مولع بالغيابأجدر ما يكونه المرء
أن يصبح مولعاً بالغياب،
عائماً في تذويب نفسه،
حتى يُصبحَ شبه كائن لا يمكن المساس باختفائه...
عملية المحو تلك تحدث بشكل تلقائي،
بشكل مكثف مرات عديدة،
أن تغيب عن الوقت وتذهب إلى شجرة الزقاق،
أن تغيب عن المرأة،
وترسخ في رأس الشارع مثل لوحة إعلانات
يكتب عليها المارة أسماءهم،
أو يضربها ما تبقى من هواء البارحة،
أن تغيب عن الغياب نفسه
فتصبح عدماً يلوح للأفق..
يحدث ذلك بالقوة التي
يظهر بها الآخرون التصاقهم بالجري..
أن تذهب يومياً إلى الزوال
كما تغيب سمكة جرّاء تهور المياه
ذلك أجدر ما يمكن أن يحدث.

فان غوغ ـــ «زوج حذاء قديم» (زيت على قماش، 1886)


اعتياد
الاعتياد الزائر الدائم
الضيف الخفيّ
الذي يدخلُ من الأقدام
من الشبابيك والأبواب
من الهشاشة
من نظرات سائقي العربات القديمة..
العنصر الهلاميّ
الذي يخفي القطط والأرانب
تحت قبّعة العالم
يخفي صورةَ المرء وهي
تنهارُ وتضيعُ في كتلة من البلاهة..
الاعتياد يا حبيبتي
هو الذي يجعلني أرغبُ بك دائماً
أرجو ألَّا تغمضي عيني الوقت،
كلُّ شيء سيكون ملائماً
السّعادة تمرين..
إذ يمكن للكائن أنْ يضحك في المرآة
ليبدو سعيداً
يمكن للرجل أن يتحولَ إلى رقم في زجاجة
يذهبُ يومياً ويرتدي تلك البذلة اللعينة،
يضحكُ كما لو أنّه أول من تعلّم الضحكَ،
يضيع في بحر النكات،
إنّه الموظف الذي يقفُ نصفَ اليوم
خارج نفسه
كي يمارسَ الجلوس في النصف الآخر
خارج نفسه أيضاً.
إنّه التدريب
الذي يجعلُ المرأة
تمسحُ التلفاز نفسَه كلَّ يومٍ
في العاشرة صباحاً
وتقشّر الفاكهة نفسها أيضاً
عندما تودّ أن تأخذَ نفساً عميقاً،
حتّى النّهر ليس نهر البارحة
لقد مشت العيدان إلى الجنوب
وحلّت مياه أخرى غير تلك
ما الّذي يجعل هذه الأشياء تستمر؟
كلّ ما يحدث وما لا يحدث
إنّه الاعتياد حجارة الجميع
فنحن في النهاية
نموت ونعيش جرّاء ذلك
نتقابلُ صباحاً
ونترك أثراً على المقاعد،
نشربُ الشاي
ونمسحُ الأحذية،
نتلاشى وفق خوارزميّة العالم تلك
التي لا تنظر للخلق أو للنوع،
الجميع هنا
يألفون الكآبة والكلام،
يألفون أنفسهم وزوجاتهم،
أيُّ مُسْخٍ يعيشُ
داخل هذا الجهاز الذي يتنفس
الذي يجلسُ يومياً على الكرسي ذاته
بينما يضيع في أنبوب طويل
من التّدريب والاعتياد...؟

حجارة ترمى على سلك
عالق في هذا النشاز المستمر
مثلما تعلق خرقة في سلك،
ثم تبقى الكلاب تنظر إليها
كفريسة في الأعالي إلى الأبد،
لكنَّ حركة أخرى ستعيدنا إلى الصفر..
ستفضح المرأة
وهي تغط في ماكينة الإصغاء للرجل،
ستفضح الحياة
عندما تودُّ أن تصبح
قابلة للعيش،
أيّة حجارة هذه التي يمكن
أن ترميها على السلك وعلى حياتك
حتى تعود الكلاب إلى الحقيقة
وأنت إلى حيث كنت تستقر
في قعر المنزل..

خارج اللغة
أنظرُ إلى تلك الحشرات الصغيرة
وهي ترى من العالم شجرة واحدة،
فيما يرى بائع الخشب شيئاً آخر تماماً،
في الفروق الدقيقة تلك
يستطيع المرء أن ينظر إلى حياته
على أنها عبء
منشغلاً بترويض المياه
أو عائماً في التعرف على اسم الغيمة
حينها تصبح الأشياء الكبيرة
شفافة لدرجة ترى نقيضها
ففي الشيء نقيضه على الأغلب
لذا يمكن للشجرة
أن تصبح مادة أولية للقتل
بدلاً من أن تكون خضراء.

كما يمكن للزهرة التي في الحديقة
أن تصبح عجلة
تحمل عاشقين إلى السرير...
فيما تستمر الكلمات
بأخذ الشكل الأكثر نضجاً
عندما تتكور الحقائق.
في الغالب نحن ننشدُ للندرة،
نرجح كفة الأعالي على حلم الطائر
في أن يصبح خارج الرؤية،
نميل للمخاطرة لأننا تجار مجاز،
نميل لصنع الدهشة من أظفار الكلام
بينما تنمو حياة كاملة خارج اللغة.

كآبة زوجين من الأحذية
‎يفضّل الرّجل أنْ
‎يموتَ من الضّحك،
‎يموت في الحقيقة أو في ألعاب الفيديو
‎عندما تعيشُ زوجته
‎كلَّ تفاصيلَ الكآبة
‎في شكل الإناء أو السّرير،
‎لكنَّ درس النّسيان والتحليق
‎جعلَ ذلك القرد يلقي
‎زجاجَ وحدتهِ على الأرضية
‎فقبل حياته كما لو أنّها لا تعنيه،
‎عبر النّسيان يستطيعُ المرءُ
‎أنْ يكونَ محاطاً بنفسه،
‎وعبر التّحليق يمكنه
‎أنْ يمسكَ حالته الدائمة،
‎وسط ذلك كان يرى أنّها
‎ليستْ أكثر
‎من كآبة زَوجَين من الأحذية في ماكينة خياطة،
‎فهو يواصلُ ثقبَ المنزل بالتّبغ
‎بينما خيوط صوتها
‎تعبر سور الكآبة..

زهرة اصطناعية
لا شيءَ سيحدثُ
لن يتغير تعريفُ المادةِ ولا اسمُ الكوكب
حين يُعادُ تدويري مثلاً إلى زهرة اصطناعية
تضعينها في شقِّ الحائطِ
لن تنهارَ سمعةُ العائلةِ
ولا تنفعلُ حديقةُ المنزلِ
كلُّ ما يحدثُ هو أنني سأبدو قريباً
بمتناولكِ
والوقتُ سيفضحُ كلَّ شيء
أُحب أنْ أكونَ صحناً في مائدتِكم الطائلةِ
قدميني للضيوفِ أو ضعيني تحتَ الماء
شرطَ أنْ يكونَ ساخناً لتقعَ المكروباتُ
وبقايا الفضائل ولا يتبقى سوى البياضِ
الذي تواجهينَ به العالمَ
وحين تنزعجينَ تعالَي نوبِّخُ بعضنا
في زاويةٍ تبدينَ فيها
غيرَ قادرةٍ على الانفلاتِ
هكذا أصنعُكِ قريبةً دون قيودٍ أو معوقاتٍ
وعندما تحتاجينَ مسماراً لتثبيتِ الحياةِ
سيكونُ رأسي جاداً في اختراقِ الجدارِ
وعندما لا تحتاجينَ شيئاً
سأكونُ لا شيء يدَّعي الوقوفَ
ويمنعُ تسربَ الأشياء
وكما تقولُ أمي: ستكونُ يوماً ما مطيعاً لها
متناسياً أنَّ للسلالةِ تاريخاً طويلاً
في تركِ المرأةِ دونَ عنايةٍ
وها أنا أحملُ ذلك الذَّنْبَ الطويلَ
ذنباً تبادله الأجدادُ بالوارثة
أرجو أنْ نكونَ لطخةً في ثيابِ القبيلةِ
نتبادلُ القُبلَ على مرأى من الجميع
ونحترمُ العالمَ كأداةٍ جارحةٍ.

استنساخ
ها قدْ بدأ استنساخُ البشر
حقّاً هذه لحظةٌ فارقة
يقال إنّها مختبراتٌ عملاقة
وأجهزةٌ طائلةُ الصبر
تدقّقُ في الهوامش
العاطفة / الانفعالات
لا أعرفُ كيفَ
أقنعكِ بالذّهابِ إلى هناك
لأحصلَ على عددٍ من نسخٍ منكِ
واحدة تذهبُ إلى السوقِ
تطاردُ أسعارَ الخضارِ والأقاويلَ المنتشرةَ
وأخرى لأمّكِ وهي تؤنبكِ لأجلِ
فساتينكِ المنفعلةِ
وأضعُ نسخةً مصغّرةً في جيبي
عندما أودُّ الذهابَ إلى السريرِ أو المقهى ...
أمّا أنتِ ستبدين مخطوطةً مهملة
حينها قد يحققك الأحفاد
ويقولون: هذه الجدةُ الأصل
وغيرها مزور
تلاعبَ بها البشرُ عندما قرروا تحدي الإله
ستكونين رائعةً يملؤكِ التراب
ورأسُكِ مائلٌ للهذيان
تُعنِّفين الجميعَ لأجلِ مدينةٍ تعددتْ أسماؤها
ستكونين مخطوطةً مهمة
لو حظي الأحفادُ
بدراسةٍ موسَّعةٍ عن النساء
اللواتي يتكاثرنَ بالشجارِ
ويتأرقن جرّاءَ العُرف
النساءِ الفاتناتِ لدرجةِ الخمرِ
المتسخاتِ بالجديةِ والعاطفةِ
حينها سيعرفُ الجميعُ لماذا كنتُ أُحبُّكِ.

خبز أم دراجة
لستُ
عبد الأمير جرص
كي أجرّبَ الموتَ
من أعلى دراجةٍ هوائية،
ولستُ
عقيل علي
كي أعجنَ الحياةَ في نصٍّ شهيّ
أنا فتى صغير
في إحدى مدنِ العالمِ الدائرية
يركبُ دراجةً ويحملُ خبزاً
ولا يدري ما إذا كان هذا
خبز عقيل
أم دراجةُ جرص.

(*) قصائد مجتزأة من ديوان أول بالعنوان نفسه صدر أخيراً عن «دار الرافدين»، بيروت.

(**) العراق