ترجمة: بثينة الزغلامي
كان الليل. كنا نسمع حفيف أوراق الشجر بعد المطر. الريح جعلت أغصان التنوب تدور بالقرب من حديقة المدينة الصغيرة حيث كنت أسكن. كانت الأنوار في المبنى المقابل قد انطفأت كما لو كانت في انسجام تام. صمت عميق تَسَيَّدَ الظلمة. مر القطار تحت الجادة كالمعتاد على فترات منتظمة بين المباني الحجرية، لكن وتيرته تباطأت إلى حدّ ما. لم يكن هناك سوى القليل من السيارات. يبدو أن إشارات المرور تتجه بلا داعٍ من الأخضر إلى الأصفر إلى الأحمر. كانت ألوانها لا تزال تنعكس بنفس المعدل على الإسفلت الرطب.

كنت وحدي تحت ضوء مصباحي. كَكُلِّ الليالي. كنت في مواجهة الكلمات. كنت أغترفها من الأعماق الأكبر بعداً من ذاكرتي كأنما من قعر بئر. أحولها إلى حقيقة ملموسة، بعد الحرص على فرزها، ومداعبتها، وشمها واحدة تلو الأخرى، واختيار بعضها من بين الأكثر نضجاً من أجل صَفِّها على الصفحة.
لقد جسّدت الرحلاتِ التي قمت بها، والمدنَ التي زرتها، والمناظرَ الطبيعية، وكذلك النساء اللواتي أحببتهن. كانت ترمز إلى الآلام والأفراح، ولكن أكثر إلى هذا الحنين الذي كان لي والذي أغرقته في الكتابة.
فجأة، رن جرس الباب. لم أكن أتوقع أحداً. كنت متفاجِئاً بالطبع، لكنني لم أكن خائفاً. منذ فترة طويلة، تغلبت على جميع أنواع الخوف، بما في ذلك الخوف من الموت. اختزلت حياتي ككاتب قديم في دائرة مقيدة من الأصدقاء، كنت أقلل من عددهم المحدود كل يوم، وفي نداء الكلمات التي كنت أنثرها كل ليلة على الورق، تحت وهج مصباحي.

جورج رُوشْغرُوس ـ «غرفة الكتابة في بيت فلوبير» (مائية، 1874).

أعترف أنني كنت بطيئاً في فتح الباب. من عساه يكون؟ بعد وضع السلسلة، أدرت مقبض الباب ببطء. نظرت إلى الخارج من خلال ثقب الباب. لم يكن هناك أحد! كان باب الشقة عبر الشارع مغلقاً، وكذلك باب المصعد. فجأة، لاحظت حزمة ملقاة على ممسحة. تراجعت وحاولت قراءة ما هو مكتوب عليها. لكن لم يكن هناك طابع أو اسم أو حتى عنوان المرسل. اعتقدت أنه يمكن أن يكون طرداً مفخخاً. لكن الأيام التي قُتل فيها المعارضون بهذا الشكل قد ولت منذ زمن طويل.
أخذت الطرد. كان خفيفاً جداً. وضعته على طاولة القهوة في غرفة الأكل وحدقت فيه لحظة طويلة. ماذا لو كان بداخله رأسٌ مقطوع؟ لحسن الحظ، فإن معظم أولئك الذين كانوا أعزاء لي لم يعودوا من هذا العالم. أقاربي رحلوا الواحد تلو الآخر، تاركينني وحدي في عالم الكلمات. لم أعد محاطاً بمن أحببتهم. في المقابل كنت محاطاً، بمنافسي بصورة أكثر دقة. اعتقدت أن الرأس المقطوع قد يكون لأحدهم. لقد طمأنني ذلك قليلاً، لكنه لم يجعلني أرتاح!
قلت في نفسي إنّ قصة الرأس المقطوع هذه لا بد من أنها جاءت من الحكايات الملحمية التي قرأتها بتفانٍ في طفولتي. لم يكن الحكام يقتنعون بوفاة خصومهم ما لم يتسلموا رؤوسهم مقطوعة.
باختصار! لن أعيقك أكثر من خلال استغلال وقتك الثمين. فتحت طرد البريد. كان هناك مصباح غاز في الداخل. قرأت بدهشة عبارة «مصباح علاء الدين» على الغلاف. أراد شخص ما بالتأكيد أن يسخر مني أو أنّ أحد القراء المتحمسين، الذي كان يعرف اهتمامي بالمصابيح، أراد أن يفاجئني.
ذهبت إلى مكتبي لإطفاء المصباح وإضاءة فتيل «مصباح علاء الدين». لقد ظهر جنيّ. كما في «ألف ليلة وليلة». لكنه لم يقُل العبارة الشهيرة: «سيد، اسألني ماذا تريد!».
استقر على الكرسي المقابل لي ولم يعقد رجليه. لم تكن له رجلان على الرغم من أنه يبدو كإنسان برأسه أصلع، وعينان خضراوان جاحظتان، وجبهة عريضة مجعدة، وفم وأنف، إلا أنه لم يكن لديه أطراف سفلية. كان مجرد رأس مستدير كبير. ولأنه أتى من كوكب آخر، فقد كان كله أزرق.
— حسناً. لكن ماذا أتيت تفعل هنا؟ لماذا أنت هنا؟
— جئت لأصيبك!
— تصيبني؟
— نعم، هذا هو الصحيح. اسمي كورونا. أنا فيروس قاتل، لست سيئاً من نوعي.
— هل أنت من الفضاء؟ سألته بصراحة.
لم يجِبني على الفور. بعدما شاهدني فترة، قال بصوت معدني:
— لا، كما رأيت، أنا أخرج من هذا المصباح.
— حسناً، لكن هل عشت دائماً في الداخل؟
— بالطبع لا. قبل ذلك، كنت في الصين. ومن هناك إلى اليابان وكوريا الجنوبية، ثم تفرعت إلى إيران. من دون التأخر في الأمر كثيراً، وصلت إلى أوروبا. حتى إنني وثبت هناك. نعم، هو ذاك. مثل السنجاب، قفزت فوق بلدان أوروبا حيث أمكنني التقاط أنفاسي. والآن، ها أنا أمامك! إذا قلت إنني في خدمتك، فسيكون ذلك أكثر إنصافاً.
— تشرّفنا. من ناحيتي، لست كاتباً سيئاً في نوعي الأدبي أيضاً. حتى إنني أقول إن كتبي أحياناً لها تأثير قاتل على القراء! بعض النقاد يقولون ذلك على الأقل.
— الكتب، يمكن أن تكون معدية، نعم. إنها تنتشر مثلي، من إنسان إلى إنسان، شِفَاهاً، من خلال كائنات غريبة تسمى القراء. ليس من قبيل المصادفة أن يحظر القادة السياسيون الكتب التي تزعجهم. وحتى لو لم تكن تهدد الصحة العامة بشكل مباشر، فمن المسلّم به أن الكتب لديها القدرة على تضليل الناس. أعتقد أنه من المعقول في بعض الأحيان منع بعضها.
منذ زمن بعيد، تم حظر بعض كتبي واضطررت للذهاب إلى المحكمة. لكن اليوم، لن ينتصب واقفاً أمامي مدّع أو قاض.
— أنا أقف أمامك اليوم! يكفي أن تلامس رأسي يدك وأن يمسح نظري جسدك حتى أتغلغل في دمك وسرعان ما ستصاب بالحمى، ستبدأ في السعال. وأخيراً، لن تكون قادراً على التنفس.
إنه يحاول إخافتي، رغم أنه لا يبدو عدوانياً.
على أي حال، لقد رأيت ما هو أسوأ. قلت له:
— استمع إلي، هل تعرف كم عدد المحاكمات التي تغلبت عليها في حياتي؟ لا شيء يمكن أن يحدث لي. كُتّاباً أو مواطنِينَ عاديين، في نظري لا يوجد فرق. أنا أُحَيِّي المعلم وقارئه بنفس القوة. تماماً مثل الإمبراطور وتابعه. كما أنني أحياناً أجعل القراء يميلون إلى الخلف، إنهم لا يتخطّون الأمر لفترة طويلة. لكن بعد الصدمة ينصفونني.
— لا تقلق، أنا أيضاً سآتي إلى نهايتك، وأنصفك!
اِسْتَوَى فجأة، ثم ألصق فمه بفمي. لقد قبلني بعمق. سأكون كاذباً إذا قلت إنني لم أستمتع بذلك. شعرت أن الفيروس يشق طريقه إلى أعماق جسدي، وبينما كان ينتشر عبر عروقي، علمت أنه لن يقتلني. كان سيتحول إلى بطل الكتاب الذي كنت أكتبه.
أطفأت فتيل مصباح علاء الدين وأشعلت مصباح مكتبي. كتبت عنوان القصة القصيرة ثم بقية القصة. عندما ركزت على الجملة الأخيرة، كان قد مضى منتصف الليل. رن جرس الباب مجدداً، لكنني لم أفتحه هذه المرة.

(*) المصدر: صحيفة Le temps السويسرية، عدد 25.04.2020.
(**) نديم غورسيل (1951): كاتب تركي مقيم في باريس. كانت أطروحته للدكتوراه في «السوربون» دراسة مقارنة بين أراغون وناظم حكمت. بعد انقلاب 1980، منعته السلطات التركية من الدخول إلى البلاد. يدرِّسُ حالياً في «معهد الدراسات واللغات الشرقية» في باريس. أصدر أكثر من مجموعة قصصية ورواية، ودراسة موسوعية مهمة عن النبي محمد في الآداب العالمية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا