أن تكتب رواية عن رجلٍ رشيق القوام، دائم الابتسام، شاحب الوجه، أسمره، يعمل بائعاً للبهارات في سوق شعبي لم يدخله أغنياء مدينة مراكش من قبل، قد يكون عملاً ممتعاً تعيش عوالمه الساحرة لعامٍ أو أكثر.أن تستقبلكَ روائح حادة لمزيج هائل لا تعرف سره، تأخذكَ صوب مدن وبلدان بعيدة لم تزرها من قبل، حين تشرع بالدخول إلى بيت الرجل بائع البهارات، لتعيش معه أياماً معدودات طمعاً بمعرفة المزيد عن تفاصيل حياته... تأكل مما يأكل، وتتذوق شرابه الساخن الممزوج بـ «الشيبة والنعناع»، وتقضي معه وقت فراغه على طريقته هو، وأن تلتحف بغطاء يستعيره الرجل من جارته العجوز التي فقدتْ زوجها منذ قرابة النصف قرن... ورغم ذلك تتلمس عظامك برد ليل منطقة «دوار العسكر» الضاجة بالكلاب السائبة ليلاً، وأنت تستمع لحكايات الرجل عن آلامه التي غادرها زمنها ولكنها بقيت عالقة بين تلافيف روحه... قد تمنحك شحنة إنسانية ربما تهبكَ الفرصة لتذرف دمعة ظلت عصية عن الهمول سنوات ليست بالقليلة.
أنْ تعرف أنَّ الرجل لا يعرف أباه، ولم يلتقِ بامرأة تدّعي أنها أمه من قبل، وأنه منذ كان صغيراً عاشَ وعملَ مع رجلٍ كان بائعاً للبهارات في سوق «دوار العسكر» الشعبي بمراكش، وقد ارتضى بمنزلة المُريد بعد أن اتخذ من الرجل شيخاً له، لكن الشيخ فارق الحياة محمولاً داخل صندوقٍ رخيصٍ بعد أن زوَّجَ مُريدَهُ الفتي، من ابنته الوحيدة العمياء التي كانت «السبب» في موت أمها أثناء الولادة... يرث الشاب الفتي وزوج الفتاة العمياء مهنة الشيخ وكل ما خلفه له من أدوات ومواد في ذلك المكان الملفّق الذي يعرفه أغلب البسطاء الساكنين قرب السوق العشوائي التكوين، ليكون بذلك الوحيد الذي يمتهن بيع البهارات في المنطقة... قد يجعلك تسأل وبإلحاح عن الزوجة العمياء التي لم تلحظ لها أي أثر داخل الخربة التي يعيش تحت سقفها الخشبي الرجل بائع البهارات.
وحين تعرف أن الزوجة العمياء قد اختفت في يومٍ قائضٍ، حيث لم يجدها زوجها بائع البهارات داخل الخربة أو ما يسميه البيت، وأنه بحث عنها طويلاً ولم يستدل على أي أثر لها، وأنه ترك البحث عنها بعد أن كلت قدراته وقرر عاجزاً بالاكتفاء بانتظارها علها تعود يوماً ما... قد تمنح مخيلتك فضاء أوسع لتنسج قصة تليق بقدرتك الروائية ومهارتك السردية التي طالما اعتقدتَ بأنها أكثر مما يميز كتاباتك...
ولكن، حين تعرف أن هناك من غرّرَ بالزوجة العمياء، وأوهمها تحت غطاء الحب بأنه عازم على انتشالها من الفقر حيث قرر «أن يحملها على ظهر جواده الأبيض» ليُسكنها في قصر لا ينقصه الخدم، ثم يصطحبها بعد أن تفلح حيلهُ باستمالتها، بعيداً حيث أقصى الشمال ليدخلها عالم الشحاذة ويجني من ورائها الأموال وهي تجوب الشوارع والمقاهي والمطاعم من الصباح حتى ساعة متأخرة من الليل، تستجدي البشر قطعة نقود...
ثم تعرف أن المحتال قد أعاد المرأة العمياء خفية بعد أكثر من سنتين، إلى مدينتها حيث سوق «دوار العسكر»، ليتركها هناك بعد أن يأمرها بالاستمرار في الاستجداء حتى يعود إليها بالطعام... كعادتها تمتثل المرأة لأوامر الرجل الذي قرر التخلص منها إلى الأبد، ليعود شمالاً صوب أمواله التي جمعتها له العينان المطفأتان ودموعهما المصحوبة بالتوسلات... تدخل المرأة حاملة جوعها إلى السوق دون أن تعرف أين هي... تستجدي المارة بصوتٍ متعبٍ، وما هي إلا خطوات قليلة حتى صارت قبالة زوجها بائع البهارات الذي شهق مفزوعاً وهو ينظر صوب حفرتي عينيها ليهرع صوبها بعد نوبة ذهول هزّت كيانه الهزيل... احتضنها محاولاً إخفاء ملامحها عن من في السوق درءاً للفضيحة، ليعيدها إلى خرابته سريعاً ويستفسر منها بصوت لا ينقصه الفزع والذهول عن سبب غيبتها... هناك حيث الخوف وارتعاشة الجسد، كانت المرأة تعيش دوامة عدم التصديق، وكانت تحاول بشرود واضح لملمة ذهنها المشتت لتعي حقيقة الموقف، ولكن ما أن تشعر بجدية الوضع الكارثي الذي صارت عليه حتى تشرع بسرد حيثيات قصة غيابها بكل صدق، دون أن تفارقها دموعها... حينها تتلمس مخيلتك جمالية الحدث الدرامي الهائل الذي سيمنح مشاهد روايتك إيقاعاً هائلاً من الدراما الروائية المؤثرة.
لكنك حين تعرف أن المرأة العمياء قد ماتت منتحرة بعد أن سكبتْ قنينة نفط على جسدها واقتربت من الموقد الوحيد المنتصب في إحدى زوايا الغرفة الوحيدة للدار، لتلتهم النيران جسدها المتعب الذي كانت معجبة بتفاصيله وهي تراه بأصابعها...
حينها ستهرب خوفاً من أن تلتهمك نيران النص الكارثي الغارق بالمأساة تاركاً مشروع روايتك إلى الجحيم، كونها ستكون مملة غارقة بالمأساة لا أمل فيها غير البؤس والحرمان وغرائبية حياة لم تفهم منها غير اللوعة والألم، رواية ينقصها فسحة استرخاء يكون القارئ بأمس الحاجة إليها...
ذلك ما كان يدور بذهن الشاب الذي طالما حلم ومنذ أعوام، بكتابة روايته الأولى، حيث راحت مخيلته تنسج أحداث رواية وهو ينظر بإمعان صوب بائع البهارات المبتسم على الدوام، والمنتصب بقامته الممشوقة وسط سوق «دوار العسكر» بمراكش.
* العراق/ كوبنهاغن