وجد الرجل المربَّع السمين نفسه عارياً في غرفةٍ واسعةٍ عاريةِ الجدران. عندما أفاق، وجد نفسه يرقد على فراشٍ رقيقٍ مبسوطٍ على الأرض، من دون غطاء، وليس من مخدَّة تحت رأسه.رقبته تؤلمه. لواها مرَّاتٍ، ذات اليمين والشِّمال، وبقيت تؤلمه. هل كان نائماً أو مخدَّراً؟ لا يدري. كلُّ مايعرفه أنَّه، الاَن، يرقد في غرفةٍ يأتيها ضوء الشمس من نافذةٍ صغيرة تقع في أعلى الجدار السميك المواجه له. جلس. تلفَّت في كلّ ناحٍ. فرك عينيه. لا شيء في الغرفة سوى لوحٍ خشبيٍّ مستطيل يقع أمام فراشه. نهض. خطا نحوه. رفعه. اتَّسعت عيناه وفُتحتا أنفه وشدقه الكبير، ولهث: لا... قبر! وصاح: عارٍ أمام قبر!؟ لمَ، يا ناس!؟ من فعل بي هذا؟ وسكت ولم يقل: وأنا من كان يفعل ويفعل يُفعل بي هذا!؟
جلس يعصر رأسه بين كفَّيه، ويحاول أن يتذكَّر.
البنت الطويلة الرشيقة، ذات الغمَّازة الضاحكة في ذقنها هي التي أوقعتني في هذه المَصيدة...!؟ لاحقها طويلاً، ووافقت بعد دلال كاد يُفقده صبره، وافقت على أن تلتقيه في منزل الغابة الكثيفة، منزل اختارته هي لأنَّه بعيدٌ بعيد ورومنسيٌّ جميل. قالت: أترك لك الباب مفتوحاً. تدخل، وتجدني في انتظارك. دخل. وجدها في انتظاره في غرفة الاستقبال. وجهها مشرق بابتسامة مثل شمس الصباح. قالت: احلق لحيتك وشاربيك وتطيَّب، واستحم في هذا الحمام، وأنا أستحمُّ في الحمام الثاني. ضع هاتفك وثيابك وحقيبتك على هذا المقعد. عندما تنتهي ادخل غرفة النوم هذه. واشرب عصيراً لذيذاً ومقوِّياً أعددته لك، صرتَ كهلاً، ولا تزال متصابياً... أنهكك الطمع والولع ... وضحكت... ما أحلى ضحكتك! قلت لها. قالت: انتظرني... فرح. وتمتم لنفسه: تبدو خبيرة، وستُبسطني. فعل ما طلبته منه، وأفاق، وهو في هذه الحال...
هرع يفتِّش عن هاتفه وحقيبته وثيابه في غرفة الاستقبال. لم يجد شيئاً ممَّا يبحث عنه. صار يضرب رأسه بكفَّيه، وهو يتنقَّل في الغرفة، ويقول: ضاع كلُّ شيء، وضعت أنا، وماذا أساوي أنا إذا ضاع ما ضاع: أسراري، صوري، دفاتر شيكاتي، عقودي!؟
عاد إلى غرفة النوم، شعر بقرصات البرد. وقف قرب القبر، وهمَّ بأن ينزل إليه، ولم يفعل. صرخ: لا. لن أموت. يريدون أن أموت. لا. لن أموت، ولمن أترك الثروة إذا متُّ. وسأل نفسه: من يريدني أن أموت؟ وبدت أمامه صوره.. زوجته تصرخ به: أريد أن أسافر وأتسوَّق، وأتمتَّع بالثروة. أريد سيارة جديدة. فيلا جديدة في بلاد جديدة. ابنه يريد. ابنته تريد، وابنته الأخرى تريد... جميعهم يصرخون: نريد، نريد، لمن تجمع الأموال؟ هو لا يبخل عليهم، لكن ماذا يقول الناس عندما يرون هذا التبذير!؟ هو ينكر أنَّه من الطبقة الفاسدة التي أوصلت البلد إلى هذا الانهيار، والتي يطالبها الفقراء بردِّ أموالهم. هذه أمواله هو، والفقراء من أين لهم الأموال!؟
هم، زوجته وأولاده والصارخون في الساحات، يريدون... هل هم الذين قادوه إلى هذه المَصيدة، ليستولوا على الثروة التي عمل وعمل من أجل جمعها؟ لا يريد أن يتذكَّر ما عمل، وهو عارٍ أمام هذا القبر، وفُتحت هوَّةٌ في صدره أوسع وأعمق من هذا القبر الضيِّق، وتمتم: ثروتي، ولم يدرِ ما يقول بعد ذلك. وعادت الصُّور. صور شركائه وزملائه، جميعهم كانوا يحسدونه، ويتمنَّون له الضياع، هل هم من دبَّر له هذه المصيدة، وأوقعه فيها!؟ كان «أشطر» منهم في عقد الصفقات، و«أَخْذ» التعهدات، ودفع الرشوات، وتدبيج الشيكات، و«صيد البنات الحلوات»... اَه ما أحلى الصيدات، في كلِّ المجالات! قال لنفسه: ما هذا الشعر المقفَّى؟ هل صرتَ شاعراً، وأنتَ في هذه الحال؟ وما حاجتك للشعر، وكان كثير ممَّن كنت تسمِّيهم الأبواق يقفون على بابك، ويشيدون بجنابك، ويعلون من أعتابك، وتعطيهم رزقهم المعلوم من نثر أموالك، ماذا يقولون، الاَن، إذا علموا بحالك!؟
قفز ، وصرخ: لا ... لا... لن أستكين كالمسكين ... كنَّا نسخر منهم أولئك المساكين الساكتين المستكينين الصابرين الذين نفعل بهم ما نفعل، ولا يغيِّرون ولاءهم لنا، هل هم أوفياء أو أغبياء أو أذلَّاء، لا أدري، ولمَ يمحضوننا الولاء، ونحن الأشقياء!؟ عدت إلى الشعر، وأنت أمام القبر... ما كنت أعرف أنَّ لديَّ هذه الموهبة، لا، تذكَّرت، وأنا فتى كنت أكتب على دفتري ما صرت في ما بعد أسخر منه. كنت ناقماً على الطبقة الحاكمة، وأسمِّيها الفاسدة، وها هم يسمُّوننا، الاَن، الطبقة الفاسدة، ويصرخون، ويتظاهرون، ولكن لا يفعلون. هم مِنَ الذين يقولون ولا يفعلون، كما يقول المشايخ في مواعظهم. المشايخ!؟ هل أنا بحاجة لشيخ، الاَن، وأنا أمام هذا القبر، ليعلِّمني ماذا أقول لنكير وأنكر!؟ لهما اسم اَخر. نسيته. لا يهمُّ الاسم. المهمُّ الفعل. ماذا سيفعلان بي؟ وهل يصدِّق هذان النكيران ما سيحفِّظني إيَّاه الشيخ الذي كنت أتبرَّع لمشاريعه أحياناً، وأقصد أن أُسكته؟ وما يهمُّني وأنا «أنْكَرُ» منهما؟ سمَّاني الناس المربَّع السمين، وأنا من دانت الدنيا له، والاَخرة لا تعنيه...لا. كانت لا تعنيه، وهي الاَن أمامه، كيف أفرُّ منها؟ أنا.. أنا... هل نسيت من أنا!؟
قفز كالهرِّ الذي رأى فأراً سميناً يتثاقل في مشيته. ومشى بخطواتٍ سريعة.
جال في البيت. الأبواب حديديَّة مقفلة. النوافذ حديديَّة مقفلة. البيت بدأ يُظلم. البرد يشتدُّ. معدته تقرصها لسعات البرد. لم يعد يحتمل. هرع إلى غرفة النوم. لفَّ جسمه بالفراش الرقيق. ونزل إلى القبر. ولم يتمدَّد. كوَّم نفسه في زاوية، وقال في نفسه: من يأتي أوَّلاً «النَّكيران»، أو من وضعني في هذه المَصيدة؟ من اصطادني لا بدَّ من أن يأتي... إنَّه يريد منِّي شيئاً، وسيأتي ليأخذه، وما عليَّ إلّا أن أنتظره، وأفعل مثلما يفعل أولئك المساكين المستكينين...
المهمُّ ألَّا أبقى في هذا القبر عارياً، ويستفرد بي النَّكيران. وانتصبت أمامه كلَّابة فاتحة شدقها، وصوَّتت، صوتها غريب منكر، يخرق الصمت، ويسأله: كيف يبقى الناس في القبر، يا مربَّع، يا سمين!؟ أجاب، من دون أن يدري: وهل أنا من الناس!؟
قال الصوت: دائماً كنت تنهبهم، وتنفر منهم. قهقهت الكلَّابة، واختفت، وتمتم هو: ليأت من يأتي... المهمُّ أن يأتي، وصفع جبهته بكفِّه بكلِّ ما بقي لديه من قوَّة، وقال بصوتٍ عالٍ: اَه، نسيت الدولة والقانون... ليتهما يأتيان، ليتهما يأتيان، ولكن هل يأتيان في هذا الزمان!؟

* من مجموعة قصص قصيرة بعنوان «جذور فوق التُّراب» ستصدر قريباً
** لبنان

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا