بدأ نهاري على نحو سيّئ تماماً، حينما لمست بكوعي، عن غير قصد، التمثال الصغير المصنوع من الخزف لرجل كسوة الغوص، فسقط من على حافة الخزانة الخشبيّة صوب الأرضيّة الرخاميّة للشقّة، لتنكسر ساقه اليمنى للتوّ.حملت التمثال المقصوم مع ساقه الناقصة، ثمّ وضعتهما بكياسة فوق طاولة الطعام في وسط الصالون. وبعدها مباشرة، خرجت لا ألوي على شيء أو غاية معينين، آملاً أن تبارحني، بعد عدّة جادات وشوارع، أحاسيس الضجر واللاجدوى القاتمة.
وجدتني بمحض صدفة التسكّع العمياء أمام الباب الدوّار لأحد المراكز التجاريّة الضخمة، المسمّى «مروكو مول»، الذي تمّ إنشاؤه حديثاً في مستهلّ العقد الثاني من الألفيّة الثالثة. فدلفت إلى الداخل، ثمّ صعدت عبر السلالم الكهربائيّة إلى الطابق الأوّل العلوي، كي أباشر جولتي بتفقّد الواجهات الزجاجيّة للمحال، التي لاح لي أنها كانت تعرض آخر صيحات الملابس والأجهزة من الماركات العالميّة.
حينها استرعى انتباهي التناقض الحادّ الموجود بين حداثة المنشآت العمرانيّة وعتاقة ملابس الجائلين، التي كانت تعود تحديداً إلى فترة السبعينيات من القرن الفائت.
بكلّ صدق، حرت في أمر ما يدور حولي، فكان أن استوقفت أحدهم، انتقيته هكذا بمحض الصدفة الخالصة، له شعر طويل مبعثر كَهِيپِّيٍّ، ويرتدي قميصاً هفهافاً مزوّقاً بالورود، وسروال جينز عريض الأطراف من نوع أقدام الأفيال، ثمّ بادرت بسؤاله عن طبيعة التنازع الزمنيّ المفارق والغريب الحاصل داخل ردهات هذا المركز التجاريّ.
فأخبرني الشاب الهِيپِّيُّ وهو يرسم على شفتيه ابتسامة ساخرة، وينفث دخان سيجارته المحشوّة، بأنني في حقيقة الأمر لست داخل مركز تجاريّ بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنّما داخل أحد استديوات الشركة المكوّنة من سبع طبقات، والشبيهة إلى حد بعيد بالمركز التجاري.
ثمّ أردف ناصحاً إيّاي بنبرة متعاطفة نوعاً ما:
— يا صاح، لعلّه من المستحسن دون تأخير أن تراجعهم في الإدارة العليا العامّة الموجودة بعد الطابق السابع، إذ من الواضح أنهم إمّا أخطأوا في إرسالك إلى الحقبة الزمنيّة المناسبة، أو أنك أنت من تسلّل عن غير دراية إلى حقبة أخرى تختلف عن تلك التي اخترتها في استمارة الاشتراك الأوليّة.
لم أفهم قصده من كلّ هذا الكلام المبهم والمشوش للذهن، لكني تفطّنت مباشرة بعد انصرافه بخطوات مترنحة متبخترة، كمهرّج بلا سيرك أحسّ فجأة أنه أفضل حالاً وأكثر نباهة من مهرّج آخر، إلى وجود العشرات من الملصقات الدعائيّة المعلّقة على الجدران، التي تتحدّث بإسهاب عن شركة كونية عابرة للقارات، خاصّة بالإبحار أو السفر داخل الزمن، مع إمكانات وامتيازات لا محدودة للزبناء المستفيدين باستضافة أنفسهم جسدياً داخل الفترة الزمنيّة الافتراضيّة المختارة من قبلهم.
عقب هذا، داهمني شعور مقلق بأنني في قلب مشهد سينمائيّ مفبرك تسرّب عن طريق الخطأ إلى مونتاج فيلم آخر، أو بالأحرى بأنني ضحيّة مخرج شرير وأفقيّ النوايا أقدم على كتابة سيناريو حياتي بطريقة خبيثة وعموديّة جداً، كي يوقعني في فخ زمنيّ مربك يصعب عليّ الخروج منه دون أضرار جسيمة.
فيمّمت ساهماً، مثل مدعو أحمق ارتكب خطيئة حضور حفلة تنكّريّة من دون قناع، بواسطة السلالم الكهربائيّة النازلة تحت الأرض، شطر الطابق السفليّ للمركز، وذلك بغرض تناول شيء ما بإمكانه أن يسدّ رمقي، ويسكت كلاب بطني النابحة.
وبينما أنا جالس على إحدى الطاولات الخاصّة بالأكل، لمحت وجوهاً متعاقبة لأشخاص من معارفي، وعائلتي، وأصدقائي، بل وحتّى بعض أعدائي، ممن قضوا نحبهم منذ فترات قصيرة أو بعيدة، كما أبصرت رجلاً وامرأة في مقتبل العمر كانا يرنوان إليّ بفرح وحنان غامرين، وهما يتوشوشان فينة، أو يدندنان فينة ثانية بكلمات إحدى أغنيات مجموعة «ناس الغيوان» المنبعثة من مسجّل المطعم ذي المجهار القويّ.
أدركت بعد هنيهات بسيطة أنّ كلاً من الرجل والمرأة هما في الحقيقة والداي قبل أن يرزقا بي.
أبي عندما كان نحيف البنية، وأمي لمّا كانت حاملاً بي في أواخر شهرها التاسع، تعييناً غداة الثاني عشر من شهر أغسطس من سنة 1976، أي بالضبط يوم مولدي، مثلما قرأت على اليوميّة الورقيّة المثبّتة على الجدار المقابل لطاولتي.
قبل مغادرتي، بعد أن دفعت ثمن وجبتي للنادل، الشبيهة ملامحه بذاك الهِيپِّيِّ الذي قابلته سابقاً، سوى أن عمره أصبح متقدماً بحوالى ثلاثة عقود تقريباً، نزعت خلسة الورقة من اليوميّة الحاملة لتاريخ حلولي في هذا العالم الرديء.
دسستها في جيب معطفي الأيسر، ثمّ مضيت مسرعاً بخطى متعجّلة إلى أعلى المركز التجاريّ، أتفحّص بعينين مشدوهتين الديكورات الكرتونيّة المحيطة بي، ومصابيح الإضاءة التي كان يلفحني وهجها المشعّ من السقوف.
أمعن إليها النظر، دون أن تفارق رأسي سلسلة هواجس ملحّة على شكل أسئلة متردّدة تنثال بداخلي كالحصوات الملساء:
— وماذا لو كان مجرّد مركز تجاريّ اخترعته أنا بخيالاتي، كي يرشدني إلى نقطة تقاطع مكتوبة منذ الأزل مع أحد تصاريف القدر الموجودة في كون مواز يمضي فيه الزمن بشكل عكسيّ إلى الخلف؟
أم تراني كنت في واقع الأمر مجنوناً يختلق قصصاً مزيّفة عن نفسه، غير أن لي القدرة على التكتّم على مرضي والتظاهر أمام الجميع برجاحة العقل؟!
فلحظتها، خفت كثيراً أن أصير رهينة محتملة لهذه المشاهد المستنسخة بحذافيرها من مشاهد سابقة في معيشي الاعتيادي.
ارتعبت جداً من فكرة أن أغدو فجأة في مواجهة نفسي. وجهاً لوجه مع امرئ صارم ليس بمقدوري الكذب عليه أو الهروب من بين براثنه القاسيّة. قبالة كائن مستحوذ مطابق لي يستأثر بحياتي بأكملها من الألف إلى الياء، بذكرياتها ونسياناتها، بعواطفها وحركاتها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، بحقائقها وادعاءاتها، وبأحلامها وكوابيسها.
ياه، فكم هو مرعب أن يمتلك كلّ واحد منا نسخة بديلة من نفسه، «سيمولاكر» طبق الأصل منه، وفوق هذا له قدرة خارقة على الانبعاث في مجرى حياته بتواريخ مغايرة، ماضياً أو مستقبلاً، أو حتّى في حيوات موازية.
لم أعد أعرف في تلك الأثناء من أكون بالضبط، لم أهتد إلى ذاتي بالمطلق، كما لم أتذكّر متى ولا أين تعاقدت مع هذه الشركة الغامضة الخدمات على القيام بهذه الرحلة الارتداديّة في الزمن الفيزيائيّ، وعلى الدخول بشكل إراديّ إلى هذه الفقاعة المفصولة عن الأبديّة.
صرت في برهة مجرّد شخصيّة تائهة، ومن دون أدنى دور فعليّ يذكر داخل عالم حكائيّ معقّد وبالغ التجريد. فمرقت عبر الباب الدوّار للمركز التجاريّ، ثمّ عدت بحسب ما افترضت إلى النسخة الأولى من حياتي الواقعيّة.
وبمجرّد أن دخلت إلى رحاب الشقّة مساءً، ألصقت بالغراء الساق اليمنى لتمثال رجل كسوة الغوص، ثمّ وضعته في مكانه الأصليّ على حافة الخزانة الخشبيّة.
وقبل أن أنام، أخرجت من جيب معطفي ورقة اليوميّة المبتورة لأتطلّع إليها، بيد أنها كانت مجرّد صفحة بيضاء ناصعة!
* كازابلانكا/ المغرب