ربط السير الشخصية لأبطال هذه الرواية الصادرة في ألمانيا عام 2007 مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كان مُذهلاً من ناحية مرورها في صلب الحكاية من دون تنميط تقليدي. بل على العكس كانت جمالية السرد والبناء الروائي المتشعب تتشابه مع شخصية الراوي «كريستوفر» الهارب من واقعه بعد فقدانه وظيفته في مكتب «لان» للهندسة المعمارية ورغبته في البدء بعمله الخاص، وأيضاً بعد انفصاله عن حبيبته «سوزانا» الراغبة بتأسيس عمل لها في نيويورك، بطريقة يبدو معها أن كل المرارات التي يعيشها، بما فيها إصابة والده بجلطتين دماغيتين، ما هي إلا بعض التأثيرات الجانبية للتبدل في النظام الاجتماعي الحاصل. وما السُّبات أو الغيبوبة التي يُعاني منها والده إلا ذريعة روائية للعودة إلى الذات وإعادة اكتشاف الأب كمفهوم أعلى بالمنطق الاجتماعي أكثر منه كواقعة فيزيولوجية.
يندرج وفق ذلك كلام الأم لكريستوفر في بداية الرواية «اعتقدت أنك ستقتله». هذه الجملة كانت كفيلة بتعزيز لعبة السَّرد وتتبُّع الدَّوافع التي قد تُرغِم الابن على إنهاء حياة والده خلال عنايته به، لنكتشف في النهاية أن الفكرة من أساسها لم تخطر في باله. وليس لقاؤه بعشيقة أبيه السويسرية، ومعرفته بوفاة أخته غير الشقيقة إلا فرصة للبوح غير التقليدي عن علاقته بأبيه الذي لم يشعر معه مرة واحدة بطبيعية العلاقة. يقول كريستوفر عن أبيه: «سقط أبوه قتيلاً ولم يعرفه على الإطلاق، شأنه شأن كثيرين من أبناء جيله، ربما لهذا السبب أيضاً لم يعرف معنى الأب بالنسبة للطفل، لأنه هو نفسه لم يعرف ذلك، لم يعرف ما هو الأب».
ينعى المرحلة الشيوعية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية
الغوص في أعماق النفس البشرية ومحاولة رصد تحوُّلاتها عبر التاريخ العائلي لأسرة «فيلهيلم» هو ما اشتغل عليه الروائي الألماني زاندر، دافعاً كريستوفر لأن يُعيد معمارية العلاقة مع والده بطريقة غير متوقعة. فرغم أنه يوافق صديقه «روبرت» في تهكُّمه على عائلته بأنها «أسرة شيوعية-رأسمالية مع فرع في سويسرا الحيادية»، ورغم رفضه لأي حزن قد يُصيب أمه إن علمت بعلاقة والده القديمة مع السويسرية، إلا أنه بسبب دافع دفين كان يخشى على والده من الوحشة التي يعيشها في حالة سبات ضمن غرفة يستمر فيها بالنظر إلى الجدران. ولإزالة تلك النظرة الثاتبة وتحرير أفق الرؤية، قرر مع الممرضة البلغارية وعازفة التشيللو أن يخترق السائد ويصطحب والده برحلة إلى مكان يحبه، ولو كان يبعد 100 كم عن منزلهم في شتيفين، لتكتمل دائرة السَّرد التي جعلتنا نتتبَّع دوافع جريمة لم تتم من الأساس، بل كانت خدعة روائية أوقعنا بها زاندر منذ الصفحات الأولى لروايته ذات الـ163 صفحة والتي تعكس انقلابات مجتمعية في فترة تزيد عن النصف قرن بقليل.