هكذا تبدأ شخصيات الرواية بالتبلور واحدة تلو الأخرى أوّلها الوالدان ثم الأخ الأكبر فؤاد وهو الراوي الذي لازم أسمهان في معظم سنوات حياتها، سارداً الأحداث من وجهة نظره، كأخ وضعتهُ الظروف المريرة مكان الأب الغائب، فبات الآمر الناهي، وهو المحافظ جداً والمتمسك بعادات وتقاليد الجبل، الرافض لكلّ ما من شأنه المسّ بسمعة و«شرف» العائلة. أما الأخ الأوسط فريد الملحّن والمطرب المعروف، الذي كان يرى في أسمهان توأمه الروحي والفني، فكان حائراً في مواقفه ما بين التحفّظ تجاه بعض سلوك أسمهان، ودعمه لها لخوض غمار الفن والمجد والتألق. بعدها تظهرُ رحلة الشخصية الخامسة والأساسية أي أسمهان في ثلاث مراحل: إقامتها في القاهرة متمثّلة بطفولتها وعلاقتها بأمها وشقيقيها، وتكرّ الأمثلة شارحة بعضاً من مشاكساتها ودهائها، وجمالها الطاغي والمؤثّر، وشخصيتها القوية، وكرمها اللامحدود رغم الفقر الشديد الذي عانته الأسرة، وصولاً إلى شقّ الطريق نحو الفن مع زيارة داود حسني إلى منزلها وانبهاره بموهبتها لدى استماعه لها، وتعهّده بتبنّيها (هو من أطلق عليها اسم أسمهان) قبل أن تعتلي منبر الأوبرا وهي في الخامسة عشر من عمرها، وتتعاقد مع شركة «كولومبيا».
صدر الكتاب بطبعته الأولى عام 1962 أي بعد حوالى عقدين من وفاتها
كنتيجة طبيعية لإعجاب الجماهير الشديد بالفنانة الصاعدة وإقبال الصحافيين والفنانين والمنتجين عليها، بدأت بوادر الاتجاه نحو خطبتها تلوح في الأفق، ما استدعى خشية فؤاد الذي لن يقف متفرجاً حيال زواج أخته من «الغريب»، والغريب لديه كلّ من لم يكن من الدروز. إثر هذا التطور في مسيرة أسمهان، عزم فؤاد على تزويجها من أحد أقربائها، فتصدّى لهذا الواجب ابن عمه الأمير حسن الأطرش، وكان لفؤاد ما أراد. مع زواج الأميرة من الأمير، تبدأ المرحلة الثانية من حياة أسمهان. تتخلّى عن فنّها، وتغدو الأميرة المعطاءة، والزوجة الرزينة، والحاكمة العادلة، والسياسية الحذِقة المحبوبة من رعاياها في الجبل، كما جاء في الكتاب: «وصارت ذات الصوت الرقيق تصدر الأحكام وتطبق شرعة الدروز، وغدت الفتاة الرقيقة ذات الثمانية عشر ربيعاً امرأة قوية، يحسب لها الفرنسيون حساباً، ويجلها شيوخ القوم ويتناقل شبابهم أخبارها بهالة من الإكبار والإعجاب».
المرحلة الثالثة من حياة الفنانة الجميلة تنطلق مع استعار هواجسها تجاه الحبّ والمتعة والشغف بملذات الحياة. إلا أن الدافع وراء قرارها بختم قصتها في الجبل بالشمع الأحمر والعودة إلى القاهرة له ثلاثة عوامل: أولها، زيارة منجّم للأسرة عشيّة سفرها إلى الجبل للزواج من حسن، وقوله لها: «سترتفعين إلى القمة وتحكمين الناس. ستنجبين ثلاثة تعيش لك منهم بنت واحدة، وستموتين في الماء وأنت في ريعان الشباب». فعلاً، حملت أسمهان ثلاثاً ولم تُنجب سوى ابنة واحدة أسمتها كاميليا. هكذا لازمتها النبوءة كظلّها، وصارت لديها بمثابة قدر محتم. فلمَ لا تستمتع بحياتها كما ترغب في ما تبقى لها من سنوات؟ لذا احتلّت فكرة العودة إلى الفن وترك الإمارة والبحث عن الحبّ نفسها، وقررت استغلال كل ثانية من الحياة التي ستفقدها في ريعان الشباب. أما الحادثة الثانية فهي لجوء فتاة وشاب أحبّا بعضهما حتى الموت إليها لتفضّ نزاعهما مع أهل الفتاة، فانتصرت لحبّهما بعد ما لمسته من مشاعر، رغبت أشد الرغبة لو تحياها. الحادثة الثالثة هي لقاؤها بالدكتور بيضا «صاحب شركة بيضافون» في دمشق، الذي ألّب مواجعها، وأشعل جمر الرغبة لديها في العودة إلى الفن والشهرة.
تعود أسمهان إلى القاهرة امرأةً أخرى، وشخصية لا تشبه الشابة التي غادرتها منذ سنوات، متباينة إلى حد التناقض. ثأراً من إجبارها على الزواج ودفن رغبتها في المضي في درب الفن، تسعى أسمهان وراء السهر الطويل مع الأصدقاء والشرب حتى الثمالة، وتغرق في طاولات الليل مقامِرةً، حتى تستنفد كل ما تملك، وبعد كل محاولات الأسرة في ردعها عن هذا السلوك، يقرر فؤاد طردها. لا ينهي القطيعةَ بينها وأسرتها سوى المهمة التي كُلّفت بها من قِبل الحكومة البريطانية، في استمالة الدروز لضمان عدم مقاومتهم قوات الحلفاء الهادفة إلى احتلال سوريا، وقد اتُّهمت حينها بالخيانة. لكن ما الذي يدفعها إلى الصحو من السكر ومواجهة الموت وجهاً لوجه؟ يخبرنا الكتاب قولها: «لست جاسوسة يا فؤاد لأن سلامة قومي هي التي تُملي عليَّ ما أنا مُقدمة عليه! (...) سيحتل الحلفاء سوريا، سواء هادناهم أو عمدنا إلى قتالهم، فإذا هادناهم سهلت عليهم المهمة وكان هذا حقناً لدمائنا»، هكذا فكّرت. تنجح أسمهان في مهمتها بعد رحلة محفوفة بالمخاطر، وتغدو ذات حظوة من الإنكليز والفرنسيين أيضاً، وتكاد تتصل بالألمان لولا انكشاف أمرها لاحقاً من قِبل الحلفاء. متنقلة ما بين القاهرة وبيروت ودمشق والجبل، لاحقَ الموت أسمهان خلال رحلتها، تارةً بحوادث عرضية، وأخرى متعمَّدة كمحاولات انتحارها أربع مرات. عاشت حياة المتناقضات ما بين الثراء الفاحش والفقر الموجع، المحافَظَة والتفلّت، اللامبالاة والمسؤولية، وقمة المجد في الفن، في حوالى ثلاثين عاماً. كل ذلك إضافة إلى زيجاتها الثلاث وعلاقاتها بالضباط والفنانين ولا سيما أم كلثوم، والعائلة الملكية في مصر، بخاصة الملكة نازلي والدة الملك فاروق، وتفاصيل أخرى يخبرنا بها الكتاب.
رحلت أسمهان كما رسم لها العراف نهاية رحلتها، القصيرة زمنيّاً، العظيمة سيرةً، رغم تقلباتها وتناقضاتها، تاركةً اسماً لا يُنسى وصوتاً لا يزال يحتلّ صلب ذاكرتنا. ومن عجائب الصدف التي ختمت مسيرة بطلة الرواية أنها توفيت في عيد ميلاد ابنتها يوم كان فؤاد في الجبل يخطّط للضغط عليها عبر أوراق رسمية تُجيز له طردها من القاهرة، أو قتلها... وأنّ سائق العربة التي غرقت في ترعة المياه هرب ولم يُعرف عنه شيء حتى اليوم. «قصة أسمهان» يعرّفنا إلى تفاصيل حياتها ويغيّب عنا معرفة حقيقة نهاية نغمات انطفأت في تاريخ صبغهُ الغموضُ ولا يزال.