترويج للكتاب.
صدرت رواية «إخضاع الكلب» وعلى غلافها تعريف خاص بها مفاده: «بعد تعرُّضه للخيانة، ينتقل المصور هارون عبد الرحيم إلى مدينة دهب في جنوب سيناء، آمِلًا في إقامة حصن من العزلة يحميه من الشر، من التجربة، إلا أن الراوي المُصاب بفوبيا من الكلاب، يجد نفسه مُضطرّاً لرعاية كلب، ليخوضا معاً صراعاً خفيًاً، يعمد فيه كلاهما إلى إخضاع الآخر، ليختبر مشاعر هي مزيج من الخوف والحنان والعنف، والبحث عن الحب المفقود، والشك في وجوده».
لعبة المرايا جاءت من خلال علاقة الإنسان بالحيوان


يختار الكاتب مدينة دهب النائية عن القاهرة، والتي تتخذ موقعاً في جغرافيتها بين الريفية والتمدين. عنصر صنعه لجوء أهل المدن والأجانب للسكن فيها. مع ذلك، فهو تخلى عن سمات الأدبيات المصرية التي تحدث في الريف. ورغم هذا الإختيار المكاني، إلا أنه يتسم بالغياب الجليّ. حضور المكان وتجسده يبرزان فقط في ذهن البطل المصوّر وعلاقته بالكلب «ونيس» وببعض الجيران من خلال محاورات محدودة جداً. المكان هنا انعكاس فقط لهزيمة الراوي. والراوي هنا هو المكان والفكرة، أو كأن مدينة دهب هي مجرد إنعكاس للخيبة التي تخلقها القاهرة في الشخوص، فيحملونها معهم إلى أي مكان، لاجئين إلى العزلة لكبت الألم أو تفريغه من خلال السير في مسارات فردية بحتة.
تبدأ القصة عندما يقابل المصور المشهور المنعزل حالياً شابة اسمها «أسما»، ممنناً نفسه بعلاقة حب جديدة تشفي آلام خيانة زوجته المتخيلة، فتورطه الشابة في تربية كلب. كنوع من الانتقام منه أو لتعزية وحدته، يبدأ البطل رحلة هدفها التخلص من الكلب، وتنتهي بالتشبث به كتشبثه بذاته. تحوله هذه العلاقة إلى قاتل جبان مهووس كل همه إثبات وجوده من خلال إذلال كائنه.
تقوم الرواية هنا على شقين يدل عليهما العنوان، هما فكرة الإخضاع، وعلاقة الراوي مع الكلب، يتحدث من خلالهما الفخراني عن مفاهيم مثل الحب والأبوة والحنان التي يؤمن راويه أن تحققها لن يحدث، إلا إذا شابها العنف والإخضاع، اللذين يمارسهما طوال الوقت على الطرف الأضعف، أولاً في محاولة لتطويع ابنه وبعدها في علاقته المريبة مع الكلب الذي يتورط في تربيته. هذه العلاقة كاشفة لدواخل الإنسان، فالفخراني هنا مؤمن بفكرة «إذا كنت تريد أن تعرف نفسك ربِ كلباً»، فكل كلب هو انعكاس لصاحبه، وهو ما حاول أن يفعله الراوي حيث إهانة وتحقير الكلب ما هما إلا إهانة وتحقير لذاته.
لم تكن الخيانة أو القتل هما الجوهر في هذه الحكاية، لكن العلاقة مع كلب هي اللافتة للإنتباه، فدائماً ما كانت لعبة المرآة لعبة مفضلة في الأدب من خلال شخصية وأخرى مضادة، من خلال رجل وامرأة، من خلال العلاقات بين الأفراد، وهنا جاءت اللعبة من خلال علاقة الإنسان بالحيوان، كلبنة الراوي في مواجهة أنسنة الكلاب التي تجلت في حوارات بين البطل وبين كلبة بيضاء يتحدثان فيها عن نيتشه وعن كيفية الوجود وقوانينه. إن هذه الرواية عن الهزيمة المكثفة، هزيمة الحب مقابل الإخضاع، وهزيمة الفن في مواجهة اليأس، هي بالأساس هزيمة للقاهرة في زمن صعب.