1.«كلُّ هذه العواطف كثيراً ما تحوِّلُ القلبَ إلى غرفةٍ مهيأةٍ/ لاستيطان أي دكتاتورٍ أعزلٍ إلا من أوهامهِ»
كان هطلاً خفيفاً لذاك الصباح الحاني حين التقيتهُ ذاتَ ربيعٍ بعد غيابٍ قسري، حكمت به الأنواء العاصفة التي غربتنا، والأطيافُ المختبئةُ في زوايا نفوسٍ متشنجةٍ يرعبها وجودُ موسيقى بلا أدلجةٍ، أو اشتمامِ رحيقٍ لا يتكئُ على إجماع ولا توصيفٍ مسبقِ له.
كان يختبئُ في الذاكرةِ أمثولةً للجنون والانعتاق والهوس ِبكل لوحة خارجة عن المسموح والمألوف والمتاح، كان أغنيةً بشفافيةِ جدول ماءٍ في قريةٍ بعيدةٍ، جنيٌّ من الإنس قدماهُ راسختان في أرض خضراءَ ورأسهُ وسط الغمام، عيناهُ نجمتان موغلتانِ في النور، تلك الصورةُ التي احتاجتْ خمس عشرة من السنين كي تستعيدَ ملامحَها.
- هل يقيمُ هنا السيد ممدوح؟
- نعم إنهُ.. الواقف أمامكِ
– أنتَ. - نعم أنا، ولكن من أنتِ؟!
كان يلزمُني عمر من الذهولِ والتأمّل لكي أحتملَ مشهديةَ اللحظة، لهفةَ الانتظار؛ عبثَ الزمن؛ مخاتلة النظر؛ ليس بشكله شيء يشي بألوانهِ سوى الرمادي في فوديه ومقدمةِ رأسهِ، الرمادي الذي ضيعني وأضاع الحدود بين السوادِ والبياض، وخلط معنى الأشياء، الرمادي الذي كبَّلَ تاريخي، كيف يستطيع لونٌ أن يختزلَ صورةَ الأيام والسنين، كيف يتسنَّى له أن يفتحَ أعماقي للحياة، حين يخف ويشف ويقترب ويتناهى من البياض، لدرجة قد تعمى أو تتعامى عن رؤيةِ ما يخفيه الداكنُ منه، وكيف يستطيع أن يكثِّفَ مرارات العالمِ، عندما يداهمني الحالك منه، ذاكَ المشابهِ للظلام، إنما ليسَ تماماً، كيف تعرفهُ وكيف تكتشفهُ والحالمِ في الأعماق يرفض رؤية ما تكاثف منه.


يَانُّو ـــ «زَوْجٌ» (زيت على قماش ـــ 2015)

هي الألوانُ تعلن خبثها، حين تختزن المعنى ونقيضه في آن واحد، عندما تلعب بالمجاز والتأويل لتزيدَني حيرًة وضياعاً، أنا التي تربكني الوجوه المتعددة للأصلِ الواحد.
أدورُ ويدورُ حولي قوسُ قزح، يا لِصوته ماذا يفعل بي، هذا الفيضُ الطاغي من النشوة يسحبُني لفضاٍء يسبحُ في البياض، يتسارع الدوران فيه، مثلَ صوفي يرقصُ متعبداً لمعشوقه الأوحد، تتوالى الطيوف الدائرة لتغزلني غلالةً من حريٍر، تنسدلُ على أعطافِ الكون مهدهدًة قلقاً مزمناً بالقلبِ المسوّر بوجعٍ لمَّا يزلْ يطرق باباً صدئاً للنسيان، النسيان، ماله من سبيل إلي، كيفَ أنسى حلمي العابقِ برائحة الحنين، وأنا بمدار أيامي أحاول غضَّ الطرفِ عما يعكّرُ بياضه الآسر، نعمْ أتغاضى، ليبقى النغم شجياً في البالِ، أتغاضى عنْ الظروفِ والحقوقِ، عن الخطأ والصواب، لينسحبَ البساط من تحت رجلي تدريجياً، لأُلقى في الفراغِ، فراغ المعنى والمغنى.. مليكةُ الخساراتِ أنا..
وماذا بعد؟ ماذا بعد هذا الزمنِ الممتد؟ إلامَ يرنُ هذا الصوتُ في منامي ويقظتي، ويعيدني إلى فيافي بعيدةٍ من نعاسٍ شارفَ على برزخٍ من خيالات مضنية، يعذبني ذاكَ الأنين، لا أنساهُ ولا ألقاهُ ولا يعرف ما ألاقيه، اختناق في صدري ما شاءَ يمضي بي، بأسى يتلوَّى كأفعوانٍ أرقطَ اللونِ بطيء الانسلالِ بين الضلوع، أسايَّ الممحونِ أما من نهاية له.

2. حوار ثان
صديقُ الليالي أنتْ، عِمتَ مساءً.. ما زلت ساهراً؟
- أنتِ نجمتي.. نجمةُ الصبحِ، وقدْ أهلَّتْ أنواره.
- أنتَ لا نِظام لك، ليلكَ نهار ونهاركَ ليل.
- أنا لا أنام بأيِّ نظام، أنا ضدُ كلِّ الأنظمةِ عموماً هههههههههههه.
- كل ما تهتم به أن تبدو مختلفاً عمَّنْ حولكَ، ذلكَ دأبُكَ دائماً.
- أنتِ لا تصدقين أني مختلف، حقيقةً أشعرُ بقول المتنبي تماماً: «ما مقامي بأرض نخلةَ إلا/ كمقام المسيح بين اليهودِ/ أنا في أمّةٍ تداركها الله/ غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ» أضيفُ لك أيضاً: «أنا تِرْبُ الندى ورَبُّ القوافي/ وسِمامُ العِدى وغيظُ الحسودِ».
- يا سلام، أنا تروقني هذه النرجسية، رغم أنها تخيفني، ما يخيفني في هذه الحالة، أنها تسوقُ المرء إلى حالةٍ من الوحدة أو العزلة، رغم أني أراك ممتلئاً وبكثافة بمن حولك.. مما يثيُر السؤال والتساؤل!
- ماذا تقصدين بالكثافةِ؟ أنا وحيد أزلي فعلاً/ يُبعدُني طبعٌ عنِ الناسِ نافرٌ/ فأحسبُني بينَ الورى جالِساً وحدي. هو الشعر، كأنه نصٌّ يتخلَّقُ من نصٍ آخر، أُحسُ تماماً بنصٍ كُتِبَ منذُ عهود وكأنني روحٌ تتجولُ عبَر الزمن.
- ألا يقودُنا هذا إلى فكرةٍ هامة سبق أن تحدث عنها رولان بارت بما معناه عدم وجود نصٍّ أصيل بالمطلق.
- لا ليسَ بالمطلق هناك نصوصٌ أصيلة بلا شكْ، هناك القصيدة الأصلْ والقصيدة الظلْ، ما يرى العرب فيه أنه وقوعُ الحافرِ على الحافرِ في هذا السياق، وهذا ألا يفهم على أنه اقتناص أو ما اعتبروه سرقة أدبية، وطبعاً الاشتغال على الفكرة ومحاكاتها لا يلغي شاعرية قائلها، والمعنى موجود وكامن وجاءت اللغة لتعبر عنه وكبرت وتناسلت حتى صارت قضية بحد ذاتها.
- تلك حكايةٌ أخرى على صعيدِ الفكرة أما بالنسبة للمفرداتِ، دائماً، هنالكَ مبتكرون وهناك مقلدون وهناك من يشكُّون بإمكانية التجديد ويصرون على قوالب أزلية.
- وأنت ماذا تعتقدْ؟
- أنا مبدئي الشكُّ بكلِّ شيء، ما من شيٍء يقينيّ عندي، الشك مبدأ ديكارتي وهو صحيح ومفيد لكنَّ الفلسفة الحديثة تجاوزت هذا المفهوم إلى خياراتٍ أكثر خلقاً وتوليداً لمهاراتِ العقل، قالَ فوكو بالحفرِ في الظواهر واكتشافِ طبقات المعرفة، وقال من بعده دريدا وفلاسفة ما بعد الحداثة بالتفكيك والتفكيك مفهومٌ واسعٌ ومريب يقومُ على هدمِ منظومة العقل اللوغوس ومركزيتها المنطقية واعتباراتِ النص، والمقصود بالنص هنا كلُّ معرفة أتتَنا هي ريب، ومعرفة زائفة قامتْ على حسابِ معارف أخرى تمَّ تهميشها ومحوِها والحديثُ يطول.
- أعرفُ هذا الكلام ولكن عموماً نحن نصوغُ قناعاتنا حسبَ ما نراهُ مناسباً لظروِفنا وحياتنا لا وفق نظرياتِ الفلاسفة.
- هذا ما أقصدهُ وقولي بالشك، عدمْ اعتبارِ أيِّ قضية حقيقةً أزلية، ووضعها بميزانِ الخطأ والصواب بمعنى عدم اتخاذ أصنامٍ فكرية لعبادتها.
- وأنا كذلك لا أحبُ الاستناد إلى أصنامٍ في كلامي.
- حسناً لا خلاف إذن، وهذا من حيثُ المبدأ صحيح ومفهوم لكن هناك كمَّاً من المعارف تراكمَ واتخذناهُ حقائقَ بمعنى ما، تصميم الطاولة الذي نعرفهُ على أربع قوائم وسلَّمتْ البشرية بهذا النمط منَ المعرفة من قال إننا لم نكنْ قادرين على أشكالٍ أخرى لو تُرِكَ العقلُ البشري يعملُ ويبتكرُ تصورات مختلفة عن المسْألة.
- لا أعني بكلامي تجاهل المعرفة ومسلَّماتها أو تجاهلِ تاريخِ العلم بلْ هضمها تماماً لابتداعِ أنماطٍ أخرى.
- أنتِ تقتربين مما أقول، دعيني أضربُ مثالاً آخر، وطولي بالك علي شوي، مثلاً أُريدُ أن أكتبَ رسالة أقولُ فيها بما معناهُ أُريدك، ممكن أن أقَول أحتاجك، أو أفضلُ أن تكوني هنا، أو وجودكِ يفيدني، أو ضروري أو أفتقدُكِ في هذه اللحظةِ، وبالنهاية أمحو وأغيَّب كلُ هذه المفردات وأكتب واحدةً منها تحملُ مستقبلاً مفهوماً محدداً فيما هي قامتْ على أشلاء منَ الكلامِ المغيَّب أي محتْ عشرات أو مئات الكلمات ورقدتْ على جثتها مع أن كل مفردة أخرى قد تؤدي المعنى، لكَّنها تحملُ معنى إضافياً لا يتوافُر في الأولى وهكذا يتمركزُ النصُ والعقلُ على علومٍ ومعارف وقد غيَّب أخرى قد تكونُ أفضل أو قدْ تفتحُ آفاقاً أخرى وهذا ينطبقُ على السلطة والسياسة والديمقراطية، صدعَّت رأسكِ أليسَ كذلك؟
- لا بالعكس، يسرني هذا، هذا الفضاءُ المفتوح، يضيُء إمكانيات أوسع للوصولِ إلى المعنى، وإلى شحذ وتحريض التفكير، كان لدينا امتحان الرياضيات على الطريقةِ الأميركية، يعطونك أربعة خياراتٍ للسؤال الواحدِ، المصيبة أنّها كلها صحيحة وعليك اختيارُ الأدق والأفضل، وحِلّا بقا، العلوم تلاقي بعضَها في كل شيء.
- تماماً الأميركان استفادوا جداً من الفلسفة التي نتحدثُ بها، لا تليقُ العلوم إلا بمنْ يقدّرها حقيقةً.
- ماذا تقصد..ألا تليقُ بنا نحن؟
- ومن نحنُ، حتَّى نقدرَ أن نصير نحن، وقَتها يكونُ لنا حديثُ آخرُ.
(*) الفصل الأول من رواية صدرت حديثاً عن «دار التكوين/دمشق»
(**): حمص / سوريا

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا