ترجمة: جوان تتر
مفردةٌ واحدة تلك التي غيَّرت حياته، تلك الكلمة كانت آوسلاندر (***)
ما أن حطَّت به الرحال في ألمانيا، حتى بدأ يتعلم الألمانية. لم يكن يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، لذا لم يلقَ صعوبة كبيرة في مصاحبة امرأة تناسبه. هذه المرأة لم تكُ سوى يوليا، الطالبة في قسم علم الاجتماع. كانت مستاءةً من طريقة تعامل والدتها مع أبيها العاجز المريض. تود الاعتناء لوحدها بوالدها الرقيق المشاعر وعدم الاعتماد على والدتها الصخرية القلب، هكذا كانت تنعت والدتها.

سوى أن اقتحام آوسلاندر بيك حياة العائلة قلب الأمور رأساً على عَقِب وخلط كل الأوراق. فمن جهةٍ طال انتظاره لقبول طلب اللجوء الذي تقدم به منذ زمنٍ، ومن جهةٍ أخرى لم يكُ لديه حق العمل أو حق التنقل الحر من مكانٍ إلى آخر، فقوانين اللجوء لا تبيح له الذهاب أبعد من ثلاثين كيلومتراً دونما حصولٍ على ترخيص رسمي من السلطات المعنيَّة بأمور اللاجئين. والأنكى من كل ذلك هي العاصفة التي أثارتها علاقته مع يوليا والصعوبات التي بات في مواجهتها بعد تعمق تلك العلاقة. فقد رافق يوليا مرة واحدة فحسب لدى زيارة أهلها دون أن تكرر المحاولة. ازداد توجس آوسلاندر بيك من سلوك يوليا تجاهه وبدأ السؤال ذاته يقض مضجعه: — لمَ تتهرب يوليا من أخذي معها إلى بيت أهلها يا ترى؟
في تلك الزيارة اليتيمة، رحّب به والد يوليا المُقعد بابتسامةٍ مهذبة، على النقيض من والدتها التي ظلت صامتة وعابسة الوجه طوال المكوث. بعد مغادرته المنزل، حاولت يوليا تبرير البرود المزمن الذي غطى على استقبال والدتها له:
— لم يحالفك الحظ اليوم، فعدا عن مرض والدي، كانت والدتي أيضاً معتلَّة ولم تقُم بواجب الترحيب بك كما يجب أن يكون الأمر.
رغم تأكده من إخفاء يوليا بعض الأشياء عنه، بيد أنه لم يلتفت إلى عمق الأزمة التي خلقتها علاقته معها إلا مؤخراً. حيث باشرت البحث عن سكن جديد لها، دون أن يكون بمقدورها التخلي عن والدها في ذلك الوضع المزري. وقد وضعت والدتها أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تتخلى عن ذلك الـ«آوسلاندر» المُشعر الجسم أو أن تترك السكن معها في نفس المنزل. وصارحته يوليا بالموضوع بعد تلكؤ:
— مُذ بدأت علاقتي معك وأمي تعيش حالة استنفارٍ قصوى إلى أبعد حدّ. لا تتحمل أن تكون لابنتها علاقة مع آوسلاندر. وقد خيرتني بينهم وبينك!
سالت دموع الحزن والغضب من عيني يوليا المدهشتين وهي تضع الحقائق عارية أمام آوسلاندر بيك وتبسطها على الطاولة:
— لأني أعرف والدتي القاسية حق المعرفة، لذا لا يمكنني ترك والدي وحيداً تحت رحمتها.
أصاخ آوسلاندر بيك السمع إلى يوليا بانتباه شديد. يمسح دموعها برؤوس أصابعه تارة، ويهز رأسه ويهمهم مفكّراً بعمق في ما تقول، تارة أخرى. كان عليه أن يصعد القطار ذلك اليوم مسافراً إلى حيث معسكر اللجوء المترامي على أطراف بلدة صغيرة، بغية إثبات حضوره الإجباري مرةً كل شهر على الأقل.

بيدرو لويس كويلر ـــ «اللاجئ» (فولاذ ملحم ــ 12 × 11 × 40 سنتم ـــ 2018)

في درب الذهاب، راقب خلسةً عيون المسافرين، بحثاً عن حقد شبيه بالحقد الذي كان يلمع في عيني والدة يوليا الصارمتين. كان يبحث عن حب ما، أو ربما عن تعاطف يحتاجه كل إنسان في الغربة.
في معسكر اللجوء، وقَّع بسرعة، كما يفعل كل شهر، على أوراق لا يعرف الكثير عن مضمونها، عائداً إلى المحطة، صاعداً قطار العودة. جال بعينه بحثاً عن كرسي فارغ ليجلس وحيداً ويغرق، في ما بعد، في أحلام اليقظة المتزاحمة على مخيلته المشتعلة. أيقظه صوت امرأة، داعية زوجها إلى الجلوس في المقعدين الخاليين إلى جانبه. كان صوت المرأة مرتفعاً جداً وهي تخاطب كنزها الذي كان يتعقبها ببطء:
— تعال «كنزي»، يوجد هنا مكان للجلوس.
راقب آوسلاندر بيك المشهد كله بعينين خاملتين فيهما الكثير من اللامبالاة. تقدَّم الزوج السمين المتراخي باتجاه زوجته، نظر إلى المقعدين الخاليين بجانب آوسلاندر بيك. قلّب شفتيه امتعاضاً مُصدراً صوتاً يماثلُ صوت من يتقيأ:
— واااع... آوسلاندر!
أمسك الرجل يد زوجته ساحباً إيَّاها خلفه مبتعداً عن مكان جلوس آوسلاندر بيك مُتمتِماً في سخَط:
— ألم تجدي مكاناً أفضل من هذا المكان الذي يجلس فيه هذا الـ آوسلاندر؟!
كان وقع كلمات الرجل الأخيرة عليه، شبيهاً بطلقات قاتلة مصوَّبَة نحو جثة قديمة. إلا أنها مع ذلك دفعته إلى اتخاذ قرارٍ لا رجوع عنه، قرار كان أوله وآخره سؤال طالما راود مخيلته:
— ماذا أفعل في بلاد لا تتقبلني؟ بلادٌ لا توافق سلطاتها الرسمية على إقامتي فيها، والدة المرأة الوحيدة التي أحبها لا تريد رؤيتي في بيتها، ورجل لا يعرفني ولا يعرف شيئاً عن الصدفة التي رمتني إلى بلاده، لا يود الجلوس إلى جانبي أو حتَّى النظر إلى وجهي الحزين عن قرب. أهذه بلاد أم جدرانٌ عالية؟
منذ ذلك اليوم الذي طرح فيه هذا السؤال الصعب، اختفت تماماً آثار آوسلاندر بيك عن تلك البلاد ولم يُعثر له على أثر.
كان لِيُولْيَا أمرٌ واحدٌ تستطيع فعله، هو السؤال عنه في مكان سكنه الرسمي ضمن معسكر اللجوء. أتى الجواب قاطعاً وواضحاً:
— لا يقيم في المعسكر ولا نعلم عن مكان وجوده الحالي شيئاً!
كانت يوليا الوحيدة في العالم التي أراد أن يتواصل معها. لكي لا تكتشف مكان وجوده، تجنّب الاتصال معها عبر الهاتف، واكتفى بالكتابة إليها عبر البريد الإلكتروني:
— اعذريني يوليا، لا أودُّ أن تديري ظهرك لوالدك المريض لأجلي. لأنك جميلة وصادقة في علاقاتك مع الآخرين، فإنني أتوقع أن يعود الهدوء قريباً لحياتك وأن تعود المياه إلى مجاريها بينك وبين أهلك. لا تُرهقي نفسك بالبحث عني، لأنني أكتب لك الآن من خارج ألمانيا.
عند الانتهاء من قراءة الرسالة، اجتاحت أعماقَ يوليا عاصفة حزنٍ وغضب. توجَّهت ساخطةً إلى والدتها التي بقيت باردة الأعصاب معلِّقةً على اختفاء آوسلاندر بيك المفاجئ:
— ما فعله عمل رائع من ناحيتين، الأولى أنه أنقص أعداد الآوسلاندر الموجودين في بلادنا وهذا جيد لنا، والأخرى أنه ربما يحصل في مكانه الجديد على حق الإقامة، ليعيش كالبكوات، وهذا جيد له.
في هذه الأثناء، كان آوسلاندر بيك في أحد سجون بريطانيا يضع رجلاً على أخرى، بانتظار قُدوم رجال الشرطة البريطانيين ليُصار تسليمه إلى رجال الشرطة في ألمانيا، موطن لجوئه الأول، حسب قوانين اللجوء المعمول بها أوروبياً.
في اليوم التالي، تسلّم رجال الشرطة المعنيون بشؤون معسكر اللجوء الذي كان يسكن فيه آوسلاندر بيك تبليغاً تضمَّن خبر استلام آوسلاندر بيك من الشرطة البريطانية وإرساله للتو إلى مكانه المعتاد في معسكر اللجوء، حيث كان يقيم ويجب أن يلتزم بالبقاء هناك.
■ ■ ■

والآن، بعد مرور سنتين على ذلك التبليغ، وحتى لحظات كتابة هذه الأسطر، لم يعد آوسلاندر بيك بعد إلى مكانه المعتاد ذاك.

(*) حليم يوسف: روائي وقاصّ كردي سوري، يعتبر من أبرز محدّثي الرواية الكرديَّة، يكتب باللغتين العربيَّة والكرديَّة، من أبرز رواياته: «حينَ تعطش الأسماك»، «نساء الطوابق العليا»، «سوبارتو»، «99 خرزة مُبعثرة».
(**) «آوسلاندر بيك»: عنوان المجموعة القصصية التي صدرت للكاتب بالكردية عن منشورات «ليس» في دياربكر، في نهاية عام 2011. وتحتوي المجموعة على ثلاثين قصة قصيرة يتمحور جميعها حول تجارب حياتية في الغربة، يعايشها آوسلاندر بيك، الشخصية الرئيسية والمشتركة بين جميع قصص المجموعة.
(***) آوسلاندر: كلمة ألمانية تطلق على الأجانب والغرباء في ألمانيا. ونظراً إلى كثرة تداول هذه الكلمة، فقد تسللت إلى جميع اللغات التي يتحدث بها الأجانب المقيمون في ألمانيا، كتسمية وصفة للشخص الأجنبي المقيم في ألمانيا.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا