«طائر يتكلم وحيداً كمثل مزمار/ في مطر صامت يخفّ شيئاً فشيئاً» من قصيدة «طوفان على الأرض الداخلية» للشاعر توماس ترانسترومتر، كلمات تقدّم عباس بيضون كما هو. توجزه لنا لغة وفكراً وغناءً وكثيراً من العمق غير المنظور... لكن هل بوسعنا الكتابة عن عباس بيضون؟ ثمّة بعدٌ فلسفي يصعب تفكيكه تنبض به منجزاته من بداياتها الأولى. شاعر يمارس تزاوجاً بين اللغة والصمت، فتصل القصائد بثقوب لا قاع لها، «تقاطعات مخيفة/ مربعات كالأقفاص/ وفقط جدران مفخّخة/ مزيد من الأشياء التي تسقط/ من الآيات المغدورة/ مزيد من الحقائق النائمة»... لكنه في أمكنة أخرى يسمّي الأشياء بوضوح كما يحسّها: «ليلي الصغيرة هدية السنة.../ ماذا تفعل أيها الشاعر العجوز أنت الذي لا يقطفك أحد؟».في مجموعته الشعرية «الحداد لا يحمل تاجاً» (دار الساقي) يبدأ بيضون بما هو مرتبط بالخلود الإنساني والشعري على حدّ سواء «أنا شبه أب... أنا شبه شاعر». البدء بهذا النص يكتظّ بأناه لكنها أنا متألمة فهو يسمّي نفسه بـ «شبه» أب، «شبه» شاعر، ولا يرى اكتمالها كما نراه نحن وكما يريد لها أن تكون. إنها لغة لنا خلفها لغة له. هو يعرف ماذا يريد أن يقول، ونحن هنا نحاول أن ننتشر بين الظل والضوء لنكتشف زمن بيضون الدلالي والتركيبي الخاص والعام، لنكتشف لغة عباس، لغة رأسه، لغة يديه ووجهه وجسده. إننا نتقدّم معه في أماكن خارج هذا العالم، فنرى أنفسنا أمام مكوّنات مسكونة بالتأويل حيناً وبالوضوح حيناً آخر. دلالاته الأولية «الحداد الذي لا يحمل تاجاً، قمصان الانتحار، الموت قطعة نقدية، اسمي مع شيء من لحم الموتى».
لكن من أين تتحرّك قصيدة بيضون، «من الموت الذي مرّ كالخيط» أم من «الموت الواقف فوق الشعر المستعار»، أم من وجهه «المصبوب في الآجر ينتظر من يموت أولاً»؟ هل تفتّتت الحياة أمام عينيه ليكتب عن الموت، هو لاوعي عباس بيضون المتألم حيث تتلاقى أشياؤه الذاتية بوعيه اليقظ لوحدته التي تبني نفسها تدريجاً. ثمة اعتراف دائم بالوحدة، فهو ينتظر من سيموت. إنها أشياء عباس بيضون الحزينة جداً تتفكّك من رمزيّتها وتتوحّد بتجربة وجدانية شخصية جماعية. هي ثيمة الحياة والموت، فكل كلمة من كلماته وكل صورة من صوره لها حسابها الرمزي، بل لها حضورها القاسي الذي سيصبح قريباً من مفهوم التجربة الكيانية المرتبطة بما هو إنساني وشخصي مع ما هو غامض وماورائي. «لا نعرف إذا كان الميت العائد يسمع/ إذا كان لا يزال هو نفسه/ ما جرى كان فوق الفهم/ ولن يكشف سره/ نحن الفانين/ الشعراء الفانين/ لا نعرف من أي تعب أتينا/ وأي تعب سوف نترك هذا العالم/ لن يُكشف لنا الغطاء/ فنحن لسنا خالدين ولسنا أحجاراً»...
ربما كانت الفكرة الأولى هي نجلا، الأخت الوحيدة لعباس، «حضرت ولادتكِ وفكرت أني ولدتكِ/ دفنتكِ كما دفنتِ أخاكِ/ واحداً من اثنين لم يعد جسداً». عشر قصائد لنجلا مرقّمة بالجسد الذي غصّ بالمهدّئات، بكيس الأدوية، بالكلمات التي كدّستها نجلا في جيوبها فكانت كثيرة عليها حتى صارت آلاماً. كان الألم سميكاً فلم يقشّره أحد. قصائد نجلا قادرة أن تدسّ فيك ألماً عميقاً وشعوراً خفيّاً بالوحدة، كتبها الشاعر بعفوية وصدق بالغين كأنه يحدّث أخته، كأنه يكلّم نفسه، هو لم يعرف أنه كان يكتب شعراً صافياً وربما قاسياً أحياناً. لكن ما قبل نجلا وما بعد نجلا، يأخذنا عباس بيدنا في رحلة مؤلمة من مراقبة الزمن، يلتقطنا من الداخل فنتوّحد مع حزنه. «الوحشة التي تصل وحدها/ الزمن في الجو الذي يخفّ شيئاً فشيئاً.../ متى تصل المرثية/ ستتعذب حين يصل وجهك من المختبر/ أو تتلقى حياتك في رسالة... / هل تجد عمراً كافياً لتنتقل إلى الشجرة الأخرى.../ كم بقي لك لتسهر على تفاحاتك/ لتكلمها على عمق ستين عاماً/ كم بقي لك لتجرها الى حفرة/ لتغفو جنبها/ ولتسقط أيضاً من ضربة جناح/ ومن سنة طائرة»...
الألم حقيقي في نصوص بيضون. نصوص تطرح صيغة الموت في مفردات وإن كان حزنها هائلاً، إلا أنها توقظنا على جمال دفين. لوحة كاملة عن فكر عباس بيضون الخاص.. «الحداد لا يحمل تاجاً» هو بورتريه لعباس بيضون. وجه لا يتغير من قصيدة إلى أخرى، بل يتمّمها. بوعي أو بلا وعي، يقدّم لنا وجهه عفوياً متألماً في بعد بصري يتجاوز العالم بعد أن يوضّبه لنا على شكل تساؤلات وجودية، وينسج بذلك سجالاً مع المطلق. «هل نترك العالم قصيدة خلفنا/ ماذا لو كانت أكذوبة/ ماذا لو كانت هباءً». وجه عباس ينظر إلى العالم من خارجه، من خارج نفسه، يقف في الأعلى ويتحدث عن الله الذي سيخرج من بين القبور، عن الشيطان على فم الوردة وعن الرجل الذي رمى ظله فوق الجدار... «ليس صحيحاً أن الضحكة تشفي/ وأن القهقهة تبقى تدوي في الجبل/ بعد أن تنتهي الأكذوبة ويصمت المكان». إنه يعترف بانتصار الزمن على الحياة ويعي تماماً ما ستؤول إليه ذاته والأشياء، وهذا شرط لانبثاق اللازوال واستدعاء ما هو مضادّ. وهو بذلك يقاوم الموت نفسه. «ازرع في هذا الغيب بذرة/ أي كلمة وأي سطر/ أنت في جنينة آدم/ وستكون هذه هويتك/ أمام الفراغ/ ستكون جثمانك أيضاً.../ الكلمات قمح الموتى»، هي كلمات من قصيدة «جنينة آدم» التي تشكّل عالماً خاصاً بالشاعر، مملكة مخفيّة من الوجع الداخلي الصامت. هي هوية عباس المفرطة بالتكثيف والفرادة بفكرها الفلسفي، يستخدم فيها الشاعر الجزيئيات يفكّكها ويضيف إليها سلسلة من الأموات والكلمات غير المرئية...
«الحداد لا يحمل تاجاً» قطعة من منجزات بيضون الفكرية قبل الشعرية والروائية التي تشكّل مدوّنة كاملة عن هذا الكون. تستدرجنا الى قلب الأشياء معها. نخترق تلك التقاطعات المخيفة، ونستمع إلى الرقيم وهو يقول: «إننا خرجنا من الجنة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا