ليست الذكريات التي يستعيدها شوقي أبي شقرا (1935) بتلك الطراوة الريفيّة في مذكّراته «شوقي أبي شقرا يتذكّر» («دار نلسن» و«مجلة الحركة الشعرية في المكسيك») إلا قصيدة أخرى طافحة بالدهشة. الشاعر اللبناني يكتب كمن يعرّي حيوات بأكملها؛ «كلمتي راعية وأقحوانة في السهول ولا تخجل أن تتعرى» تتصدّر العبارة غلاف الكتاب الذي وقّعه أخيراً في بيروت.
المدينة التي خرج اسمه فيها ذات يوم من «أكياس الفقراء» (باكورته الشعرية ــ 1959). يفرط أبي شقرا حياته دفعة واحدة، بتوقّد يكاد ينتزع عنها تماماً صفة الماضي، لولا الوجوه والأمكنة الغائبة التي تطلّ عليها هذه الوثيقة الشعرية. هذه صور ومشاهد تجري أمامنا، في رشميا وعاريا وعند ركبة الأم. في المنزل الجبلي والحقول ولدى العائلة. يتنقّل بخفر بين تلك المناطق وصولاً إلى بيروت. يعيد لنا أبي شقرا حداثة المدينة المبتورة مجدداً؛ جلسات «جريدة النهار»، وخناقات الشعراء في «مجلة شعر» وخمائسهم. وهو بذلك يستجمع لحظات كثيرة، ويبعثها من دون أن يغيّب وجهاً واحداً في الصحافة والأدب والمسرح، والموسيقى والنقد والشعر طبعاً. «رفاقه»، كما يحب أن يسميهم، حاضرون كلهم؛ محمد الماغوط، وأنسي الحاج، وصباح زوين، ويوسف الخال وفؤاد كنعان؛ يدعوهم إلى مائدته. وعبرهم ينفلش الكتاب لينبش لحظات حميمية وعلاقات صنعت الفترة الذهبية للثقافة والشعر في بيروت. تتلوّن علاقته بالكلمة وتتبدّل في الكتاب؛ «الكلمة هي الداء تنقذني وتحرسني»، يقول مطلع الفصل الرابع. وإذ يستعيد هذا السيل من اللحظات والأيام في المؤلف، فإنه يرجعنا إلى مقتبل قصيدته وبدايتها.