يحظى آدم فتحي في المشهد الثقافي داخل تونس وخارجها بمكانة خاصة. فالرجل مثقّف ومناضل كبير. وهو أحد الذين قدّموا للحياة الثقافية التونسية خدماتٍ لا تُحصى. إنه اسم لا يمكن تجاوزه، لأنه بكل بساطة يشكلّ برفقة آخرين من مجايليه الملمحَ الحديث للثقافة في بلاد الياسمين. الذين يقتربون من صاحب «أغنية النقابي الفصيح» يدركون كم تتناغم لديه صورة المثقف مع صورة الإنسان الإيجابي الذي يُصغي للآخر ويسعى معه لأن يكون للوجود أكثر من معنى. يكاد يكون هذا الحوار حصرياً في مجمله حول ترجمته لأعمال إميل سيوران، فهو يتزامن مع الترجمة الجديدة لكتاب الفيلسوف الروماني «رسالة في التحلّل» (منشورات الجمل). تكتسي محاورة آدم فتحي أهميتها من جنوحها إلى سبر أغوار سيوران والحديث عن دوافع ترجمته. ونعود في الجزء الأخير من الحوار إلى بدايات الشاعر لنقف معه عند مفاهيم من قبل «النضال»، «الممانعة»، «الشعر السياسي». ولد آدم فتحي سنة 1957، وانضم باكراً إلى صفوف النضال في الحياة الطلابية، كما في الحياة العامة. أصدر أعمالاً شعرية غالباً ما كانت تُصادر. وكتب أغانيَ ثورية وإنسانية للشيخ إمام ولطفي بوشناق وغيرهما. فضلاً عن سيوران، ترجم شارل بودلير وجيلبير سينويه ونعيم قطان وآخرين. ونال العام الماضي «جائزة سركون بولص للترجمة» التي تمنحها «منشورات الجمل».
في السنوات الأخيرة، ترجمتَ خمسة أعمال لإميل سيوران: «المياه كلها بلون الغرق»، «تاريخ ويوتوبيا»، «مثالب الولادة»، «اعترافات ولعنات». «تمارين في الإعجاب»، وأخيراً صدرت ترجمتك للكتاب السادس «رسالة في التحلل». ويبدو أنّك تستعدّ لترجمة «السقوط في الزمن» و«الكرّاسات». ما سر هذا الجنوح لإميل سيوران؟
ـــــ سبقَ أنْ شبّهتُ الترجمةَ بالوليمة، ولم يكن ذلك على سبيل الدعابة. النصوص «أجساد» وليست مجرّد كلمات. والقراءةُ ضرْبٌ من «الأكل». أستطيع أن أقرأ النصَّ في «لغتهِ» لكنّي أشعر بأنّي لم أقرأهُ حقاً مادمتُ لم أقرأه في «لغتي». أشعرُ بأنّ تمثُّلِي لَهُ يظلّ أقرب إلى الحدس والتخمين. كأنّي أتناولُهُ بفم غيري. كأنّي ألوكُهُ وأمضغُهُ بواسطة طقم أسنان. لذلك أترجم النصّ. أستضيفُهُ في لغتي لأُديرهُ في فَمِي. لأتذوّقهُ بلساني. لألوكهُ وأمضغهُ بأسناني لا بأسنانٍ مُستَعارة. عندئذ، أشعر بأنّي قادرٌ على نقْلِ مذاقِهِ ومفعوله بشكْلٍ كاملٍ إلى جسدي، ومن ثمّ إلى جسد الثقافة التي أزعم تمثيلها.
لا أجد أفضل من هذه الاستعارة لتفسير سرّ جنوحي إلى سيوران. شرعتُ في قراءته منذ تسعينات القرن العشرين وكان موضوع حوارات طويلة مع أصدقاء لا يعرفون الفرنسيّة أو لا يتقنون الإنكليزيّة. حتى حصل لديّ انطباع بأنّ قراءته في لغته لا تكفي. كان قرّاء العربيّة قد عرفوه عن طريق مختارات متنوّعة، إلى أن صدرت عن «منشورات الجمل» سنة 2003 أوّل ترجمة عربيّة لعملٍ كامل من أعماله (المياه كلّها بلون الغرق، أو قياسات المرارة). الترجمة موعدٌ لا بدّ من أن «ينضج» له الطرفان. إنّها مسألة «توقيت» كالذي توفّر عند ترجمة بودلير لإدغار ألان بو. ولعلّ سيوران ظلّ ينتظر التوقيتَ الخاصَّ به كي يدخل العربيّة من باب الكتب الكاملة، لا من باب المختارات. وليس من شكٍّ في أنّ ترجمته ما كانت لِتتمَّ وتتواصل بهذا الشكل لولا وجود ناشر مثقّف ومجنون بالمعنى الإيجابيّ للعبارة، كخالد المعالي، الذي شرّع أمامه الأبواب وأقدم على ما اعتبرَهُ الجميعُ وقتَها مُجازفة حقيقيّة.

لماذا أحجم الناشر العربيّ قبل «منشورات الجمل» عن إصدار ترجمات كاملة لكُتُب سيوران، ولماذا اعتُبِر نشرُ أعماله في العربيّة مُجازَفة؟
ــــ لأسباب عديدة تتعلّق بأعماله وبواقع الناشر العربيّ ومترجِمه وبخصوصيّات البيئة العربيّة. أنت تمشي في نصوص سيوران مثل من يمشي في حُقول ألغام. فما بالك حين تنقلُ تلك النصوص إلى لغةٍ عربيّة قادرة على استقبال كلّ شيء، لكنّها مُحاصرة بترسانةٍ من المحاذير السياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقويّة. إنّ من شأن ترجمةِ مثل هذه الأعمال أن تبثّ دماء جديدة في كلّ لغة تنتقل إليها، وأن تتيح لتلك الألغام «الإيجابيّة» أن تفعل فعلها في أوردة ثقافةِ الاستقبال وشرايينها، فتساعدها على التجدّد. ولن يُقبل على ترجمة أعمال مثل هذه إلّا الناشر «الممسوس» برؤية ومشروع ثقافيّين، تتراجع أمامهما حسابات الربح والخسارة الماديّة أمام «الربح» الفكريّ أو المعنويّ. وهذا كما تعلم أمر نادر. أضف إلى ذلك أنّ أعمال سيوران وأمثاله، تتضمّن كنزاً من «المُضادّات الحيويّة» واللقاحات الناجعة ضدّ الكسل الفكريّ والذهنيّة المحافظة. وعلى المترجم أن يبذل جهداً خاصاً كي ينزل تلك النصوص في سياقها العربيّ من دون أن يُفقدها شيئاً من جرأتها وطاقتها الاستفزازيّة. كي يظلّ لها وقْعُها المميّز، الناجمُ تحديداً عن كونها لم تُكتَبْ عن رغبةٍ في تملُّق القارئ بقدر ما كُتِبتْ عن رغبةٍ في تعرية القارئ أمام مراياه. وهذا مركبٌ صعب.

يبدو كتاب «رسالة في التحلّل» مواصلة لتأملات سيوران في الوجود الإنساني ومساءلته للعقائد ونقده للحاجة الدينية. ما الذي أضافه هذا الكتاب إلى مشوار سيوران؟ وأين تضع هذا الكتاب بين أعماله الأخرى؟
ـــــ بدأ سيوران بالتأليف والنشر في لغته الرومانيّة. ثمّ قرّر القيام بعدد من «الانسلاخات» يمكن الرجوع إلى تفاصيلها في النصّ الذي قدّمتُ به كتابَ «المياه كلّها بلون الغرق» من بينها الانسلاخ جغرافيّاً من رومانيا إلى فرنسا، ولغويّاً من الرومانيّة إلى الفرنسيّة. قد يكون «رسالة في التحلّل» شهادةً على نجاحه في هذا الانسلاخ اللغويّ، فهو كتابه الأوّل في لغته الجديدة. من ثمّ ربّما أهميّتُه الخاصّة بالنسبة إلى سيوران، الذي تردّد كثيراً قبل نشره، لأنّه كان حريصاً على تجويد العبارة والأسلوب.
أمّا باستثناء ذلك، فهو لبنةٌ أخرى تضاف إلى لبنات الصرح السيورانيّ بتيماته الأساسيّة، وعلى رأسها تيمة انحطاط الحضارة الغربيّة، مع التركيز هنا على فكرة التحلّل. ولعلّ من ميزات هذا الكتاب أنّه يساعد القارئ «اليقِظ» على الانتباه إلى أهميّة «البارادوكس» في فكر الرجل. فهو يبطن في أحيانٍ كثيرة غير ما يظهر. وهو مبدع في فنّ المخاتلة، تنتظره في مكان فتجده في مكان آخر. يمنح نفسَه الحقّ في قول الشيء ونقيضه، لأنّه صادق في المرّتين، بالقياس إلى سياق القول.
يكتب على باب شقته: «على الداخل إلى هذا المكان أن يتخلّى عن كلّ رجاء»، لكنّه لا يخيّب لقاصديه رجاءً. يبدو لقرّائه سوداويّاً، لكنّ سوداويّته سرعان ما تكشف لهم عن نافورة ألوان. يعتبر الحياة مرضاً عضالاً في الزمن وينادي بالتخلّي عن أيّ عملٍ أو جهد، لكنّه لا يكفّ عن التأليف والكتابة (كلّ كتاب هو موت مُرجأ بالنسبة إليه). يُنَظّرُ للانتحار احتجاجاً على عبثيّة الحياة لكنّه لا ينتحر (لا ينتحر إلّا المتفائلون في نظره). يعتبر التعصّب للعقائد عاملاً أساسيّاً من عوامل تحلّل الحضارات وذوبانها، لكنّه لا يكفّ عن التلميح إلى أنّ كلّ نهاية بداية، بما في ذلك نهايات الحضارات والعقائد.

الكتاب صدر في 1949. لماذا اخترت أن تعود إليه متأخراً بعدما ترجمت أعمالاً أخرى صدرت بعده؟ لماذا تجاوزت الشرط الكرونولوجي وأنت تترجم أعمال سيوران؟
ــــ قد يكون للتتابع الكرونولوجيّ أهميّة بالنسبة إلى الباحثين، لكنّ سيوران لم يكن «أفُقيّاً» في تعامُله مع الزمن، بل كان يلفّ ويدور من كتابٍ إلى آخر ليتعهّد تيماته الأساسيّة بالمزيد من الحفر والتعمّق، حسب مقتضيات الحوار الدائر بين ذاته المفكّرة الكاتبة والمرحلة التاريخيّة. هذا يعني أنّه كان يتقدّم في أعماله بطريقة لولبيّة. ولعلّي انتهجتُ طريقته في التعامُل مع هذه الأعمال، بشكلٍ عفويّ، لتطابُقها مع رؤيتي للترجمة كموعدٍ، كما سبق أن قلت، بين حاجة ذاتيّة وضرورة موضوعيّة.
في بداية الألفين، شرعتُ في ترجمة كتاب «المياه كلّها بلون الغرق» أو قياسات المرارة (صدر عن «الجمل» سنة 2003)، لإحساسي بأنّه يقول الكثير ممّا أحتاج (ونحتاج) إلى قوله في تلك المرحلة. ثمّ اخترتُ ترجمة كتاب «تاريخ ويوتوبيا» (صادر عن الدار نفسها سنة 2010) لأنّي شعرتُ بأنّ في وسع هذا الكتاب أن يساعدنا على فهمٍ مختلفٍ لذهنيّة الطاغية، خاصّةً في فصلٍ عجيب يحمل عنوان «مدرسة الطغاة». لن أتوقّف عند كلّ كتاب. لكنّي أشير على سبيل المثال إلى «تمارين في الإعجاب» الذي تعطّل صدوره بسبب «كوفيد 19» ولعلّه موجود في المكتبات الآن. بدا لي هذا الكتاب في السياق التونسيّ والعربيّ وسيلةً ناجعة لمقاومة «الشعور بالإحباط» الذي غلب على كثيرين بسبب محترفي الوثوب والركوب والثورة بالمقلوب، الذين يرفعون شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» ثمّ يُعيدون إنتاج النُّظُم بحذافيرها وأكثر. ولسيوران في هذا الكتاب نصٌّ رائع عن جوزيف دو ميستر يكاد يقول كلّ شيء في هذا السياق، لذلك ترجمتُه قبل غيره.

يبدو سيوران في الواقع رجلاً غريب الأطوار. يقال إنه في طفولته كان يرتاد المقابر ويلعب الكرة بجماجم الموتى. في شبابه عانى من الأرق لفترة طويلة. تأثّر بالشاعر الروماني أمينيسكو. لغته شاعريّة وكتابته في الغالب شذريّة وخاطفة، ومواضيعه في الغالب عن العزلة والمعاناة الوجوديّة. ألا ترى أن إميل سيوران شاعر أخطأ الطريق ووصل إلى أرض الفكر؟
ـــ قد يكون ذلك صحيحاً وقد لا يكون. فالرجل سيّدٌ من سادة «المُفارقة»، وحقيقته مختلفةٌ عن إشاعته. سيوران في نظري توأم ديوجين. ينبح في كلّ شذرة يكتبها. في نباحه شطحة الشاعر ولمعة المفكّر. أَدركَ أنّ الفكر لم يعد يتحمّل «الأقمطة» النسقيّة، فاستعاد توهّج اللحظة ما قبل السقراطيّة. كتب النصّ الطويل لكنّه روّضه بالشذرة. أتاح لِلَّمْعَةِ الشعريّة أن تمنح الفكرة أجنحة أخرى وأن تعود بالمفكّر إلى مملكة الحواسّ. ذاك ما أدركه نيتشه أيضاً. لذلك يصعب أن نقول «أخطأتَ الطريق» لمن يعتبر «الخطأ» علامةً من علامات طريقه. سيوران من بين القلّة الذين عثروا للشعر على طريق كي يفكّر، وللفلسفة على طريقة كي تظلّ قراءتها ممكنة. وهو إلى ذلك متشائم ضاحك. أو متشائل على طريقة إيميل حبيبي. لقد حيكت حول الرجل «أساطير» عديدة، كان هو أوّل من ساعد على «حياكتها». ذاك شرْطٌ من شروط بقاء الكاتب في نظره: ألّا يمنح عن نفسه «صورةً نهائيّة». وقف به الأرق على حدّ الجنون. اصطدم مثل الكثير من مجايليه بعلامات الانهيار والانحطاط التي غلبت على المشهد الحضاريّ الغربيّ. فحاول في بداياته أن يعترض على هذا الانهيار بطريقة «قيصريّة»، حتى كاد يقع في الغواية النازيّة. ولعلّه لم ينجُ من تلك الغواية إلّا حين قبلَ بفكرة الانحطاط والانهيار على أساس أنّها «نهاية ضروريّة». من ثمّ اشتغل على تيمات مثل الموت والسقوط منذ الولادة والانحلال أو التحلّل، من دون أن يسمح لهذه التيمات بالتحوّل إلى «عقائد». هكذا نجا من مصير فرويد وزفايغ على سبيل المثال، اللذين هالَهُمَا كمُفَكِّرَيْن أن يعجزا عن التصدّي لفظائع النازيّة، فانتحرا كي لا يتحوّلا إلى «شهود على الأنقاض». لهذه الأسباب، وغيرها الكثير، أقرأ سيوران بمتعة متحرّرة، من دون أيّ اهتمام بتصنيف ما يكتب، فهو المفكّر الشاعر أو الشاعر المفكّر. بل لعلّي أراه بنّاءً بقدْر ما يراه بعضُهم هدّاماً عدَمِيّاً، وأجد في شذراته الكثير من ملامح الأمل على العكس ممّا يتصوّر كثيرون.

أليست هذه «مفارقة» على طريقة سيوران؟ أين ترى الأمل في كتاباته وهو المعروف بكونه فيلسوف التشاؤم واليأس والعبث أيضاً؟
ـــــ أنا لا أرى في سيوران فيلسوف التشاؤم واليأس والعبث، بل أرى فيه فيلسوف «النهاية» بامتياز، تلك النهاية التي تعني بدايةً جديدة مختلفة. وهو فيلسوف الإعلان الصريح عن «الإفلاس»، ذلك الإعلان الذي لا بدّ منه للتأسيس على أرضيّة خصبة. لذلك قلتُ وأقول إنّي أترجم سيوران للحصول على جرعة من الأمل، خاصّة في مرحلتنا الراهنة التي تكاد تدفع إلى اليأس، لفرط ما انهارت القيم وتراجعت الثقافة وعمّ الفساد وتطاوسَ الجهلُ وعُوقِبت الكفاءة وسادت الأنانيّة المتوحّشة واحتُقِرت المصلحة العامّة وهيمن منطقُ الربح، وتفشّت ذهنيّةُ المحاصصة والغنيمة. فإذا نحن لا نحلم حلماً إلّا أُجهِضَ ولا نخلص من فاسدٍ إلّا حلّ محلّه فاسد، وكأنّنا أمام ديستوبيا يصرّ تاريخُنا على ترجمتها إلى واقع في شكل دعوة مفتوحة للانتحار.
لقد صوّر سيوران، على طريقته، حياةً كابوسيّةً أكثر من هذه الديستوبيا. وتوغّل فيما تدفع إليه من اليأس والإحباط حدّ اختراقهما. حدَّ النفاذ منهما. وليس من برهان على ذلك أفضل من أنّه لم يستسلم إلى اليأس ولم ينتحر، هو «مُنظّر الانتحار» بامتياز أو هكذا يبدو. ربّما لأنّه اهتدى بعد حيرةٍ مدوّخة وبعد بحثٍ مضنٍ إلى طريقة تتيح له تحمّل الحياة، وتتمثّل تلك الطريقة في مساعدة المنهار على الانهيار. هكذا شرع في تفكيك كلّ الخدع والخزعبلات التي يتشبّث بها عالَمٌ هالِكٌ وحضارةٌ منهارة كي يحافظا على بقاء لا فائدة منه. وفي هذا السياق، جاءت شذرته الشهيرة: «كم هو محزن أن نرى أمماً كبيرة تتسوَّلُ قدْراً إضافيّاً من المستقبل».
ثمّة في هذه الرؤية السيورانيّة ما قد يصلح، في نظري، لتَحمُّل الحالة العربيّة الراهنة. لا بدّ من تجنّب التعميم طبعاً. فالمرحلة الراهنة لا تخلو من جُزُرٍ نيّرة. لكنّ تلك الجُزُر لا تمنع الإقرار بأنّ الوضع في معظمه معتم، يغلب عليه التشبّث المُقرف بالترقيع والتلفيق والترميم والرعب من الذهاب بالأمور إلى نهاياتها، كما تغلبُ عليه استماتةٌ يُرثَى لها في «التسوُّل العبثيٍّ لقدْرٍ إضافيّ من المستقبل». كأنّ بعضنا مصرٌّ على النفخ في جيفة. لقد جرّبنا «أنصاف الحلول» كُلَّهَا، فلم ننجح إلّا في منع النجاح من التحقّق، مُصرّين على إعادة إنتاج الفشل، كأنْ ليس في الإمكان أفضل ممّا كان. وكأنْ لا مناصَ لنا من معاناةِ الاستبداد والفساد والتبعيّة والعشائريّة والقبَليّة والطائفيّة والشعوبيّة إلى آخر القائمة التي لا يبدو لها أوّل ولا آخر! فإذا نحن نكتفي دائماً بالحدّ الأدنى من كلّ حلم. نتهرّب من حلّ معضلاتنا الفكريّة بشكلٍ جذريّ. نرفض الحسم في خياراتنا الحضاريّة. نتوقّف عند كلّ «هبّة» في منتصف الطريق، عاجزين من ثمّ عن النهوض الحقيقيّ وعن «الثورة الكاملة»، مُحجِمين عن ابتكار أنفُسنا في «الآن والهُنا» لِضَرْبِ موعِدٍ مع غَدِنا. لماذا؟ لأنّنا لا نملك الجرأة الكافية على «تقييد فلسفة» كما نقول بالعاميّة التونسيّة. وتعني هذه العبارة الإعلان الواضح الصريح عن «إفلاس» مشروع أو رؤية أو مرحلة أو جيل، والبناء على أرضيّة صلبة للنهوض من جديد.
إنّ من شأن أعمال كأعمال سيوران أن تساعدنا على تمثُّل فكرة «النهاية» باعتبارها محطّةً لا بدّ منها في الطريق إلى كلّ بداية جديدة منشودة، لا يمكن أن تتحقّق ما لم نُتِمَّ طقسَ حِدادِنَا على المرحلة السابقة وما لم نعلن إفلاسها. من ثمّ زعمي بأنّ في قراءته وترجمته ما ينعش الأمل، إذا نحن تعمّقنا في نصوصه وتجاوزْنَا ما تَعمّدَهُ فيها أحياناً من استفزاز وتمويه ساخر لإنتاج ما يسمّيه «سوء التفاهم» الضروريّ لبقاء النصّ.

دعنا نخرج من سيوران ونعود إليك. عُرِفت في الثمانينات بكتابة قصائد تيمتها الأساس هي النضال والممانعة. ما الذي يعنيه في نظرك هذا التوصيف؟
ـــــ الشعر نضالٌ ومُمانعة أو لا يكون. هكذا فهمتُ الأمر منذ صدرَ لِي أوّلُ كتابٍ سنة 1982. لم يكن مجموعة شعريّة بل كان كتاباً شعريّاً يحمل عنوان «سبعة أقمار لحارسة القلعة». وما كان له أن يصدر لولا مجموعة من الأصدقاء من بينهم الفنّان الموهوب المنصف بن عمر. كان إنساناً رائعاً متعدّد المواهب، قريباً من المسرح والسينما والأدب. صمّمَ غلاف الكتاب وأنجز لوحاته الداخليّة، ثمّ ضاقت روحه المرهفة بأحوال البلاد والعباد، فانتحر مأسوفاً عليه، بعد ذلك بقليل. وأنا أفتقده باستمرار. وأستحضره الآن لأنّه أجاب على سؤالك منذ عقود. وتحديداً، في لقائنا الأخير في «مقهى الزنوج»، الذي كان في تلك الأيّام قبلة الفنّانين والمثقّفين قبل أن يتحوّل إلى مقرّ فرعي لأحد البنوك. كان قد فرغ من إنجاز الغلاف واللوحات فأرانيها، ثمّ قال لي وهو يضع يده في يدي، عبارةً تبدو غريبة حتى اليوم: «كتابُك هذا في طُمْبُكِ السياسة يا صديقي». يقصد في صميم السياسة. ظللتُ صامتاً للحظات ثمّ شددتُ على يده مبتسماً وتبنّيتُ العبارة على الفور.
وجه الغرابة في هذه العبارة أنّها كانت في شأن كتابٍ اعتبره معظم الملاحظين أقلَّ كُتُبي صلةً بالشيء السياسيّ. لذلك أسمحُ لنفسي بالتوقّف عنده بعض الشيء، فقد لا تكون رحلتي كلّها سوى تطويرٍ وتعميق لما جاء فيه. لقد حلمتُ طويلاً بذلك الكتاب. أعدتُ كتابته أكثر من مرّة كأنّه سيكون الأوّل والأخير. أرجأتُ طباعته مراراً. أردتُ لكلّ صفحة من صفحاته أن تكون من لحم البشر ودم الأرض. كان كنايةً عن مخطوط من أجساد تتقاطع وتلتحم وتقف على عتبة الانفجار، وما كان للحرف الطباعيّ في نظري أن يعبّر عن الرجفة والرعدة والرعشة. لذلك كان لا بدّ من أن يخرج بخطّ اليد. عكفتُ على نحت ملامح يسار وآدم، الشخصيّتين اللتين تفتتحانه، بصبر أيّوب وإزميل رودان، متوهِّماً أنّي أُهدي العربيّةَ جلجامشها وإنكيدوها الخاصيّن بها. دخل يسار وآدم القلعة، فإذا هما يتحوّلان إلى شخص واحد اسمُهُ يَسادَمْ. وحين طلب يسادم من حارسة القلعة أن تسمح له بالخروج، جعَلَتْ إحدى شفتيه من نار والأخرى من كبريت، فإذا هو عاجز عن الكلام، لا لأنّ فمه مُغلق بل لأنّ فمه مفتوح، وهو يخشى أن يتكلّم فتلتقي شفته النار بشفته الكبريت. أي أنّه لا يريد أن يدفع ثمن حريّته في الكلام. هكذا حفر الكتاب مجراه وكتبني فيما أنا أكتبه. فإذا أنا أمام نتيجة لم أتوقّعها: الشيء التراجيديّ وهو ينتقل من شرطه الإغريقيّ (إرادة يُعارضها القدر) إلى شرطه العربيّ (حريّة تنقصها الإرادة)!
سيوران في نظري توأم ديوجين. ينبح في كلّ شذرة يكتبها. وفي نباحه شطحة الشاعر ولمعة المفكّر (آ. ف)


تلك كانت نافذتي على السياسة بالمعنى العميق للعبارة. ومن يومها وأنا أفهم سياسة الشعر على النقيض من شعر السياسة. فهذا الأخير بروباغندا. أمّا سياسةُ الشعر فهي جزء من جوهره، بوصفِه سعياً إلى سُكنَى العالم وبحثاً عن صيغ للاشتباك معه، دفاعاً عن القضايا التي يراها الشاعر جديرة به، وعلى رأسها قضيّة الشعر، التي لا يمكن أن تتحوّل إلى ذريعةٍ للتملُّص من قضايا الإنسان، أو التهرُّب من دفْع ثمَنِ الانحياز إليه.
السؤال هنا: كيف؟ والجواب: أنا غير قادرٍ على الاقتراب شعريّاً من أيّ شأن عامّ، مَا لم يصبح «شأناً خاصّاً». بناءً على ذلك، فإنّ مُقاربتي لبعض الأحداث الساخنة في تونس أو في البلاد العربيّة أو في العالم، ليست مختلفة في جوهرها عمّا حاولتُه في «سبعة أقمار» أو في «نافخ الزجاج الأعمى». ولعلّ تلك النصوص ما كانت لتبدو سياسيّةً أكثر، إلّا لأنّها مخلوقات نافخ الزجاج التي يرى بفضلها طريقَه، أو شظايا «يسادم» وهو يجرؤ على دفع الثمن، ويتكلّم، فتلتقي شفته النار بشفته الكبريت وينفجر.

والآن؟ماذا عن الشعر السياسي الآن سواء في تجربتك أو في عالم الكتابة الراهنة عموماً؟
ـــــ إذا كنت تقصدُ الشعرَ السياسيّ بمعنى البروباغندا، فهو كما قلتُ لك منحى لا يهمّني، بل لعلّي أرى في نسبته إلى الشعر ضرباً من التناقض البائن. أمّا إذا كنت تقصد الشعر المعنيّ بالشيء السياسيّ في جملة عنايته بالشيء الإنسانيّ ككلّ، فهو في نظري جزءٌ لا يتجزّأ من مسيرة الشعر، أمس والآن. الكتابةُ مهما كان شكلُها تناوُلٌ للكلمة (Prise de parole). وكلّ تناول للكلمة هو بالضرورة فعلٌ سياسيّ. السؤال هو: كيف يتمّ هذا التناول من دون الخروج من شرط الشاعر أو الكاتب، المعنيّ في جوهره بالأسئلة وخساراتها، إلى شرط السياسيّ، المعنيّ في الغالب بالأجوبة ومكاسبها.
والحقّ أنّي لا أشعر في ما يخصّني بأيّ اختلافٍ عنّي في بداياتي من هذه الناحية. إلّا إذا كان هذا الاختلاف يعني سعياً أكثر إلى تجويد القصيدة وذهاباً بمغامرة الكتابة إلى أبعد. وأرجو أن يكون ذلك صحيحاً، على الأقلّ كي لا تكون هذه العقود الطويلة من مكابدة الكتابة قد ذهبت هباء. أمّا من حيث جوهر الرؤية، فأنا لم أكفّ لحظةً عن اعتبار الشعر في جانب من جوانبه المهمّة، إنصاتاً إلى ما يحدث في الذات وفي العالم، وانشغالاً بالشأن العامّ بعد صهره وتحويله إلى شأن خاصّ، وسعياً إلى ترجمة كلّ ذلك إلى إبداع، بما يعنيه الإبداع من خروجٍ على المثال، وخلخلةٍ لليقين، وانشقاق قدر المستطاع عن النظام اللغويّ الفكريّ القائم.
أمّا بالنسبة إلى ما يحدث في عالَم الكتابة، فثمّة أماراتٌ كثيرة على تمثُّل هذا الفهم لدى مبدعين كثيرين، في المغرب والمشرق العربيّين. وليس من شكّ في أنّنا نشهد نجاح الكثير من التجارب التي تعرف ثمن الكتابة الباهظ وتُقدِم عليه، لتقترح علينا العديد من الأعمال التي «تقولنا» بجمال وعمق، في المسرح والسينما والشعر والرواية والموسيقى والفنون التشكيليّة والعلوم الإنسانيّة. وما كان لهذه التجارب أن تنجح في الوصول إلى الناس لو لم تعرف كيف تُحصّن مغامرتها الإبداعيّة من «التعالي» عن مشاغل «العيش في المدينة» أو في الأرض التي كادت تتحوّل إلى مدينة. وهذا يعني أنّها اهتدت إلى الطريقة المثلى للتعامل مع الشيء السياسيّ بعمق وذكاء، من دون أن تفرّط في شيء من متطلّبات الإبداع.
إلاّ أنّ في عالم الكتابة اليوم، أيضاً، فريقاً آخر، يدافع عن إبداعٍ أكثر «نقاوة»، ويستكثر على الكاتب، وعلى الشاعر تحديداً، أيّ انشغال بأيّ قضيّة، سواء تعلّق الأمر بتلويث بيئة أو احتلال أرض أو قمع شعب أو حرب إبادة. والغريب أنّ كثيرين ينسبون هذا التصوّر إلى «آباء» مثل بودلير، ناسين أنّ «أزهار الشرّ» كتاب في سياسة الشعر بالمعنى العميق للعبارة، وأنّ بودلير كان يغمس أصابعه في وحل الأرض هاتفاً في وجه الحياة «منحتِنِي طينكِ فصنعتُ منه الذهب». ولعلّ هؤلاء يستكثرون على الشاعر أن يكون صاحب قضيّة، لأنّهم يختزلون «القضيّة» في «الفكرة القوميّة» أو في «العقيدة الإيديولوجيّة» اليساريّة أو اليمينيّة، في حين أنّ مفهوم القضيّة أعمق وأوسع من هذا بكثير. ولا أعرف شاعراً واحداً في العالم بلا قضيّةٍ كبرى، تلهب شكوكه وتقضّ مضجعه وتجعله ينفجر مثل البركان أو ينزف مثل الطائر الذبيح. المهمّ أن تكون هذه القضيّة قضيّتَه الشخصيّة، لا قضيّةً مُستعارة، أو مملاة عليه من دكاكين سياسيّة أو شعريّة.
كان تيوفيل غوتييه يريد أن يكون شاعراً «لا يهمُّهُ من العالَم إلّا ما يراه من خلف زجاج النافذة، ولا ينتبه إلى الثورات إلّا حين يرتطم الرصاص بزجاج نافذته». موقفٌ محكومٌ بشروط المدرسة التي انتمى إليها والسياق الثقافي الاجتماعيّ الذي عاش فيه. وهو حرّ في موقفه. لكنّ حريّته لا تلغي حريّتنا، نحن «أبناء الأرض»، في أن نراه موقفاً «مُحرِجاً»، في خصومةٍ تامّة مع إيطيقا الشاعر التي تتناقضُ مع «التعامِي» و«التعَفُّف» كما تتناقض مع دعاوَى «الزعامة» و«القيادة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا